إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السابعة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السابعة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السابعة)

       كَّرة ثانية بقلب واجف قام بها سليم إلى معهد السينما ، متمنيا ألا تخذله شجاعته للتقدم والتحدث مع فتاته نادية كالمرة السابقة ، أمل  يرجوه ولا يعلم إن كان سيستطيع الاقتراب منه أم سيظل يلاعبه عن بعد ، كانت عيناه كمصباحي السيارة الأماميين ، يقلب نظراتهما من البعيد للقريب ومن القريب للبعيد ، ليتمكن من استخلاص ناديه من وسط أفواج فتيات المعهد ، المتباريات في كشف ما يمكن كشفه من خلال أحدث تقاليع الموضة ، وجوه انسكبت عليها ظلال كل الألوان ، لتصنع منها وجوها تقليدية لممثلات عالميات ، كل واحدة  تظن أنها أصبحت نجمة النجوم لمجرد التحاقها بالمعهد . تزايد ركض الفرس القابع داخل قلبه عندما رأها قادمة ، يسبقها نهدان شامخان ، وسكرات من عطرها الذي كان يتركه في شبه اغماءة عندما كانت تخطر أمام دكانه . استنفر كل ذرة شجاعة خُلقت في بدنه لتعينه على مواجهة العينين النائمتين الثائرتين . خرج من مكمنه وهو لا يعلم عن خطواته شيئا ، كيف يعلم وهو لا يدري أين قدميه ، كان يظن أن الإنسان له إرادة التحكم في جميع أجزاء جسده ، لكنه الآن يستصعب هذه النظرية وهو يشعر بهما تعلنان معصية أمره ، تسحبانه إلى داخل دوامة عميقة ، سرعان ما سيدور معها لتبتلعه ويختفي للأبد . إذا أتت النهاية سريعا ستكون أفضل من العذاب وهو يبتلع الماء من أنفه وفمه ، يتدفق إلى داخله ليغمر رئتيه ، عذاب .. عذاب لا يشعر به سواه والغريق . هراء .. أين هي القشة التي يقولون أن الغريق يتشبث بها ، لا أمل حتى في هذه القشة . فاتنته قادمة تهتز لخطواتها الأرض ، تتبعثر النجمات الواهمات من حولها ، كيف ستستطيع عيناه أن تجابه وهج ضوئها ، كان يتحدى أقرانه وهو صغير أن يفتح عينيه عن آخرهما أمام قرص شمس الظهيرة ، الآن نظراته تتساقط كفج الثمار كلما وقعت على وجهها . أُصرخ واستعطِف الأرض أن تنفلق أسفل قدميك لتخبئك من خوف نفسك ، لا أمل في حدوث ما تتمناه ، ليس أمامك سوى أن تجابه وتتلقى الطعنة . كن رجلا ولا تصرخ . اقتربي يا فاتنة الجن والملائكة ، ارفعي سيفك واضربي دون رحمة ،  هيأت لك عنقي فانحريه ، افعليها لو طاوعتك نفسك ، لن تفيدني رأسي بعد اليوم . ثلاث خطوات .. خطوتان .. خطوة واحدة ، وأروع ابتسامة فوق أروع شفتين .

_ هل لي أنا هذه الابتسامة ؟

_ نعم .

_ أشعر بأنني ارتكبت خطأ فادحاً اليوم .

_ لما؟

_ كان المفروض أن يكون في جيبي خنجرا أسلمه لك الآن وأرجوك أن تغيبي نصله في قلبي .

_ لست بقاتلة .

_ الموت في هذه اللحظة رحمة ما بعدها رحمة .. أن يكون آخر شيء أراه في الحياة باب الجنة مفتوح أمامي ، وخلفه صفان من الملائكة .. هذا أقصي ما تمنيته في الحياة .

قالت ناديه وقد زادت من ابتسامتها :

_ فيلسوف الشارع الضيق أنت.؟

أجاب سليم كغائب عن الوعي .

_ الفلسفة إبداع العقل ولكن كل حرف أنطق به هو إبداع القلب.

قالت ناديه ضاحكة :

_ دعنا من حديث الفلسفة الآن وخبرني ، لماذا لم تتحدث معي في المرة السابقة !! واكتفيت بأن تحملق بعينيك وأنت مختبئ خلف الشجرة ؟

أجاب سليم  والدهشة تنساب مع كلماته :

_ كيف تمكنت من رؤيتي وقد اجتهدت أن اخفي نفسي تماما خلف الشجرة ؟

أجابت ناديه ببساطة :

_ عندما اقتربت من الشجرة أحسست بسعير أنفاسك ، ذكرني بالسعير الذي كنت اكتوي به عند مروري أمام دكانك .

قال سليم وأمل في الحياة يتدفق داخله:

_ هل كنت تشعرين بي ..؟

أجابت ناديه مشجعة :

_ نعم .. كنت أستمع لحديث نظراتك ، كنت أتوقع أن تتبعني لكن الحياء كبل قدميك!!

_ بالضبط هذا ما كان يحدث معي .. الحياء والخوف من صد يكون كحكم الإعدام .. كنت كواحد من منتظريك الكثيرين فما الذي لفت نظرك ألىَّ .

أجابت ناديه وهي ترمق وجهه الحالم :

_ لا لم تكن مثل الآخرين ..أبدا لن تتساوى أعين الملائكة وأعين الشياطين.. الآخرون نظراتهم كنظرات الكلاب الشرهة لقطعة من اللحم ، ينتظرون سقوطها من يد الجزار لينقضوا عليها بوحشية .. نظراتك كانت تشبه النسيم أشعر بعبوره السريع يهفهف فوق جسدي ، تاركا قشعريرة جميلة كنت أرتاح إليها

قال سليم بصدق يغلف كلماته :

_ هل تسمحين لي بغفوة فوق هذا الرصيف .. أشعر بحاجتي للراحة ، بعد أن ألقيت من فوق كتفي أحمال كادت أن تقصم ظهري .

قالت ناديه وهي تجذبه من يده كطفل صغير :

_ الأفضل أن تغفوفوق مقعد .. تعال لنجلس في مكان هادئ واحتسي كوبا من الشاي يفيق نعاسك .

 

*********

       صرخ ظهره تحت ثقل القصعة المحملة بالأسمنت والرمل ، يصعد بها فوق السقالة خشبية ، منذ السابعة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر كل يوم ، وبالرغم من ثقل المجهود كان يشعر بالسعادة وكفه تقبض على أجره ، كان يتلاعب في ثمن محصول البرسيم ، ليختلس ما يسمح له بالزيارة اليومية للمقهى ، الآن أصبح حراً طليقا من كل شيء حتى من زوجته وعشرتها الجافة وأقدامها المشققة . استقر جاد الكومي في عمله ضمن طائفة المعمار ، تحمل ثقل العمل بصدر رحب ، في سبيل البعد عن القرية التي أورثته الكآبة على حد قوله . نسيّ أن هذه القرية أنجبته أب عن جد في أسرة نبتت في أرضها ، أفلام الفيديو التي أدمن على مشاهدتها أطلقت عينيه بعيداً جداً عن حدودها . كمنت الفكرة داخل رأسه حتى ولدتها قدماه وأبعدته عن القرية نهائيا . ترك ثوب الفِلاحة خلفه دون رجعة ، لم يتردد عن البصق على ماضي أيامه ، اندمج مع زملاء العمل الجدد يصطحبونه كل ليلة إلى مقهى " صابره " الغازية وابنتها " فجر " التي لم تتعد السادسة عشرة من عمرها . سرقت من الفجر نداوته .. جمال بنات المنصورة انتقل بحذافيره من الأم إلى البنت .. يضاحكهم الزبائن قائلين أن هذا الجمال، موروث عن أجدادهم الذين خالطوا عساكر نابليون.. تجيب الأم بغُنج .. جمال رباني من فوق يا اخويا أنت وهو.  أصبح مقهى الغازية هو المعين له على تحمل تعب اليوم الطويل . يترقب مجلسه مع أكواب الشاي والحلبة وجسد " صابره " الرخص ، وهي تتلوى أمامهم في لدونة الحلقوم ، تعلق قلبه بالأم ففيها الكثير من نساء الفيديو اللاتي عششن في مخيلته ، كن سبباً في اقتلاع جذوره القروية كشجرة ضربتها عاصفة هوجاء . رحلت صابره وابنتها عن المنصورة لتسدل النسيان على الماضي ، مبتعدة عن عيون تنظر إليها شذراً بعد أن اُتهمت بقتل زوجها صاحب فرن الخبز بالاتفاق مع صديق لها . أراد الصديق أن يلبس ثوب الفارس ، اعترف على نفسه مبعدا أي شبهات عن عشيقته ، أوهمه المحامي الذي اتفقت معه العشيقة اللعوب على أن الحكم لن يزيد عن عامين ، أمام نظراتها الخضراء وحلاوة الحرام الذي كان بينهما تحمل الجريمة بمفرده . كافأته " صابره " على شهامته الغبية بهجره بعد عام واحد من سجنه . هربت مع ابنتها الوحيدة " فجر " تمتلك ثروة لا بأس بها ، ثمن فرن الخبز الذي أقنعت زوجها المتيم في هواها أن يكتبه باسمها ، ثم طعنته مع عشيقها طعنة الموت . استثمرت ثروتها في المقهى ، يساعدها جمال ونظرات واعدة لكل من يجزل العطاء ، شبت فجر تحمل جمالاً أشد ضراوة من جمال أمها وخبرة لا يستهان بها في مداعبة الرجال ، تخور قواهم فتدفع بهم لحضن أمها ، لم تمكن أحدهم من مجرد لمسها . كل شيء يتم بحذر شديد حتى لا يفتضح أمرهما وتكونان عرضة للقانون . عندما بدأت خطوات جاد ارتياد المقهى كان يظن فيهما الطهر والبراءة ، وأن ما دفعهما للوقوف في المقهى ، هو البحث عن لقمة العيش بالعمل الشريف . داعبته فكرة الفتونه التي كان يطرب لها وهو يشاهد فتوة الأفلام يتغلب على جبابرة الرجال ، تقمص الدور وابتاع من الثياب ما يؤهله لتقمص هذا الدور، ذهب إلى الحلاق وأصبح في جلسته في المقهى يضاهي عمدة قريتهم ، تساعده بشرة سمراء وقوة لا يستهان بها وذكاء فطرى . وقع مع نفسه عقداً لحماية صابره وابنتها دون أن يخطرهما ، رأته صابرة وسجلته في قائمة الرجال الذين يمكن أن يحظون بها ، آثرت الانتظار حتى تجمع عنه المعلومات التي تخرجه خارج دائرة الشك فقد يكون عيناً للشرطة ، لم تبخل عليه بنظرة أو احتكاكه وهي تتمايل أمامه أثناء رقصاتها ، تكاد تسمع دقات الطبول خلف أضلعه . لا يخفى عليها أنفاسه اللاهثة تدفع بها شهوة تتقد كالنار ، تزيده ابتسامة أخرى وهي تردد داخلها لم يحن الوقت بعد ، لا بد من النار حتى تتذوق الحلوى . لم يكن في الحسبان أن فجر بأعوامها القليلة ، لفت نظرها جاد بشاربه المستقيم وشبابه القوي . قررت أن تراقبه من طرف خفي، استثنته من الزمرة الواجب الإيقاع بهم وإرسالهم لحضن الأم . جاء قرارها سريعا بعد أن انطلقت فكرة الفتونة لحيز التنفيذ ، رفع جاد أحد المشاكسين بالمقهى تعرض لها بالمضايقة وألقاه بعيدا ، منذ هذه اللحظة امتدت النظرات بينهما . عقد مقارنة بين الجمال الغض كالزهر الذي يتفتح بتؤدة ، وجمال أمها الذي تفتح عن آخره وعن قريب سيبدأ في إسقاط وريقاته . جمح قلبه خلف الصبا وفارق خمسة عشر عاما بين عمريهما ، ماذا يهم إذا هي وافقت ، عيناها تناديان ، ينظر إليها كعصفورة طائرة يصعب الإمساك بها ، كل أمنيته كانت محصورة في أن يجذب أنظار الأم لتقبل الزواج منه لتدخله إلى عالم نساء الفيديو. الآن تحول القلب لعصفور يحلم أن يطير مع هذه العصفورة ، لو أشارت بإصبعها لتدافع نحوها كل من بداخل المقهى وخارجه . الأيام تمضي ونظراتها وابتساماتها التي تختصه بها توحي بأنها تمهد له الطريق ، لم يعد شاربه يهتز مع اهتزازة نهدي أمها وهي تتمايل أمامه ، حتى يصبح لقمة سائغة في فمها حينما تستدعيه خلف الباب المغلق . نظراته تثب خلف الظبية البرية مختلطة بالخوف والتردد من أن يكون هو الوهم بعينه . وقفت أمامه في أحد الليالي وهمست بصوت خافت .. اتبعني . لم يصدق أذنيه ، تأكد أنه غير حالم عندما وجدها تنسل خارج المقهى ترمقه بنظرات آمرة ، ظن أن الشلل أصاب قدميه وأنه لن يستطيع الوقوف للحاق بها ، تغلب على ضعفه وحبات العرق التي انزلقت من فوق جبهته بالرغم من برودة الليلة فألهبت عينيه . رآها تقف عند حدود قطعة الأرض التي نبتت بها أعواد الذرة ، إقترب منها وخطواته تحبو كطفل صغير ، جذبته بين أعواد الذرة ، وجهها في ضوء القمر يصرخ بالجمال والصرامة ، تطلعت إلى وجهه وقالت بلهجة آمرة :

_ ماذا تنتظر ؟

_ على ماذا ؟ .. أجاب متلعثما.

قالت بنفس اللهجة الآمرة :

_ للزواج مني أيها الساذج .

انشقت الأرض تحت قدميه وكاد أن يهوي لكنه تماسك وقال:

_ هل تقصدين ما تقولينه فعلا .؟!

قالت فجر ولا تزال الصرامة تنطق فوق وجهها :

_ وهل تظن إني أريدك لأتسامر معك ؟!

تساءل :

_ وما الذي دفعك نحوي ؟!

_ توسمت فيك الرجل الذي يستطيع أن يخرجني بعيدا عن هنا .

قال وهو يطمع في سماع المزيد .

_ ألهذا السبب فقط .؟!

أجابت بصراحة صارمة :

_ هل صورت لك سذاجتك بأنني وقعت صريعة هواك ؟!

قال وهو يشعر بصغر حجمه أمام سطوتها :

_ كنت تقولينها حتى من باب المجاملة ..

قالت إمعانا في كسر شوكته :

_ كنت أظنك تختلف عن الآخرين ، لكن يبدو أنك أسوأ منهم ، أذهب واقبع في مكانك وأطلق للعابك العنان أسفل قدمي أمي .

قال بانكسار :

_ سامحيني إذا كانت كلماتي أثارت غضبك ، لم أكن أتوقع من صبية الصبايا أن تعرض علىَّ الزواج  .

_ سأعطيك أسبوعاً فقط للاستعداد ، لا أرى وجهك خلاله في المقهى ، عند عودتك سأهرب معك في نفس الليلة إلى مكتب المأذون فكن جاهزا بالشهود .

فغر فاه دهشة وقال :

_ ولماذا الهرب ؟ .. ألن تخبري أمك بأمر زواجنا؟!.

.. قالت وقد عادت الصرامة لوجهها :

_ عدت لغبائك .. لو علمت أمي بأمر هذا الزواج ، لن تعدم وسيلة لتزج بك في السجن لتتخلص منك فنفذ ما آمرك به ، واعتد من الآن باني سأكون العقل المدبر .

 

 

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************