أخبار عاجلة

حسنى حنا يكتب: جمعية العاديات.. واحة ثقافية في الربوع السورية

حسنى حنا يكتب: جمعية العاديات.. واحة ثقافية في الربوع السورية
حسنى حنا يكتب: جمعية العاديات.. واحة ثقافية في الربوع السورية

"لن نبالغ في شئ إذا قلنا ان حلب هي أقدم وأعرق مدن الدنيا"

Jean Sauvaget

 

تعتبر جمعية العاديات Al Adeyat Archaeological Society أهم الجمعيات الفكرية والثقافية، التي تقف منتصبة، تؤدي دورها في خدمة الفكر والثقافة في سوريا. تلم شمل المثقفين والباحثين الحريصين على تقديم نتاج عقولهم، وإبداعاتهم الفكرية. من خلال الندوات والمحاضرات التي يساهمون بها. وقد أضافت هذه الجمعية بعداً اجتماعياً رائعاً من خلال الجو الأسري. الذي يعيشه أعضاؤها، ومن خلال الرحلات التي تقوم بها، والحفلات والأمسيات الشعرية والقصصية والفنية. حيث تولدت الإلفة والمحبة والصداقة بين اعضائها فأصبحت "اسرة العاديات".

 

ولادة الجمعية وتسميتها

كانت جمعية العاديات من أقدم الجمعيات في البلدان العربية، التي أخذت على عاتقها، مهمة الحفاظ على الأوابد الأثرية، وتراث الوطن والتعريف به ونشره. وهي لم تتوانى في ذلك، حيث يتبارى أعضاؤها من مختلف الطوائف والملل في وحدة وطنية لامثيل لها في توعية الأجيال الناشئة، وتعريفها بتاريخها وثقافتها وحضارتها.

في مدينة حلب Aleppo العريقة، ولدت جمعية العاديات في الثاني من شهر آب August عام 1924 عندما تداعت مجموعة من ابناء المدينة، بمبادرة من الشيخ كامل الغزي. تدعو للحفاظ على تراث المدينة، وتأسيس جمعية تحت اسم (أصدقاء القلعة) ولما كان هناك سعي، لإنشاء متحف في بهو القلعة. فقد أصبح أسم الجمعية (جمعية أصدقاء القلعة والمتحف) وقد كان من بينهم الشيخ كامل الغزي.. الأب جبرائيل رباط –الشيخ راغب الطباخ – الشيخ عبد الوهاب طلس- الأب جرجس منش- المهندس مظلوم. وكان معهم الفرنسي (دو روتر) مفتش الآثار.

وقد تحول اسم الجمعية إلى (جمعية العاديات) عام 1930 باقتراح من رئيسها الشيخ المؤرخ العلامة كامل الغزي.

وجاءت تسمية (العاديات) نسبة الى (عاد) وهم شعب عربي قديم قطن في شبه جزيرة العرب. وذلك للدلالة على ماهو قديم أو راسخ في القدم من البشر وآثار حضارتهم (انظر القلقشندي: صبح الأعشى ص 313- 315) زلكن القدم الذي نعنيه هنا هو القدم الذي لايفنى. بل هو حاضر في الوان التراث المتعددة عمارة وفكراً، وعيشاً اجتماعياً متناغماً يندرج كله في إطار الحضارة المتميزة، التي غذتها الينابيع والروافد، عبر آلاف السنين. والتي التقت في محيط الحضارة بعمقه واتساعه وشموله.

 

ملامح عن تاريخ الجمعية وتكوينها

أصدرت (جمعية العاديات) العدد الأول من مجلتها في شهر آيار May  عام 1931 بصورة شهرية تحت اسم (مجلة العاديات السورية) التي بقيت تصدر حتى عام 1940 حيث توقفت بسبب الحرب العالمية الثانية.

وقد استعادت الجمعية نشاطها في عام (1950) برئاسة الدكتور عبد الرحمن الكيالي. وفي عام 1959 أعيد تنظيم الجمعية، وتم اعتماد نظامها الداخلي. ومنذ عام 1975 شرعت الجمعية بأصدار كتاب سنوي باسم (عاديات حلب) بالتعاون مع جامعة حلب، التي تتولى طباعته مشكورة.

وتعمل الجمعية من خلال مجلس إدارة يتم انتخابه ديمقراطياً كل سنتين ويتألف المجلس من تسعة أعضاء، ينتخبون رئيساً ونائباً للرئيس ويمارس المجلس نشاطه من خلال عدد من اللجان منها:

-اللجنة الثقافية: تتولى المحاضرات الأسبوعية والندوات وبرنامجها السنوي.

-اللجنة الاعلامية: ومهمتها اصدار مجلة العاديات السورية وتغطية أنشطة الجمعية، والاتصال بوسائل الاعلام المختلفة.

-اللجنة الاجتماعية: وتنبثق عنها لجنة العلاقات العامة ولجنة المعارض.

-لجنة الكتاب السنوي: ومهمتها تهيئة المادة العلمية للكتاب والإشراف على طباعته وإخراجه.

-لجنة الرحلات: وهي التي تنظم الرحلات الأثرية العلمية داخل سوريا وخارجها.

-لجنة الأدلاء: ومهمتها تقديم النشرات اللازمة للزيارات الأثرية والرحلات والقيام بالشرح الأثري والعلمي خلال الرحلات.

 

أعضاء الجمعية وأعلامها

تضم الجمعية منذ نشأتها عدداً كبيراً من الأعضاء، يتوزعون على الشرائح الثقافية العليا في المجتمع. من اساتذة جامعيين زمؤرخين وآثاريين ومهندسين وأطباء ورجال قانون واقتصاد، وأدباء وفنانين وغيرهم من الفعاليات الفكرية، بحيث تغدو بهم الجمعية الوجه الثقافي والتراثي لمدينة حلب خاصة، وسوريا بشكل عام.

وقد عرفت الجمعية خلال تاريخها الطويل، منذ عام 1924 كثيراً من الأعلام والمفكرين، والمؤرخين والباحثين، منهم على سبيل المثال: الشيخ كامل الغزي الرئيس الأول للجمعية –الأب جبرائيل رباط المربي والأديب والرئيس الثاني للجمعية – الشيخ راغب الطباخ المؤرخ والرئيس الثالث للجمعية – الدكتور عبد الرحمن الكيالي الرئيس الرابع للجمعية – الدكتور أدولف بوخه الرئيس الخامس للجمعية.

ومن رجالات الجمعية: جبرائيل غزال – سعد زغلول كواكبي الرئيس السادس للجمعية- الباحث د.عمر دقاق – الشاعر عبد الله يوركي حلاق صاحب مجلة الضاد –الباحثة عائشة الدباغ- الأديب خليل هنداوي –الأاب جورج سالم وغيرهم.

 

من أنشطة الجمعية

شهدت جمعية العاديات نشاطاً مرموقاً متميزاً في عهد الدكتور عبد الرحمن الكيالي، في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. الذي كان يهتم كثيراً بأعمال الجمعية، والحرص على حضور جلسات الهيئة الادارية، وتنظيم برنامج المحاضرات، ودعوة أعلام التاريخ في سوريا ولبنان لالقاء المحاضرات في حلب. ومنهم المؤرخ د.أسد رستم استاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت. والمؤرخ الشهير عيسى اسكندر المعلوف وغيرهما...

وإنتخبت الجمعية الدكتور (أدولف بوخه) رئيساً لها خلفاً للدكتور الكيالي. وهو طبيب من أصل نمساوي مولود في مدينة حلب. ورغم انشغاله بمهنته الطبية وكبر سنه، كان يخصص الكثير من وقته لاستقبال العلماء والرحالة والمستشرقين، الذين يزورون حلب في داره الآثرية. وقد كان يخصص يوماً كاملاً من كل اسبوع للاطلاع على أعمال الجمعية. ولقاء الهيئة الادارية في داره. وعند انتهاء مدة رئاسته سمته الجمعية (الرئيس الفخري لها) مدى الحياة.

اضطرت جمعية العاديات، إلى توقف اعمالها بعد قيان الحرب العالمية الثانية لكن سرعان ما أستعادت نشاطها في اوائل الخمسينات من القرن الماضي.

ومازالت الجمعية جادة في تحقيق أهدافها النبيلة في خدمة الثقافة والتراث. وزرع روح التفاهم والتآلف والمحبة. في قلوب المواطنين وهي تضم اليوم رجالاً صادقين مخلصين. ساعين لازدهارها والعمل على تحقيق أهدافها.

وفي عام 1999 شهدت قاعة العرش فيقلعة حلب احتفالاً كبيراً في الثاني من شهر آب، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الجمعية. وقد استمر الاحتفال أسبوعاً شهد العديد من المحاضرات وإقامة معرض للتراث وحفلات فنية، ولقاءات تعارف وغيرها.

 

مدينة حلب وقلعتها

من أقدم مدن العالم، التي ماتزال قائمة الى اليوم. وقد قال عنها العلامة الفرنسي Jean Sauvaget: "لن نبالغ في شئ إذا قلنا أن حلب هي أقدم وأعرق مدن الدنيا. وأنه ما من حاضرة مسكونة ومزدهرة في عالمنا المعاصر، تستطيع أن تفتخر بتاريخ يوازي تاريخها وتراث يضاهي تراثها".

ويصفها الأديب عباس محمود العقاد بأنها "مدينة مخدومة" وذلك لأنه قد توفر لها من أبنائها من يكتب عنها ويؤرخ لمسيرتها الحضارية عبر العصور، من شعراء وأدباء وعلماء ومؤرخين وغيرهم.

إنها حلب الشهباء بحجارتها البيضاء التي تحمل عبق التاريخ. حلب العريقة التي كانت مركزا للتجارة العالمية عبر القرون، وصلة الوصل بين قارتي آسيا واوروبا التي كانت تستقبل آلاف القوافل القادمة اليها من شتى الأماكن، تحمل الحرير والتوابل والأقمشة والعطور والصناعات اليدوية المختلفة.. حلب التي عرفت كل الشعوب القديمة، وأشتهرت في كل انحاء العالم. وقد ذكرها Shakespeare مرتين في مسرحياته.

فرع الجمعية في اللاذقية

لجمعية العاديات فروع في عدة مدن سورية منها فرعها في اللاذقية وهو فرع نبيل من الجذع الأصيل، تأسيس عام 1976 بمبادرة من الباحث والعالم الأثري (جبرائيل سعادة) وهي يشكل اليوم علاقة مميزة، في المشهد الثقافي والاجتماعي للساحل السوري. وقد تطور نشاطها الثقافي ليشمل موسماً يمتد على مدى أشهر بمعدل محاضرتين كل شهر.

بدأ فرع جمعية العاديات في اللاذقية نشاطه الفعلي في مطلع عام 1977 بجهود الأعضاء المؤسسين وهم: (جبرائيل سعادة – انور مرقص – رجاء هارون – صفوان زين – نهى عوض – نورما رباحية – مارك مرقص – جان هدايا وأسامة صوفي)..

ومن أعضاء الجمعية البارزين وأوائل المنتسبين منذ عام 1977: راؤول فيتالي – رياض أزهري – غادة رباحية – سعد أزهري – ياسر صاري وكاتب هذا المقال.

ولما لم يكن للجمعية عند تأسيسها مقر ثابت. فقد جعل العلامة الأستاذ جبرائيل سعادة من منزله مقراً مؤقتاً للاجتماعات والقاء المحاضرات لعدة سنوات حتى تم تأمين مقر دائم لها.

ومن أنشطة الجمعية في مدينة اللاذقية، تنظيم رحلات سياحية اطلاعية الى العديد من المناطق والمواقع الأثرية في سوريا، والقيام برحلات خارجية. إضافة الى حفلة تعارف سنوية. تستقبل فيها الجمعية وفوداً من المهتمين بالتاريخ والآثار والتراث.

وفي عام 1979 بمناسبة مرور خمسين عاماً، على اكتشاف مدينة أوغاريت Ougarit في شمال مدينة اللاذقية وبمبادرة من الأستاذ جبرائيل سعادة تمت إقامة معرض خاص كان له فيه الاشراف وإعداد المادة العلمية وكان لي إنجاز الرسوم والمصورات واللوحات الخاصة بهذا المعرض.

وبهذه المناسبة أيضاً، أصدر الأستاذ جبرائيل سعادة كتاباً هاماً باللغة الفرنسية التي يتقنها عن هذه المدينة وما تم فيها من اكتشافات أثرية أثارت انتباه العالم. وقد جاء تحت عنوان:

(Ougarit: Metropole Cananeenne)

أسهمت فيه بوضع الرسوم والمخططات الجغرافية والطبوغرافية وغيرها وفي عام 1982 قمت بمرافقة الأستاذ جبرائيل سعادة في دراسة مجموعة التلال الأثرية الممتدة على طول المجرى الأدنى لنهر وادي القنديل شمال مدنية اللاذقية بين قرية السرسكية ومصب النهر في البحر المتوسط.

وقد زاد عدد أعضاء فرع جمعية العاديات في اللاذقية زيادة كبيرة، ومازالت الجمعية تعمل على الاتصال مع الجمعيات الأثرية التاريخية الأخرى. ومع بعثات التنقيب الأثري في الساحل السوري، والتعاون مع جامعة تشرين باللاذقية ومتحف اللاذقية ومع مديرية السياحة عن طريق اقامة محاضرات وندوات فكرية مشتركة وقد حرصت الجمعية على أن يكون لها ممثل في مجلس مدينة اللاذقية لما يتعلق بالآثار والسياحة والمحافظة على الاماكن الأثرية والسياحية والتعريف بها.

وبعد كل هذه السنين.. لم تزل جمعية العاديات شابة تعمل على تأسيس وترسيخ حب الوطن والاعتزاز بمآثره.

وإن كان المؤسسون الأوائل من طبقة اجتماعية معينة واعية ومثقفة من مختلف الجهات والاتجاهات يمثلون التنوع الثقافي والاجتماعي في حلب وغيرها. هذا التنوع هو الذي رسم خط جمعية العاديات. إلا أن الوعي امتد الى طبقات المجتمع الأخرى دون استثناء ولم يعد حب الآثار ترفاً تتمتع به نخبة واحدة من المجتمع. وأصبح باب الجمعية مفتوحاً لكل من له اهتمام بالتاريخ والآثار.

وكلنا أمل في أن تستقطب جمعية العاديات المزيد من الكفاءات العلمية والفنية في سوريا، ورائدها في ذلك رفع راية الثقافة. ومن حظ جمعية العاديات انه قد كتب عليها الاستمرار من مقام رفيع الى مقام أرفع.

وهنا لابد من توجيه تحية مودة وشكر وتقدير الى رئيس جمعية العاديات الصديق العلامة الأستاذ محمد قجة. الذي نذر نفسه لخدمة الجمعية والعلم والمعرفة في نطاق الوطنية الحقة.

وتبقى جمعية العاديات وجهاً ثقافياً تراثياً فريداً يعكس صورة الوطن وتبقى منتدى للفكر والآثار الخالدة والتاريخ القديم المتجدد وتبقى تعمل لمصلحة الوطن والأمة. تلتقي في ذلك مع كل المواطنين العاملين المخلصين في هذا الميدان. لأل