أخبار عاجلة

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 17)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 17)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 17)

      دقات شديدة على باب شقة ناديه ، فزعت لها ،  فتحت الخادمة الباب ، برز من خلفه  ضابط وبعض المخبرين ، واجهتهم نادية بحدة قائلة :

_ ما سر هذه الطرقات المدوية .. هل جئتم للقبض على مجرم ؟

 أبدى الضابط أسفه ، أوامر الجوكر ألا يتخطى حدود اللياقة ، قال بصوت أسره جمالها :

_ أنني شديد الأسف على هذا الإزعاج ، تعلمين أن الضابط الصغير مثلي ليس عليه سوى تنفيذ الأوامر ، والأوامر التي لدي هي القبض على أخيك رشاد .

احمرار الغضب تصاعد إلى وجنتيها فزاد وجهها حلاوة وقالت باستياء :

_ وما الذي فعله رشاد حتى تتهجموا على شقتي بهذا الشكل المزري ؟

أجاب الضابط بطريقة أشبه بالتوسل :

_ أُقسم بأنني لا أعلم أي شئ سوى أمر بإحضاره إلى مركز الشرطة .

قالت ناديه بلهجة مطمئنة :

 _ أمامكم الشقة فتشوها لو أردتم .. رشاد خرج من الصباح ولم يعد حتى الآن.

قال مسترسلاً في التوسل :

_ العفو يا هانم .. لا داعي للتفتيش .. كلامك مصدق .

انصرف الضابط ، ابتسمت ناديه ، كانت تتوقع شيئا من هذا القبيل ، لكنها كانت تجهل السبب الذي من أجله تبحث الشرطة عن أخيها ، تعرف فيه التدين وليس التطرف ، لم يأت مطلقا بأفعال يمكن للقانون أن يحاسبه عليها . السؤال يدور حائراً في رأسها منذ الصباح  منذ أن حضر رمزي صديق رشاد ووجهه متغيرا بعض الشيء ، توجه إلى غرفة رشاد مباشرة وأغلق الباب خلفه ، ساورتها الريبة وفتحت باب الغرفة ونظرت في عتاب إلى رمزي قائلة :

_ منذ متى كان بينك وبين رشاد أسرارا  لا أعلمها.

تردد رمزي قليلا ولم يجد مفرا من الاعتراف :

_ في الحقيقة لم أكن أريد أن أزعجك ، وحتى لا تسيئين الظن بي ، سأخبرك بما قاله لي بواب العمارة وأنا صاعد الآن ، بعد أن دخلت المصعد تسلل البواب خلفي وهمس لي قائلا :

_ أعلم صداقتك الحميمة للشيخ رشاد ، فأرجو أن تخبره أن مخبرً تملأ سحنته الشر استفسر عنه صباح اليوم ، ويوجد آخر يراقب باب العمارة عن كثب .

نظرت نادية وقد تملكها الجزع إلى أخيها وقالت :

_ ما الذي ارتكبته يا رشاد حتى تجر ورائك هؤلاء المخبرين ؟

_ أنت تعلمين سلوكي أكثر مما أعلمه أنا ، أنا بذاتي مندهش لما قاله رمزي .

قال رمزي متلهفاً :

_ الوقت لا يسمح بمناقشة الأسباب ، لا بد لرشاد أن يغادر هذا المكان حالا حتى تنجلي الحقيقة ..

.. قال رشاد وبعض من الخوف قد بدأ يتملكه.

_ أين سأذهب ، وكيف سأخرج من باب العمارة وأنت تقول أن مخبرً يراقب مدخلها عن كثب .

نظرة عتاب طلت من عين رمزي وهو يضع يده على كتف رشاد وقال :

_ هل طاوعتك نفسك بأن تقول أين تذهب ، أنسيت أن لك بيتاً آخر ، وأن أم رمزي وأبو رمزي يحبانك كابن لهما ، أما مسألة خروجك من الباب فاتركها لي.

أجاب رشاد وهو يربت على كتفه .

_ بارك الله فيك يا رمزي ، لكن أنت صديقي وأخي ولا أريد أن أعرضك لأي مساءلة .

قال رمزي وهو يحثه على الإسراع :

_ الأصدقاء عند الشدة .. أليس هكذا يقولون ، وأنت لست بصديق فقط لكنك أخ عزيز ، لا تضع الوقت ، استبدل ثيابك وضع بعض ما تحتاجه في حقيبة صغيرة ، لسنا نعلم كم من الوقت سينقضي قبل عودتك إلى هنا سالما بأذن الله .

تسلل رمزي وخلفه رشاد من باب الشقة وهبطا في المصعد ، توارى رشاد بجانب البواب حتى يتمم رمزي مهمته . خرج رمزي من الباب وسار في اتجاه المخبر الذي يراقب مدخل العمارة من ثقب في جريدة ويظن في نفسه المخبر السري شرلوك هولمز . عندما أصبح رمزي بجانبه طوح يده في الهواء وكأنها حركة عفوية ، وقعت يده على الجريدة ومزقتها ، هاج المخبر وماج على تمزيق أداة الرصد الخاص به . امتص رمزي غضبه بالإكثار من التأسف وإصراره أن يصطحبه لبائع الجرائد الذي يقف على ناصية الشارع وشراء واحدة بدلا من التي مزقها.

في هذه الأثناء تسلل رشاد من الباب إلى الشارع الجانبي الذي ينتهي إلى الطريق الرئيسي ، اتفق مع رمزي أن يلقاه بعيدا عن عين المخبر المتلصصة ، ضحك بواب العمارة منتشيا ، كانوا يصفونه بالغباء إلى أن ظهر من هو أغبى منه في صورة هذا المخبر.

لم تشأ ناديه أن تخبر أخاها الضابط خالد بما حدث ، تعلم أنه يمكن أن يضحي بأقرب الناس إليه ولا تُلمس شعرة من شعر رأسه .

 أصر الضابط على أقواله بأنه قام بتفتيش شقة ناديه ولم يعثر على رشاد ، استدعي المخبر الذي كان مكلفا بالمراقبة ،  أخبرهم بأن رشاد موجود بالشقة منذ الصباح ولم يغادرها . تذكر المخبر رمزي وتمزيق جريدة المراقبة وإصرار رمزي على اصطحابه لشراء غيرها ، اضطر للاعتراف بهذه الواقعة . اسُتدعي بواب العمارة بعد أن أفاد المخبر بأنه رأى رمزي عند دخوله وخروجه . أمام نظرات المخبرين التي توحي بما تخبأه ، وكفوفهم التي تبدو كالمطارق ، اعترف البواب على اسم رمزي وعنوانه ، كثيرا ما كلفه رشاد لتوصيل أشياء إلى منزل صديقه .

 لثان مرة يخدم الحظ رشاد في يوم واحد ، أحس رمزي بضوضاء في الشارع ، نظر من النافذة وشاهد سيارة للشرطة وبعض المخبرين يقفزون منها ، أدرك سريعا بأنهم أتوا من أجل رشاد ، قفز للداخل سريعا ، تمكن والد رمزي الذي يعمل صائغا ، من إخفاء رشاد داخل الدولاب المسحور ، الذي كان يفخر دائما بأن أشد اللصوص احترافا لا يمكنه الوصول إليه ، الدولاب الذي يخبىء داخله المجوهرات. 

لثان مرة في يوم واحد يقف الفشل أمام الضابط ، لم يعثر على أي أثر لرشاد رغم أنه لم يترك ثقبا داخل المنزل إلا ووضع إصبعه به ، مداراة لفشله أمام الجوكر الذي يعرف قسوة سياطه ، أصر على اصطحاب رمزي متهمه بإخفاء صديقه رشاد .

وقف رمزي أمام الجوكر الذي عرفه منذ الوهلة الأولى ، رآه قبل سابق عندما ذهب مع رشاد إلى مكتب أخيه خالد ، نظر إليه الجوكر كما لو كان ينظر إلى حشرة وقال :

_ لا تتخذ مظهر أبطال السينما وخبرنا أين رشاد ، ولتعلم أن كف واحدة من هذه الثيران التي تقف خلفك كافية أن تخرج لسانك عن آخره .

بجرأة لم يتوقعها الجوكر نظر إليه رمزي قائلا :

_ أليس من الغريب أن تسألوا مسيحي عن مكان شخص أنتم تقولون عنه أنه مسلم متطرف .

قال الجوكر وهو يرميه بنظراته النارية :

_ لا تظن في نفسك الذكاء ولا تناور ، نحن نعلم أن بينكما صداقة وفية ، أنت تزور معه شيخه وهو يزور معك قسيسكم .

قال رمزي والحزم يصاحب كلماته :

_ إذا كنت تريد الإجابة النهائية ، أنا لم أر رشاد منذ الصباح ، زرته في منزله ، تركته هناك ، فوجئت بكم تبحثون عنه في منزلي .

_  إذا فأنت تصر أن تلعب دور شجيع السينما ، بإشارة من يده تلقى رمزي وابلا من الأكف الثيرانية ، توسد بعدها أرض الحجرة وغيمة سوداء تتراقص أمام عينيه .

 

*******

       في المطار كانت هناك مفاجأة ، تقابل عادل وميرفت مع ناديه وبرفقتها سليم ، ميرفت في وداع عادل المسافر لزيارة أخيه والاطمئنان عليه ، سليم في وداع ناديه ، رحلة عمل لأمريكا حيث ستصور المشاهد الخارجية لأحدث أفلامها هناك . تمكن عادل من اختيار مقعدين متجاورين له ولناديه . منذ الأمسية الأدبية في فيلا نورا فياض ، توطدت الصداقة بين ناديه وميرفت وزوجها عادل ، المرة الأولى التي يريان فيها خطيبها سليم ، دُهشت ميرفت من سفر ناديه المفاجئ ، الاتصالات بينهما لا تنقطع ، وبعتاب الأصدقاء قالت :

_ كيف طاوعك قلبك أيتها الخائنة أن تسافري دون وداعي ؟

نظرت إليها نادية منتقلاً لعينيها بعض من عتاب ميرفت قائلة :

_ كنت على وشك أن أسألك .. كيف طاوعك قلبك أن أسافر دون أن تأتي لوداعي.

_ هل قال لك أحد أن لي موهبة التنجيم فعلمت بأنك مسافرة!!

قالت ناديه نافية التهمة عن نفسها :

_ لم أقل هذا .. لكن كنت أتوقع أن تكون خادمتك أخبرتك بمهاتفتي ، لم أجدك بالمنزل ، رجوتها أن تخبرك بأني سأسافر بعد يومين وأود رؤيتك قبل سفري

_ ياإلهي من هذه الخادمة .. لا تتذكر شيئا أبدا ، كم أوقعتني في دائرة الإحراج بسبب دائها هذا  .

قالت ناديه وفي عينيها نظرة مظلومة :

_ الآن وفورا أطالبك برد شرف .

عانقت ميرفت ناديه وأمطرت وجهها بالقبلات وهي تردد هل يكفيك هذا أم تريدين المزيد ؟

ضحك الجميع واندمج سليم معهم دون كلفة وقالت ميرفت وهي تدفعهما للدخول للحاق بالطائرة :

_ هيا اذهبا تصحبكما السلامة .

توطدت الصداقة بين ناديه وعادل وارتفع حاجز الكلفة داخل الطائرة ، وجدت نادية في عادل إنسانية مهذبة ، علاوة على أنه زوج لصديقة عزيزة عليها ، فضفضت عما بداخلها دون أي حرج . استمع عادل إليها في صمت تام واحترام لصراحتها أمامه ، حكت له عن فضائح أمها وغفلة أبيها المتعمدة ، وأنها تركت المنزل حتى لا يعلق بثيابها أفعالهم المتجردة من الكرامة والشرف ، تحدثت عن ثروتهم المهوولة التي جُمعت بالطرق الخاطئة ، وأبيها الذي لا يهتم بشيء سوى المال ، انتقلت إلى أخيها خالد الذي يمكن أن يركل أي عائق في طريق أطماعه في الوصول للمنصب ، أخوها علي الفاسد الطائش الذي أتلفته النقود التي يغترف منها دون حساب . أغمضت عينيها ولاحت ابتسامة حلوة فوق شفتيها عندما انتقل الحديث إلى رشاد ، تركته مضطرة يختبئ في منزل رمزي صديقه ، رشاد الأخ الذي عوضها عن كل أسرتها بالرغم من صغر سنه ، الإيمان بالله في أجمل صورة من الطيبة والعقل والحكمة ، خوفه عليها وحدبه كأب وليس كأخ أصغر . فتحت عينيها ونظرت إلى عادل ولا تزال ابتسامة الرضى على وجهها وقالت :

_ هل تصدق أن وسط هذه الأسرة يمكن أن ينبت إنسان مثل رشاد أخي .

قال عادل مبتسماً :

_ لقد نسيت إنسان آخر أو بمعنى أدق إنسانة أخرى وهو أنت ، فما أراه فيك لن يخرج بعيدا عما وصفت به أخاك رشاد .

قالت ناديه ممتنة وهي تسمع منه ما أراح نفسيتها المتعبة :

_ أشكرك على مجاملتك الرقيقة ، أتمنى أن أكون في نظر الجميع كما تقول .

_ لا أجامل ، أقول الحقيقة ، ما رأيته في الأمسية الأدبية في منزل السيدة نورا فياض ، أكد لي بأنك تملكين جمال الداخل والخارج ، وعندما ازداد قربك من ميرفت تأكدت من هذا .

قالت ناديه صادقة في تعبيرها :

_ لماذا لا تقل أن جمال داخلك أنت وزوجتك ميرفت هو الذي يدعكما تريان الأمور بهذا الشكل ؟

انتاب عادل شعورا صادقا ومريحا نحوها ، جعله يتخلى عن سره ويحكي لها عن قصة زوجته التي لا تعلم عنها شيئا ، حَملها له ناجي عنايت ، حملها له كثقل فوق كتفيه ورحل إلى العالم الآخر. عليه الآن أن يبحث في أمريكا عن أمها إن كانت لا تزال على قيد الحياة وخالتها التي لا يعرف عنها شيئا ، وإرثها الذي لا يعرف أبعاده ، لغز عليه أن يكتشف طلاسمه لوحده ، مشوار لا طاقة له به .

أدهشت روايته ناديه ، انفلتت من ركن عينها دمعة حقيقية عندما علمت أن لصديقتها ميرفت أم وهي لا تعلم عنها شيئا ، نظرت إلى عادل والصدق في عينيها وقالت :

_ لقد حملتني سرك الباهظ وبهذا ألزمتني أن أكون معك فيه وأشاركك حل هذا اللغز ، سأقدم لك نصيحة لا تتوان عن تنفيذها ، وهي أنك لا بد وأن تصارح أخاك سامي بكل شيء ، فهو مقيم بأمريكا بصفة دائمة ، ويمكن أن يصل لأخبار تعجز أنت عن الوصول إليها .

قال عادل وقد انفرجت ملامحه :

_ نصيحة غالية سأستفيد منها بالفعل فور وصولي ، لا تتخيلين كم أشعر بارتياح الآن عندما أشركتك معي في سري .

انقضت الساعات الطائرة دون أن يدريا ، التهمتها أحاديثهما الشيقة المتبادلة ، فوجئا بالطائرة تهبط للمطار ، ضحكت ناديه وهي تقول :

_ لم أكن أعلم أن أمريكا قريبة بهذا الشكل .

شاركها عادل الضحك قائلا :

_ المسافة بعيدة لكن ألفة الحديث بيننا هي التي قربتها .

قالت ناديه ضاحكة :

_ ليت هذا يحدث في العودة .

_ ولم لا .. أجاب عادل ضاحكا .

على باب المطار كان لقاءٍ حاراً  بين سامي وعادل ، زاد من حرارته صيحات الفرح التي أطلقها ابنه "  كامي "  لرؤية عمه بعد طول غياب ، أما " ساكي " زوجة سامي فلم تكن أقل حرارة من أهل الشرق  .

أصر سامي أن يرافقوا ناديه حتى باب الفندق ، على أن تأخذ بعض الراحة تكون بعدها في ضيافته . غمرت نادية سعادة حقيقية وهي تشعر أنها وجدت لها أسرة في الغربة .

 

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************