شاهيناز أبو ضيف المؤانس تكتب: هل كُتب عليه للمسيحيين فقط؟

شاهيناز أبو ضيف المؤانس تكتب: هل كُتب عليه للمسيحيين فقط؟
شاهيناز أبو ضيف المؤانس تكتب: هل كُتب عليه للمسيحيين فقط؟

 في الحرب العالمية الأولى وقعت مجاعة "سفر برلك " وكلمة السفر برلك تعني «الحرب الأولى»، تعني النفير العام، تعني الترحيل الجماعي وتعني أيضاً المجاعة،قام الأتراك في تلك الفترة الزمنية زمن السفر برلك، بإعلان النفير العام للحرب، عندما دخلت تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء وكانت تحتاج إلى عدد كبير من العسكر كوقود بشرية لأتون حربها ومارس عسكرهم سطوتهم بمطاردة الشباب السوري، ليتم إرسالهم إلى ساحة الوغى في أصقاع أوروبا والبلاد العربية، وعرف عند أهل الشام أن من يذهب لساحات تلك الحرب نادراً ما يعود. ولا أحد يعرف في أي جبهة عسكرية قد حارب، ولا أين مات أو دفن؟ وكانت الأسرة التي يؤخـذ أحد شبابها للحرب، تنعاه مباشرة وتبكيه على المصير الذي ينتظره لأنه بمجرد سوقه لحرب «سفر برلك» يعتبر مفقـوداً، وهنالك العديد من الأسر كانوا يسيرون وراء أولادهم المجندين للحرب يبكون ويُوَلولون وتذوب عيونهم من كثرة البكاء،وكان الشباب المجندين قسراً لحروب العثماني لا يعرفون أين هم ذاهبون وعلى أي أرض سيقاتلون، كانوا يضعونهم على جبهات القتال لا يعرفون في أي أرض هم، ففتحت البطريركية الأرثوذكسية في دمشق أبوابها لإطعام الجياع والوافدين من بيروت دون تمييز بين دين او مذهب، وارتفع سعر القمح كثيرا فاضطر البطريرك غريغوريو- والذي ولد في في دمشق في 9 أيار سنة 1869 من عائلة أرثوذكسية تقية، لقنته حب الكنيسة، والوطن واحترام الأديان الأخرى أدخله والده للدراسة في "المدرسة الآسية" التي كانت تُدعى بالإضافة إلى "الآسية" بالمدرسة الأرثوذكسية الكبرى، حيث استمر إلى عام 1880.-واضطر البطريرك الى رهن أوقاف البطريركية والأديرة كلها وباع مقتنيات وأواني الكنائس الذهبية والفضية ليشتري القمح كي ينقذ الناس من شبح المجاعة القاتل ؛وكان كل من يمر على الكنيسة المريمية يأخذ رغيفاً من الخبز يقيه الموت ،وفي أحد الأيام إشتكى الخوري الذي يوزع الأرغفة من كثرة عدد المسلمين فرفع البطريرك الرغيف وسأله؛ هل كُتب عليه للمسيحيين فقط؟ فأجابه: لا ،فَقَال: عليك توزيع الخبز بمعدل رغيف يومي لكل من يريد..وتدريجياً لم يبق شيئ من أملاك البطريركية لم يتم رهنه،وفي أحد الايام طلب متسوّل من البطريرك حسنة فساله أحد الإكليريكيين المرافقين له عن طائفته ، فإنتهره البطريرك قائلاً: هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من طائفة غير طائفتك؟.

ألا يكفيه ذُلاً أنه مدّ يده اليك لتُذِلَّه بسؤالك عن عقيدته؟! كما ذُكر عنه أنه كان في أحد الأيام زمن الحرب العالمية الأولى "السفر برلك" خارج الكنيسة، فالتقى بعدة نسوة مسلمات فشكين الجوع له قائلات: "نريد خبزاً يا أبا المساكين. نريد خبزاً لأطفالنا الجائعين!"، فعاد أدراجه إلى دار البطريركية وأمر بأن توزّع عليهنّ المؤن من البطريركية، ثم قفل على نفسه راكعاً يصلي بين الساعة الرابعة من بعد الظهر والحادية عشرة ليلاً. ولما جاءه طبّاخ البطريركية عارضاً إعداد بيضتين مقليتين بالسمن مع رغيف وقطعة حلوى، أجاب: "لا يليق بي أن آكل وغيري يتضوّر جوعاً!"، ثم أمر بأن يُعطى طعامه لأول فقير يمرّ بالبطريركية في الغد"،ومن القصص المؤثرة التي تدل على تسامحه وتأثره بالقرآن الكريم أنه كان في دمشق شيخ بدمشق يدعى "محمد شميسم" وهو أحد حفظة القرآن الكريم، وكان ضريراً ورخيم الصوت، جاء يشكو للمطران "غريغوريوس" أحد أبناء رعيته بديْن له عنده، فطيّب المطران خاطره ووعده بتحصيل دينه شريطة أن يتلو على مسامعه سورة "مريم".

فلبّى الشيخ شميسم الطلب وتربّع متأدّباً وأخذ يتلو بصوته الجهوري الجميل السورة الكريمة حتى أنهاها... ويقول مرافق الشيخ الضرير أن دموع الخشوع أخذت تنهمر من عينيّ المطران "غريغوريوس" على لحيته وتتساقط منها على صدره، وبعد أن انتهى الشيخ من التلاوة قام المطران إلى غرفته الخاصة وأحضر المال المطلوب للشيخ شميسم ودفعه له وفي عام ١٩٢٠، إثر مؤتمر دمشق الذي نادى باستقلال سوريا الطبيعية وبايع الأمير فيصلاً ملكاً عليها،. ولما رجحت كفّة الفرنسيين واضطر فيصل الى أن يبرح دمشق في نفس العام نفسه كان غريغوريوس الوحيد الذي خرج لوداعه حفظاً للعهد وثباتاً على العقد.حيث قال له: "إن هذه اليد التي بايعتك ستبقى على العهد إلى الأبد".

فما كان من الملك فيصل سوى أن قبّلها باكياً ،ورثاه الشيخ (مصطفى الغلايني) بقوله: نعيتُ إلى أمي العجوز نبأً مفاده: لقد أصاب العرب مصاب عظيم أليم ... فأجابتني: هل مات البطريرك ابو الفقراء ؟،وتوفي عام 1928 فنقل جثمانه بموكب نادر المثال، من بلدة سوق الغرب إلى بيروت حيث عُرض للتبرك في الكاتدرائية. ثم نقل إلى دمشق على عربة مدفع،وشارك في تشييع جثمانه 50 ألف مسلم أرسل الملك فيصل الاول مائة فارس من الخيالة الى دمشق ليشاركوا بمراسم التشييع،واطلقت الحكومة السورية مائة اطلاقة مدفع حال وصول جثمانه الى سورية ،وبكاه المسلمون قبل المسيحيون وكانوا يلقبوه ب "أبي الفقراء".