د. صلاح هاشم يكتب: الفقراء الجُدد

د. صلاح هاشم يكتب: الفقراء الجُدد
د. صلاح هاشم يكتب: الفقراء الجُدد


    بعد أن تخلت الدول الاستعمارية الكبرى عن سياساتها الاستيطانية، وتملكت الشعوب العربية زمام الحكم فيها.. لم يعد هناك مبرر لاستمرار النظريات التي تحاملت على الفقراء، وجعلت الفقير هو المسئول الأوحد عن فقره. ومن ثم فقد سقطت النظريات الاجتماعية "التي وصمت الفقير بأنه كائن"غير صالح "يجب بتره". وسقطت النظريات الاقتصادية التي وصفته بأنه "كسول" يجب "تجاهله". وسقطت النظريات "الدينية" التي اعتبرته "مُذنبًا" يجب "معاقبته" وسقطت النظريات النفسية التي ارتاءته "مريضا" يجب "عَزلُه"!

ومن ثم فلم يعد الفقير هو المسئول الأوحد عن فقره. فغالبًا ما تلعب السياسات "المجحفة" للحكومات دورًا بالغًا في "إفقاره".. فبسقوط "الذاتية" في تفسير ظاهرة الفقر ومسبباته؛ لم يعد هناك مجال منطقي ولا أخلاقي لتداول مصطلح "فقراء" ولا تكراره في مجالس الاقتصاديين والسياسيين ولا حتى في خطابات المثقفين.. إذ بات تداول مصطلح "المُفقَرين "أكثر جدوى..
فقد ساهمت السياسات غير العادلة في توزيع عوائد التنمية في إخراج الملايين من أحضان الطبقة الوسطى الدافئة. وقذفت بهم إلى شوارع البطالة والفقر والديون؛ لينضموا إلى ملايين الفقراء في عالمنا العربى العائم على كنوز من النفط، مما تسبب في نشوء ظاهرة "المُفقرين "أو "الفقراء الجدد" وهم الذين اعتادوا لوقت طويل على حياة الطبقة الوسطى، وباتوا يعتمدون بشكل أساسى على إعانات حكومية، أو ما تسميه الحكومة "إعانة بطالة" أو إعانات للمتعطلين عن العمل. وهم أولئك الذين صنعتهم المعالجات المجتزأة أو الخاطئة لمشكلة الفقر، فانضموا إلى الملايين ممن سبقوهم في شوارع البطالة، وهووا بدون حول منهم إلى بئر الفقر وأتون "الحرمان"!
ولعلهم أيضًا هم الذين خرجوا تباعا للشوارع العربية ابتداء من نهايات 2010 يطالبون باستعادة حقوقهم المعيشية والإنسانية والسياسية التي أتت الثورات العربية على ما تبقي منها. وربما تؤول الأوضاع مستقبلا إلى انتفاضات إضافية جديدة يقوم بها "المُفَقَرون" إن لم تأخذ عملية الإصلاح الاقتصادي مداها المفترض! 

والمُفَقَرون الجدد ليسوا من العاطلين عن العمل أو من العمال غير المهرة؛ بل من الفئات العاملة والتي تستمد دخلها من العمل فقط. إلا أن دخلها هذا لم يعد كافيا، وربما لم يعد موجودا بالأساس.. وقد تظهر أزمة "المُفَقَرين" مع الأوضاع التي يضطر فيها حاملو المؤهلات العليا إلى العمل ليلاُ في المقاهي. أو أن تضطر فيه الحكومة إلى تبنى سياسات متناقضة ومجحفة تتجنب قضايا الفقر بتوجيه الشباب إلى العمل على "توك توك "وتعمل في الجانب الآخر على منع "استيراده"!
وتعد ظاهرة "المُفَقَرين" الجدد نقيضًا منطقيا لظاهرة الأغنياء الجدد أو "مُحدثي النعمة" تلك التي تجلت بقوة مع سياسات الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها الدولة إبان السبعينيات من القرن الماضي. ومن ثم فمخطئ من يتصور أن المُفَقَرين نتاجُ عامٍ أو عامين من "الغُبن "المفرط في توزيع عوائد التنمية فقط. بل هي حالة غذتها سنوات من الاستهلاك المفرط والمغذى من الديون؛ حتى أصبح الاقتصاد بجميع قطاعاته الإنتاجية معتمدا على اقتصاد الفائدة المتراكمة والديون، فبات كـ"بيت الورق الذي انتظر ريح الثورة لتكشف ضَعفَهُ" ولم تكتف تلك السياسات بإفقار الطبقة الوسطى والقضاء على عديد من ميزاتها التي راكمتها عبر السنين. بل تسببت بشكل كبير في تقويض استثمارات عديد من الأغنياء الذين فشلوا في سنوات الفساد العجاف من "تزويج" ثرواتهم بالسلطة الحاكمة!
وعموما فإننا نقصد بـ"المُفَقَرين الجدد" أبناء الطبقة الوسطى الذين انضموا حديثا إلى صفوف شريحة الفقراء الذين لم يتجاوز دخلهم اليومى 2 دولار يوميا، ويحملون خصائص إنسانية وسلوكيات استهلاكية وقيم ثقافية مغايرة، ربما يصعب عليهم التعايش مع ظروفهم الاستثنائية الجديدة فيشكلون شريحة مغبونة لا تشعر بالانتماء للوطن ولا تسعى لزراعته في نفوس أبنائها الجُدد، وتؤهلهم باستمرار للهجرة خارج البلاد، حتى ولو كان الثمن هو الموت ؛ فعندما لا يملك الإنسان شيئا عليه الذهاب إلى ما لا يعرف! وربما تصبح هذه الشريحة هي الفتيل الواعي وسط "بنزين" الجماهير "المستكينة "، الجاهزة للاشتعال متى شعرت بعجز الدولة عن إخماد نيرانها الغاضبة!
ولا نستطبع بحالٍ فصل هذه الظاهرة عن السياسات الاجتماعية والاقتصادية؛ التي خَلَّفَت آلافًا من الفقراء الجدد، دون أن تصنع لهم شبكة فعالة للحماية الاجتماعية.. تكون قادرة على حماية صغار الطبقة الوسطى من أن تهوي إلى طبقة الفقراء، وتَلَّقُف ضعاف الفقراء وحمايتهم من الوقوع في براثن المجاعة!
لقد خلفت قرارات الدولة بتخفيض قيمة الجنيه، بالتوازى مع اتباع سياسات ضريبية جديدة أثقلت كاهل صغار المستهلكين وكبرائهم، بالتزامن مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميًا؛ بسبب قلة الإنتاج، الناتجة عن التغيرات المناخية العالمية، وبالإضافة إلى رغبة الدول الكبرى المصدرة في التحكم في سعر الغذاء وتأليب الشعوب الفقيرة في الدول ذات الموارد الغنية على حكوماتها.. كل ذلك أنتج لدينا جيلا جديدًا من الفقراء، بسمات إنسانية مغايرة.. يدركون تماما أنهم صناعة دولة، ونتيجة لسياسات غير مدروسة، وربما يعتبرونها غير عادلة.. كانوا في الماضى يحبون الوطن.. وأخشى الآن أن يكرهوه!