فرانسوا باسيلي يكتب: التجديد الديني في مصر والسياسي في أمريكا

فرانسوا باسيلي يكتب: التجديد الديني في مصر والسياسي في أمريكا
فرانسوا باسيلي يكتب: التجديد الديني في مصر والسياسي في أمريكا

 

 

 

واحد راح يجدد الخطاب الديني لقي ميعاد التجديد فات!  

هذه نكتة تتداولها مواقع السوشيال ميديا، وهي كعادة النكت المصرية السياسية تحمل قدراً كبيراً من الذكاء والنقد الاجتماعي الثقيل، لأن المصريين منذ مجيء الرئيس السيسي وهم يسمعون عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، بل إستخدم السيسي تعبير "ثورة دينية"، ولكن لم يري أحد شيئاً من ذلك، ومن أيام قليلة فقط خرج علينا الشيخ عبد الجليل يقول أن المسيحيين كفار وأن المسيحية ديانة "فاسدة"، وقد حول الشيخ، وهو قيادي في الأزهر، إلي المحاكمة بتهمة إزدراء الأديان

 وكان الأقباط يشتكون منذ سنوات أن هذه التهمة لا يتهم بها سوي الأقباط أو المجددين للخطاب الإسلامي مثل إسلام البحيري، وهذا القانون نفسه هو قانون سييء السمعة، والأفضل تطبيق القوانين التي تعاقب من يحرض ضد الآخرين، وإتهام الناس بالكفر في مصر هو تحريض بالقتل، وهي جريمة لا تحتاج لقانون إزدراء أديان، فقط تحتاج إلي إرادة تطبيق القوانين الموجودة فعلاً، وهي إرادة غير موجوده في حالة الكثير من الجرائم التي تعرض لها الأقباط في السنوات الماضية.

باختصار إذن، هذه النكتة هي تعبير صادق، مضحك، ومحزن في نفس الوقت، عما يحدث في مصر اليوم. 

 

أما في أمريكا، فالقضية ليست تجديد الخطاب الديني، ولكن تجديد الخطاب السياسي الذي إنحدر اإلي مستنقع سحيق علي لسان الرئيس ترامب طوال أكثر من عام من حملته الإنتخابية التي راح فيها يستخدم أقذر الكلمات في وصف خصومه سواء في حزبه الجمهوري نفسه أو في الحزب الديمقراطي.

ولكن القضية ليست في مجرد خطاب سياسي في أمريكا، ولكن يواجه ترامب اليوم وبعد أربعة أشهر فقط من توليه الرئاسة، تحقيقاً شاملاً من محقق مستقل، اختاره نائب المدعي العام الأمريكي الذي وضعه ترامب نفسه في مركزه، أي لا يمكن القول أن الديمقراطيين هم وراء هذا. 

 

احتمال محاكمة ترامب 


حين وصلت إلي أمريكا في مطلع السبعينات تابعت بشغف هائل قضية ووترجيت وكانت تذاع محاكمات الكنجرس للأطراف المتورطة فيها علي الهواء مباشرة، وكنت مذهولاً ومغتبطاً جدا بقدرة ممثلي الشعب والصحافة علي تحدي رئيس الجمهورية ثم التهديد بمحاكمته مما اضطره إلي الإستقالة ليحفظ كرامته، وكان نكسون قبل استقالته قد زار مصرالسادات، مما دفع بأحمد فؤاد نجم إلي كتابة قصيدته الشهيرة ليغنيها مع الشيخ إمام قائلاً:

 شرفت يا نيكسون باشا

يا بتاع الووتر جيت 
عملولك قيمه وسيما 
سلاطين الفول والزيت 
فرشولك أوسع سكه
من راس التين على مكه
وهناك تنزل على عكا
ويقولوا عليك حجيت 
ما هو مولد ساير داير

شي الله يا صحاب البيت 

وما أراه الآن هو أن نيكسون لم يفعل طوال سنوات حكمه الخمسة نصف التعديات التي فعلها ترامب وعائلته في ثلاثة أشهر، ويكفي أنه قام بوضع ابنته وزوجها في البيت الأبيض بجواره رغم أنها ما تزال تملك وتدير أعمال العائلة الخاصة، وكل يوم تنكشف فضيحة جديدة لترامب ولعائلته، وهي تعديات ومعاملات وعمالات وفساد وأكاذيب وخداع وتخبطات غير دستورية أخطر بكثير مما فعل نكسون، ولذلك لا أستبعد أبدا أن ينتهي ترامب نهاية نيكسون بل أسوأ منها، وهو شيء مؤسف جداً في الواقع، ولكن أمثال ترامب تكون نهاياتهم دائماً مفجعة سواء لهم أو لملايين ممن يتضررون من أفعالهم، كما حدث مع موسيليني وهتلر وشوكوسكي وغيرهم. شيء مؤسف ومحزن ولكن غير مستبعد أبدا في ضوء ما يتكشف هنا في أمريكا كل يوم.

 

الزواج الباطل!

الدجل الديني علي أعلي مستوياته تمارسه جامعة مسيحية.

حصل الرئيس ترامب حصل منذ أيام علي الدكتوراه الفخرية من جامعة "مسيحية" (!)  اسمها جامعة الحرية، ولا علاقة لها بالحرية علي الإطلاق، وذلك برغم التصرفات غير المسيحية الفظة والبذيئة خلال الحملة الانتخابية لترامب حين سمعناه بصوته يفتخر بأنه يهجم علي من يقابلهم من النساء قابضاً علي الأماكن الحساسة من أجسادهن، وكان ترامب قد زار نفس الجامعة في حملته الإنتخابية وأخطأ خطأه الشهير عندما لم يعرف كيف يقرأ قراءة صحيحة عنوان رسالة بولس إلي أهل كورنثوس في الإنجيل مما جعل الطلبة الحاضرين يضحكون عليه، لأن ترامب لا علاقة له بالمسيحية علي الإطلاق، فهو مطلق ومتزوج ثلاث مرات وكل حياته وتصرفاته وأقواله مخالفة للمسيحية روحاً ولفظاً وفعلاً، ومع ذلك تعطيه هذه الجامعة "المسيحية" الدكتوراه الفخرية، هي فضيحة أخري للجامعة ومديرها المتشدد ولترامب معاً، وهي نموذج للزواج الباطل بين القيادات الدينية وبين القيادات السياسية في عملية بيع وشراء للضمائر علي رأس الأشهاد.

 

آليات الديمقراطية 

تعيين مستشار خاص للتحقيق في علاقة ترامب بروسيا خطوة ضخمة قد تؤدي إلي محاكمة وعزل ترامب إذا توصل المحقق المستقل إلي أن ترامب متورط في جريمة يعاقب عليها القانون، وهو ما حدث مع نكسون من قبل، ولذلك فهي خطوة خطيرة كان الجمهوريون لا يريدون الوصول إلي مرحلتها ولكن حماقة تصرفات وأقوال ترامب اليومية وخاصة سماحه للسفير الروسي - ويعتبرونه هنا جاسوس كي جي بي - بالدخول إلي البيت الأبيض مع منع الصحافة الأمريكية من الحضور، ثم طرده لمدير المخابرات لأنه لم يخضع لإبتزاز ترامب الذي طلب منه الولاء فرفض.

 كل هذا يحدث بسرعة مذهلة، بعد أربعة أشهر فقط من دخول ترامب البيت الأبيض، السبب الأساسي هو ترامب نفسه والكمية الهائلة من التصرفات والأقوال بالغة التهور والسخف التي ارتكبها، مع فشله في تحقيق أي إنجاز رغم أن الجمهوريين يسيطرون علي الجهازين التنفيذي والتشريعي فلا عذر لهم، والآن سيبدأ المحقق الخاص عمله وله سلطات هائلة لا يستطيع أحد بما فيهم الرئيس إعتراض طريقه.

هنا نري آليات الدمقراطية تعمل بكفائة رغم كل محاولات ترامب الحمقاء بتشويهها، وكان يعتقد أنه كرئيس يملك أن يفعل ما يشاء فيضع ابنته وزوجها في البيت الإيبض كمستشارين علي أعلي المستويات وهما بلا خبرة إطلاقاً، وهي واحدة فقط من عشرات الحماقات المماثلة التي فعلها، فكان يهاجم كل الناس بمن فيهم قيادات حزبه أنفسهم ويعاملهم كما كان يعامل الموظفين في شركة مقاولاته، لم يفهم إطلاقاً النظام الأمريكي رغم السبعين عاما التي عاشها وكأن الرجل لم يكن هنا، وقد قال أنه لم يكن يعرف أن وظيفة رئيس الجمهورية بهذا القدر من الصعوبة، إذا كان يزن أنها أسهل من عمله السابق، هل هذا كلام رجل مسؤول يفهم كيف تدار الأمور؟

 

الدرس للعالم هو أن الديمقراطيات الراسخة يمكنها الصمود أمام كل أشكال الرؤساء حتي لو أتوا بغزوات الصناديق، والصحافة الحرة هي من يتصدي للطغاة ويكشف خيباتهم وفسادهم وفجورهم، ولذلك لا يتحمل أي طاغية الصحافة الحرة، وكان ترامب يهاجم النيويورك تايمز والسي إن إن والوشنجطن بوست وتصور بسبب عدم خبرته وعدم فهمه لدور الصحافة أنه يمكنه أن يلجم هذه المؤسسات الصحفية العريقة والتي تعمل بها أشد العقول ذكاء واستقلالية وكرامة مهنية، كان ترامب يهاجمهم كل يوم لكنهم واصلوا مهامهم بكل ثقة ودأب وهم من فضحوا تجاوزاته وتعدياته علي الدستور وعلي المنطق وعلي الحريات.

 والديمقراطيات بشكل عام والديمقراطية الأمريكية خاصة لا تعيش بمجرد تقديم التحية والهتاف لها، هي تعيش لأن المؤسسات والأفراد يظلون واعين لأي تجاوزات يقوم بها أي رئيس وأتباعه.