أخبار عاجلة

جَـــــــــــرعةٌ لا أكثـــــــــــر بقلم د. نهى بلال

جَـــــــــــرعةٌ لا أكثـــــــــــر بقلم د. نهى بلال
جَـــــــــــرعةٌ لا أكثـــــــــــر بقلم د. نهى بلال
أصرَّ زملاؤه على إقامة حفل بسيط تكريمًا له لبلوغه سن التقاعد،  وقد كان قدوة ومثالًا يُحتذى كموظف حكومي محترم،  كان بحق يقدس الاحترام في كل شيء؛  يحترم حماته،  يحترم جيرانه،  يحترم زملاءه،  يَحترم جمهور المواطنين من المنتفعين بخدمات الهيئة،  يحترم القوانين واللوائح،  وقبل كل تلك الاحترامات يحترم زوجه وأم أولاده،  فلا ينسى فضلها بل لا يعرف لأحد فضلًا عليه مثل فضلها، فلولاهاكما يقول دومًا لما استطاع النجاح والمثابرة في الحياة حتى صار الموظف المثالي المحبوب من الجميع إلا من جموع المواطنين الساخطين الذين يرونه يوَّقف المراكب السائرة بحسب تعبيرهم ولا يعلمون أنه شخص ملتزم لا يسمح لنفسه ولا لغيره من زملائه صغار الموظفين تحت إمرته أن يحيدوا عن تطبيق القوانين بحذافيرها كما لا يسمح بعدم الالتزام باللوائح والنُّظم التي سار عليها الموظفون ربما يُعتقد أنها منذ عهد "سكنن رع" أول مَنْ نادى بتطبيق الروتين في الدولة الفرعونية القديمة. 
كان يتهرب من إقامة هذا الحفل،  ليظل على صلة بزملائه،  فيكون هناك دومًا سببًا في تواصلهم معه،  لكنه بعد عام رضخ لمطلبهم والتقاهم في أحب الأماكن إليه" القهوة العالية أم سلالم" ففيها قضى أجمل الأوقات إذ كانت نقطة التقائه بزملائه وأصدقائه بعدها يتفرقون إلى بيوتهم،  فكانت لمركزيتها في عمق الإسكندرية في "محطة مصر" بؤرةً يتجمع فيها الغادي والرائح،  وفيها ذكرياته مع حبه الأول. هكذا أراد أن يكون آخر عهده بزملائه فيها قبل أن يذهب للعيش في مسقط رأسه في الريف المصري الرائع طلبًا للراحة والهدوء والاستشفاء ليدخل في طور الكمون الذي يعقب رحلة حياة زاخرة بالصخب وخدمة الجماهير العريضة من المواطنين. 
عندما انتقل إلى بلدته،  كان لزامًا عليه أن ينقل سجله وتاريخه أيضًا،  هكذا أخبره موظف المعاشات بأن عليه أن ينقل ملفه الورقي إلى حيث مقر صرفه المعاش،  لم يشفع له عند موظفي المعاشات أنه كان زميلًا سابقًا لهم في الهيئة ولا أنه من أوائل المحافظين على دولاب العمل تحت سيادة الروتين،  صار من المترددين الدائمين على الهيئة ولا يشعر بشكواه أحد،  حتى خرج ذات يوم من عندهم ساخطًا، سالت دموعه فتذكر وجهًا متغضنًا بالتجاعيد لعجوز كانت تنزل دموعها الشحيحة أمام النافذة الزجاجية لمكتبه قائلة: 
_ لا أطلب من الله شيئًا إلا أن تتجرع هذا الإحساس قبل أن تلقاه.