أخبار عاجلة
انخفاض سعر الدولار أمام الجنيه المصرى -

حسنى حنا يكتب: أخر أيام أوغاريت.. أفول حضارة

حسنى حنا يكتب: أخر أيام أوغاريت.. أفول حضارة
حسنى حنا يكتب: أخر أيام أوغاريت.. أفول حضارة

"إن اكتشاف الكثير من القطع الذهبية في أوغاريت، يدل على غنى هذه المدينة وازدهارها".

*Claude Schaeffer

 

لم يكن اسم (أوغاريت Ougarit) معلوماً، قبل عام (1929) إلا بواسطة بعض الكتابات القديمة النادرة. ولم يستلفت هذا الاسم إلا قليلاً، أنظار المؤرخين وعلماء الآثار. وأوغاريت هي مملكة قديمة تقع في شمال غرب سوريا الحالية، على شاطئ البحر المتوسط، على مسافة نحو (12) كيلومتر شمال مدينة اللاذقية الساحلية وكان اسم أوغاريت معروفاً قبل اكتشافها، في نصوص (مملكة ماري) على نهر الفرات. حيث ذكرت النصوص أن ملك ماري (زمري ليم) زار مدينة أوغاريت في عام (1765 ق.م) كما ذكرت أوغاريت في النصوص الحثية، المكتشفة في بلاد الأناضول وفي مدينة (إيبلا) الأثرية في شمال سوريا. ورسائل تل العمارنة في مصر.

وتحتل مدينة أوغاريت موقعاً متقدماً على خارطة الحضارات القديمة في الشرق، بسبب الأهمية التي تتمتع بها وتقدمها في ميادين الحضارة.

وهي التي احتلت موقعاً هاماً، بين أربع حضارات متقدمة، هي الحضارة الحثية في الشمال وحضارة بلاد النهرين في الشرق. ومصر في الجنوب إضافة الى حضارة اليونان غرباً.

 

 

استيطان الموقع

بدأ استيطان موقع أوغاريت منذ الألف الثامنة قبل الميلاد وشيدت المدينة من الحجر المنحوت، الذي ساعد على حفظها الى حد بعيد. وكان يحيط بها سور حجري، مازال بعضه قائماً الى اليوم، خاصة في الجهة الغربية.

وقد أظهرت الحفريات وجود قصر كبير مكون من نحو (90) غرفة. ومكتبة كبيرة من قطع الآجر المشوي بلغة أوغاريت، وثماني لغان أخرى مختلفة، إضافة الى عدد من المعابد والتماثيل والأدوات المصنوعة من الذهب والفضة والعاج والحجارة الكريمة والبرونز وغيرها.

 

 

اكتشاف أوغاريت

تم إكتشاف مدينة أوغاريت مصادفة عن طريق فلاح كان يحرث أرضه في عام (1928) وكانت سوريا في حينه تحت الانتداب الفرنسي وسرعان ماتشكلت بعثة أثرية فرنسية برئاسة عالم الآثار الفرنسي الشهير كلود شيفر وكانت أول ضربة معول في 2 نيسان/ ابريل من عام (1929).

وعلى التل المعروف اليوم باسم (تل رأس الشمرة) نسبة الى نبات (الشمر) الذي ينبت على سطحه، تتربع مدينة أوغاريت وسط سهل خصيب عني بالمياه. وهي تبدو على ضوء المكتشفات التي تمت حتى الآن، أقدم المدن الكنعانية/ الفينيقية إذ أن السبور التي أجريت فيها منذ عام (1959) كشفت عن خمس طبقات، تصل أعمقها الى (18) متراً. حيث تتمثل حياة الانسان في الألف السادسة قبل الميلاد. وفي أسفلها آثار العصر الحجري Stone age.. وعلى بعد نحو سبعة كيلومترات من المدينة باتجاه الشمال، مصنع أدوات حجرية على شاطئ (نهر العرب) يرتقي الى بدء العصر الحجري. وفيه آثار أقدم ماظهر من الآثار البشرية وبينها وبين الطبقة الخامسة الأوغاريتية، عدد هام من آلاف السنين!

 

 

مكتشفات أوغاريت

إضافة الى ماتقدم، فإن أهم ماتم الكشف عنه في مدينة أوغاريت الآحياء السكنية. وآلاف النصوص القديمة المكتوبة على رقم فخارية.

وهذه الطريقة حفظت النصوص، بينما كتب باقي سكان الساحل السوري على ورق البردي، المستورد من مصر، كما فعل أهل ممالك الساحل (أرواد. جبيل. صيدا. صور وعكا) وغيرها. حيث لم تقاوم كتاباتهم توالي السنين وعوادي الزمن، فضاعت معه نصوص تاريخية هامة جداً.

والمعلومات المستمدة من نصوص أوغاريت على غاية من الأهمية، بالنسبة لما بددت من ظلمات. كانت تسدل على الشرق ستاراً قاتماً، يحجب الكثير من الأحداث، التي وقعت بين القرنين (18- 15) قبل الميلاد. حيث كانت مملكة الآشوريين في عهد ذاك في تقهقر الى أيام الملك، آشور او باليت (القرن 14 ق.م) ومملكة بالب في ضعف/ منذ زالت أسرة الملك (حمورابي) وفي مصر حكم الملوك الرعاة (الهكسوس) والسياسة كانت مشوشة وغامضة. وعلى ذلك فالنشاط السياسي والحربي في الشرق الأدنى للمدة من (1750- 1700 ق.م) لايظهر تاريخ الامبراطوريات التي ذكرنا.

إن نصوص أوغاريت من هذه الناحية عظيمة جداً. وقد قدمت تلك النصوص أيضاً. الكثير من المقاطع التاريخية والدينية والادبية والقصائد الميثولوجية.

التي أثرت على آداب ومعتقدات الشعوب المجاورة –وهذا يجتاج الى بحث خاص- وللعلم أيضاً نشير الى أن اللغة الأوغاريتية تدرس حالياً في عدد من جامعات العالم. ,انه قد صدر أكثر من (2000) كتاب ودراسة عن أوغاريت.منذ إكتشافها إلى وقتنا الحاضر.

عدا عن عشرات آلاف الابحاث. وعلى سبيل المثال تصدر ألمانيا مجلة باسم (أوغاريت فورشنغن) أي (الدراسات الأوغاريتية). كما تصدر مجلة مماثلة في كندا وغيرها.

 

 

 

ازدهار المدينة في أجواء القلق

كانت مدينة أوغاريت، مدينة هامة جداً بحكم موقعها على شاطئ البحر المتوسط، وآثارها الماثلة للعيان. وقد لعب الشاطئ السوري نفسه دوراً حيوياً، بسبب موقعه الجغرافي، الذي جعل منه مركزاً هاماً للتجارة العالمية في العصور القديمة. ومع منتصف الألاف الثانية قبل الميلاد حلت أوغاريت محل مدينة جبيل Byblos في قيادة الحياة التجارية. لأنها أقامت نظاماً سياسياً محدداً، مكنها من الازدهار تجارياً. ويتألف النظام السياسي الذي اتبعه ملوك أوغاريت، من اتفاقات مع الدويلات السورية، أو ممالك المدن الأخرى، وتحالفات متغيرة، مع القوى الرئيسة في تلك الأزمنة.

والحقيقة هي أن أوغاريت، لم تكن مجرد مدينة تطل على البحر، بل كانت مملكة، تمتلك أساطيلها البحرية الخاصة، التي كانت تجوب شواطئ البحر المتوسط، من شرقه الى غربه، وتقيم علاقات مع بلاد الاناضول ومصر وبلاد النهرين وبلاد اليونان وغيرها.

وإن وجود نصوص مكتوبة بثماني لغات مختلفة ، في مدينة أوغاريت، هو دليل أكيد، على عظمة هذه المدينة، وأهميتها في تلاقي وتمازج الحضارات.

وقد بلغت مدينة أوغاريت أوج عظمتها في الحقبة بين عامي (1500- 1200ق.م)

 

 

 

دمار مدينة أوغاريت

يقدم علماء الآثار عدة فرضيات لدمار المدينة. منها أن دمار المدينة كان على يد غزاة قدموا من البحر، في عهد آخر ملوكها (أمورابي) وفرضية تعزو دمار المدينة الى كارثة طبيعية، قد تكون زلزالاً قوياً وغير ذلك.

وعلى العموم لايوجد لدينا دليل قاطع على سبب توقف الحياة في أوغاريت حوالي العام (1186 ق.م)

ومما لاشك فيه أن القوى المجاورة لمملكة أوغاريت، كان من السهولة لها بمكان، غزو المنطقة والاستيلاء عليها. بسبب كون سوريا في ذلك العصر –في الساحل وفي الداخل- منقسمة الى مدن صغيرة متباعدة.

وكانت ثروة أوغاريت قد أزدادت بشكل كبير. بحيث أصبحت مدينة ترف وتعليم، وفيها تك إكتشاف أول أبجدية رأت النور في العالم.

 

 

 

غزو شعوب البحر

في حوالي عام (1195 ق.م) بدأ حكم الفرعون (رمسيس الثالث) في مصر، وفي عهده قامت شعوب البحر القادمة من جزر البحر المتوسط بغزو منطقة الشرق الأدنى براً وبحراً فدمرت المدن الحثية في بلاد الأناضول، وشمال سوريا. وأحرقت المدن التي وقعت في طريقها أثناء وجهتها نحو الجنوب. ولم يترك ملوك الحثيين الأواخر أية وثائق تشير الى تهديدات ضعوب البحر. وهكذا لم تصلنا أية وثائق من (حاثي)

أما أوغاريت نفسها فقد بقيت صامته حول الموضوع، والشهادة الوحيدة التي نملكها، هي الدمار الكامل الذي لحق بالمدينة، ومن ثم هجرانها.. فقط في مصر التي استطاعت مواجهة العدو. نجد سجلاً لهذه الشعوب، عند اصطدامها مع المصريين، في السنة الثامنة من حكم (رمسيس الثالث) الذي استطاع رد شعوب البحر في موقعة (حابو) التي جرت في منطقة الدلتا حوالي عام (1183 ق.م) وأوقف زحفهم.

وتذكر بعض الوثائق أن ملك قبرص قد نبه زميله ملك أوغاريت الى خطر جماعات محاربة إتجهت نحو شواطئ البحر المتوسط آتية من البحر!..

و(شعوب البحر) هي شعوب. إيجية –نسبة الى بحر إيجه- هاجمت الساحل الكنعاني حوالي عام (1200 ق.م) وكانت ترافقها شعوب من غرب الأناضول مع بعض الصقالية.

ومع قدوم شعوب البحر، انتهت حضارة العصر البرونزي القديم (1600- 1200 ق.م) ومعها جاءت نهاية إحدى أكثر المدن السورية ثراء وازدهاراً (أوغاريت) التي لم تستطع أبداً النهوض من ضربة شعوب البحر وأوغاريت التي انتهجت سياسة التوفيق وبالتالي البقاء والاستمرار. لم تمتلك الفرصة للتوفيق بينها وبين الذين دمروها ، في عهد آخر ملوكها عمورابي (1220- 1190 ق.م) وقد كانت مقاومة أوغاريت لشعوب البحر ضعيفة. وقد فر أهلها الى الجبال والقرى الجبلية المجاورة لأنها كانت أكثر أمناً.

 

 

 

هل دمرت الزلازل أوغاريت

يرجح عدد واسع من علماء الأثار سبب دمار أوغاريت، أن المدينة قد تعرضت لهزة أرضية قوية، في الفترة التي حكم فيها ملكها نقمد الثاني (1370- 1330ق.م) وقد أشير الى هذه الهزة عرضاً في رسالة (أبيملكي) ملك صور، حوالي عام (1360 ق.م) وفيها:

"النار قد إبتلعت أوغاريت..

أوغاريت مدينة الملك..

نصف المدينة ابتلعته النار.

والنصف الآخر لم يمس.

الجنود الحثيون ليسوا هنا"..

والعالم الفرنسي (كلود شيفر) الذي عمل في التنقيب الأثري بمدينة أوغاريت حوالي نصف قرن (1929 حتى وفاته 1982) يرجح أن يكون تاريخ تلك الهزة الأرضية حوالي عام (1315ق.م).

ويبدو أن الزلزال قد حمل معه موجة بحرية هائلة Tsunami غطت منطقة (مينة البيضا)، مرفأ مدينة أوغاريت الملاصق لها. واندلعت على أثرها النيران في المدينة. ويدعم العالم (شيفر) اعتقاده بأن مدينة أوغاريت دمرت بفعل زلزال، وليس على يد بشري. بأن جدران الأبنية تغير موقعها بعد الزلزال. ويظهر هذا جلياً، بالقرب من معبد الإله (بعل Baal).

 

 

 

هل دمر الحثيون أوغاريت

هناك علماء آثار، يختلفون مع العالم كلود شيفر، ومنهم العالم الأمريكي (وليم أولبرايت William Albright) الذي يرجح أن الحثيين هم الذين دمروا أوغاريت، استناداً الى الرسالة التي بعثها (أبيملكي) ملك صور الى فرعون مصر. لكن هذا الدليل يبدو واهياً!...

 

 

 

رسالة ملك أوغاريت الأخيرة

هناك رقيم من الطين المشوي، مكتوب على الوجهين بكتابة مسمارية –غير واضحة تماماً- من (أمورابي) آخر ملوك أوغاريت رداً على طلب المساعدة من ملك ألاشيا (قبرص).

وهذه الرسالة تقدم دليلاً على الأزمة، التي اجتاحت منطقة الشرق الأدنى في ذلك الحين:

"لقد وصلت سفن العدو الى –هنا- ومدني قد أحرقت.وفعلوا أشياء شيطانية في بلدي. وإن والدي يعرف أن كل ماعندي من قوات وعربات، هي في أرض (حاطي) –بلاد الحثيين- وكل ما عندي من سفن، هي في أرض (لوكا) وهكذا تم التخلي عن هذه المدينة لتواجه مصيرها بنفسها. يعرف والدي ذلك... السفن السبع التي جاء بها العدو الى هنا، ألحقت بنا الكثير من الضرر"!...

واليوم لاتوجد دلائل على أن المدينة بقيت مسكونة بعد دمارها ولايوجد تاريخ دقيق ومؤكد لدمار المدينة. إلا أن العديد من علماء الآثار قد اتفقوا على أن هذا الحدث. حصل بين عامي (1195- 1185 ق.م).

...لقد أفل نجم أوغاريت بعد أن سطع في سماء الشرق قروناً عديدة. لكن أوغاريت قد تركت في أسفار التاريخ أروع الصفحات وأخلدها على مر العصور.