هدى حجاجى تكتب: الهروب

هدى حجاجى تكتب: الهروب
هدى حجاجى تكتب: الهروب


جلس عارى القدمين على البلاط العارى المبلل بالماء ..رأسه مشغول بألف سؤال وسؤال ..من يرفض حياة النور ؟ من يرفض النقاء والطهارة ؟ سوى يدعى الجميع انهم عشاق النور والطهارة والحب ! اذن كيف تكومت أنواع القمامة داخل البيوت وخارجها فى الحارات والأزقة والشوارع الخافتة ؟ كيف تسربت القذارة الفى القلوب الشابة ؟... ولماذا هو هنا الآن ؟ اتت موجات الأتربة العالية ...والغريب انهم فرحوا بها .... وتراشقت الكلمات والآذان وتكررت الأسطوانات المشروخة حول آمال مستحيلة !.... المهم انه وصل الى هنا , لم تشفغ له سلبيته ...وأختياره لمنطقة الظل ...الزنزانة السوداء آخر المشوار فى قاع الليل الأبدى ...وما أتعس أن يتحول رجل الى رقم أسند رأسه المشحون بالأسئلة الى الجدار المتسخ بالكلمات والتراب والبق الذى حفر لنفسه شوارع ومسارات لا أعرف كيف كانت البداية .....ربما كانت بسبب زيارة لأنسان مريض ...مجرد جار له حقوق الجار ....ليس معه أى صداقة حميمة ..وبالصدفة التقى عنده بمجموعة من الشباب المتحمس ...ثمة مناقشات حول متاعب الناس ...وتخيل لحلول ...أعجبه الكلام ..وإن لم يشارك الا بهز الرأس !... على كل حال تعرف اليهم أكثر فى السجن ...وتأكد له أنهم أصحاب أوهام أو مجرد ضحايا لتجار الكلام الألم يقلق راحة الجسد ..يذكره باستمرار بالتعذيب الوحشى .... ابتداء من خلع الملابس والضرب بالسياط على الاماكن الحساسة ..أو لعبة الدش الساخن والبارد ...والبخار لدرجة سلق الجلد ...الى خلع الأظافر والنفخ تحت الجلد وتبحر صرخاته الساخنة فى تضاعيف الليل البهيم ...أعماقه الملتهبة تذهب فى صقيع المجهول .... كانوا يسحبونه الى غرفة كبيرة ...بها أدوات تشيب الوليد فى كل مرة أستجواب جديد ...ثم إنكار وتعذيب ....وإلم عظيم ...ثم غيبوبة مريحة ...ثم مزيد من الألم ..ثم يفيق على ألم مبرح ...جديد متجدد مع مع كل جرح عميق والغريب أن العذاب بدأ يذوب فى ذكريات عجيبة ... مختلطة !..يتذكر – مثلا – والده الأم ...صاحب الدكان الصغير لبيع الاقمشة الرخيصة ..وأمه ..تلك السيدة الطيبة الدؤوب تعمل منذ الفجر الى ما بعد اعشاء ...تخدم الصغير والكبير دنيا صغيرة ...امنة ...مؤمنة ... لم تصدق الغدر ...وفجأة يأتى الى هنا ...الى جهنم الدنيا ...يستجوبونه كل يوم ويطرحون الاسئلة المعقدة ..... أهو رجل بكل هذه الخطورة دون أن يدرى كان يتعجب من الذكريات المريرة التى تتدعى أهناك فائدة من دخان ايامه ؟...لماذا الاجترار ...الا يكف من عملية التذكر !...وكيف ينسى ؟ وكل ما اصابه فى الصميم ...شهادات الجيران والمعارف ضده ..كلها تجديف وكذب وتلفيق ؟... لماذا يشهدون بغير الحق والحقيقة ؟.... لماذا الكذب !......أم انها شهادات زور مثل وضعه هنا انه محاصر بكل ألوان الأحقاد ...وممن ؟ من بشر مد لهم يد الحب والحنان والعطف ! ... لماذا ينقصون عليه بلا رحمة تصفعه الكوابيس ....تجلده الرؤى ...ينهال الظلام على عقله المظلوم وفجاة حدث تحول كبير !.... تغير الطاقم من حوله ...يعامل من العساكر وصف الضباط والضباط معاملة غاية فى الاحترام والكرم ...فجأة تتلاشى الاستجواب والتعذيب اليومى .... وتوقف طرح الاسئلة البغيضة !... هذا فى وقت أنكسرت فيه كل عناصر المقاومة داخله !... لقد قال لهم : أنا على استعداد تام للأعتراف بكل شئ , والتسجيل بكل اشكاله ..اقول ما ترون أنه الأفضل ..وأطلب منكم خدمة أن أموت ... فلا معنى لحياتى بعد الآن ... بكى يومها بكاء مرا ...فمن انتظر منهم كلمة العدل ... أشهروا الخيانة ... وما وما أبشع أن يتحول الجار الى جاسوس والآخ الى جلاد استدعاه الضباط الى مكتبه ....فمشى اليه خائر القوى طلب له السجائر والقهوة ...وسمع الضباط يقول وهو لا يصدق ما يسمع : أعرف أنك أنسان شريف ...نظيف لا تعرف التآمر انتفض ...لا يدرى ماذا للضباط ....كأنه يحلم ,,همس له ..اذن لماذا أنا هنا ؟ قال الضباط وهو يؤكد كل حرف من الحروف التى ينطقها أسمع ...ما قلته لك ..رأى شخصى ..وأنا هنا ضمن مجموعة صغيرة ..تؤمن بالعدل والأنسانة ...وسوف نتصرف بما يرضى الله وحينما انصرف من أمام الضباط ...يفترسه الذهول راح يراجع كل حرف سمعه كل كلمة ...وراح يراجع كل كلمة وكل حرف من جديد ؟.. آه ....هل يتبعون معه أسلوبا جديدا ؟ وتكرر لقاء السجين بالضباط الهمام ...وتكرر الكرم وبعض الكلمات الهامسة كأنما جاء الضابط ليقلبه فى النار البطيئة ..فيلوذ السجين بالصمت ..ربما يهز رأسه بلا معنى يسمع ...ويسمع ....لسانه ثقل ...حتى قال له الضباط أراك تهز رأسك ...ولا تعطينى رأيك ؟... بيدو أنك فقدت ثقتك بكل انسان ...ولكن ..كل شئ بأوان ...ربك أراد ألا يطول الله أكبر من هذا رد عليه بحذر : ماذا تود ان تقول ؟ كان فى غاية التأثر ..تمنى أن يجثو على ركبتيه ... يتمنى أن يصرفه من أمامه ويتركه الى ظلام الزنزانة ! هل يتمنى الخروج الى ردئ ... ينهال عليه كالكابوس !..يبدو أنه ألف هذا العالم الغريب عالم المساجين والجبارين ....المساحة تضيق عليه ...فيرى عناق الغضب والثورة ...والحنان والرفض والرقة والخشونة ...والاستسلام والجنون ؟ انه فى ذروة الاضطراب والقلق والشك الرهيب ...اقبل عليه السجان وقال له هامسا ألا تفكر فى الهرب ؟ رد بجزع : لا لا تخاف ..قائد الحر اليوم ..له نظرة خاصة بالنسبة لك ..يتعاطف معك لا أدرى ماذا تقصد الا تفهم عربى هذه مشكلتى ماذا تقول فى فرصة العمر ومن يرفض الخلاص نظر الى الرجل نظرة ارتياب .... وهو يقاوم قشعريرة من يتحدث الى شيطان وكأنما يقرأ الرجل أفكاره فقال للسجين الحائر : معذور ..لك ألف حق ...لقد كفرت بالحرية ...ويئست من قلوب لا تعرف الرحمة وجد نفسه وقد فاض الكيل ...فى وقاحة لم يتوقعها ... وسمع نفسه يقول للسجان : وهل لكم قلوب مثل بقية البشر ؟ حاول أن ينسى هذا الحوار الخبيث وهذا الوجه المتغابث... ولكن الفكرة استعرت مثل السرطان فعلا لم لا يفكر فى الهرب ؟ ما فائدة العقل أن لم يجد لنا مهربا ...ولكن يخرج لمن ...هذا اذا عاش ليلامس الحرية ..مع من يتعامل ؟..هل يواجه شهود الزور ؟...أم يصافح القتلة الملوثة أيديهم بالدماء الفكرة تتجرثم فى عقله ...لمس العيون تتسلط عليه ..تراقبه ..ترصد حركاته ..راحت نفسه ضحة للوساوس والظنون راسه ساخنة ...لا سبيل الا الاستسلام للمجهول ....انه يلعب لعبة خاسرة ...فهو لا يملك حق المناورة فماذا يفعل الفأر داخل المصيدة ؟ ولكن ما فائدة الجلوس بين كوامن الشكوك ؟.... الصحراء ساكنة لا تفكر معه ...كل شئ اخرس ...كل العالم يتآمر عليه ...ما عاد يثق فى أحد ..ولم يتعلق بأحد رفع رأسه الى النافذة الضيقة ذات القضبان ...فوجد قطعة من السماء غالبة النعاس ...رأى نفسه طليقا حرا ...يجرى فى حدائق غناء ...يهتف قلبه بالفرح ...عاد الى يقظته وسجنه آه ..يا حرية ...لحظة واحدة أفضل من عمر ميت بين أجسام قذرة قميئة آلمه جنبه ....تفكر فى حياته الهامشية السابقة لم يعرف شطحات الفعل ...ولكن أى بأس فى المحاولة ..ماذا يخسر العبد اذا حاول ؟.. هل يجرب ..نعم ...نعم ...يجرب ....لم لا ... الهرب ...الهرب ...حتى لو أطلقوا فى ظهره مليون رصاصة حتى لو تنهشه الكلاب المتوحشة واستدعاه السجان ...على وجهه تعبيرات جامدة ...مثل لاعبى البوكر وقال له : أنت تشكك فينا أليس كذلك ؟ من أنتم ؟ نحن مجموعة الانسانية وبعد خروجك سوف تعرف عنا اللثير ولكن بشرط ألا تعود للأنانية والانطواء ابتلع ريقه كمن يعتذر عن فعل مشين وقال : وهل نفعنى أعتزالى ؟ سنكون فى حاجة لمهاراتك يا دكتور ...فهل تتعاون معنا رد ببطء : بكل سعادة وسرور اذن اتفقنا ..ولكن هل تعرف أين ستذهب بعد تهريبك من هنا ؟ الى بيتى ! لا ..بيتك مراقب ..أو سيراقب اكثر بعد اكتشاف هروبك ...وسيكون مستهدفا للتفتيش ..أليس كذلك ؟ سكت الحارس لحظات وهو يعلم أن الصمت كلام عنيف سأله السجين وماذا عن زوجتى رد السجان بصوت مظلم : دكتور !.. اسمع ما اقول زوجتك ليست فى بيتك ...انها تعمل فى مكان لا يسرك ماذا تقول ! ستعرف ذلك بنفسك ..ولقد تم غسل مخها وانحرافها آه ..وماذا عن أولادى عند جدتهم ! ماذا يقول الكلب عن زوجتى المناضلة فى سبيل أشرف حياة ...وماذا عن غسيل المخ هذا !...هكذا الامر دارت رأس السجن ..يدرس المكان ..يتفحص الجدران والليل ووجه الحارس الأسود ..وتطل عليه الحجارة والسلاسل والقهر ! أشياء لا تشاركه نبضه ...الوساوس تأكل صدره..... بدا القلب يتجول الى طبل صاخب ...وسأل نفسه فى وجل هل يحتاجون كل هذه التمثيلية الرخيصة للتخلص منى !... أنا تحت أيديهم ..لم يستلمونى بايصال عاد الى مكانه ..لقنوه كيف يهرب ؟ وماذا يسلك ... غدا يطلب العلاج ويدعى المرض الشديد ..ويصرخ من الألم ... ويساعده طبيب المستشفى ...وفى الطريق يهرب ..التنفيذ قبيل الفجر وجاءت ساعة الصفر كل شئ يمضى كما درسه معهم ...وها هو يصل الى البوابة تطل عليه بناية ضخمة ...لكن المطاردة تبدأ باصوات الكلاب الشرسة ..تنطلق خلفه مع ضحكات وحشية ...يطلق ساقيه للريح ....الرعب يمسك به ..الكشافات تبهر البصر أصبح كمن يختبئ خلف أصبعه ...يتوارى خلف أكمه .... انطلق وابل من الرصاص شعر بوخز فى جسمه ...دفء غريب يتسرب اليه ...تتداعى صور أمه وزوجته وأولاده ...يقتربون منه فى غاية الوضوح ...يهمس لهم ويأخذهم فى أحضانه ثم يبتعد عنهم ...ويبتعدوا عنه ...يلوح لهم فى اسى ...أنا على سفر يا أحبابى وسوف ناتقى ..فيم الحزن والجزع ؟...
 الى اللقاء ..
 تمت