د.محمد فتحي عبد العال يكتب : خلد أثرك

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : خلد أثرك
د.محمد فتحي عبد العال يكتب : خلد أثرك
 
 
ثق عزيزي الكاتب أنك إن لم تحفظ تراث أعمالك بنفسك فلن يقم بهذه المهمة أحد من بعدك ..
بالطبع ليست هذه قاعدة للجميع لكن من شذ عنها كانوا قلة وتحديدا في الفترات التي نطلق عليها الزمن الجميل ..
عدد قليل من الأدباء القدامى هم من انبرى من بعدهم من حفظ تراثهم المحاط بالقداسة  حتى يومنا هذا   فتجد مؤسسة ثقافية تحتفي برواية غير مكتملة إن جاز تسميتها رواية وهي على هيئة رسائل !! لأديب رحل منذ أكثر من ثلاثين عاما وجدت ضمن أوراقه وتجد أديبا عالميا راح من حوله في ماراثون لا ينتهي يسجلون كل صغيرة وكبيرة تحيط  بكتبه ويجمعون المتناثر من مقالاته في سنواته الأولى والأخيرة قبل رحيله ومنهم من اضطلع بمهمة أغرب وهي تسجيل ما كان يفكر فيه ولم يدونه !! بل ورصد حجم إنفاقه في أوجه البر !!.
الفارق بين مؤلفاتنا نحن ومؤلفات جيل الزمن الجميل  هو الاحتفاء الغربي الزائد بهذه المؤلفات عبر الجوائز الأدبية العالمية أو آراء الأدباء الأجانب وإشادة المستشرقين بأعمالهم  .هذه هي القاطرة الرئيسية التي حملت بعض هذه الأسماء وكتاباتهم لعالم الخلود حتى يومنا هذا ..هذا بالطبع لا يقلل من قيمة هؤلاء الكتاب واسهامهم بل يرفع من قيمتهم لكن لا يمكن اخفاء أن الغبطة تتملكنا من اليسر والسهولة وحجم التبادل الثقافي الذي جمع الكتاب من الشرق والغرب في سنوات الاستعمار الأجنبي والتمثيل الأدبي المتبادل هنا وهناك وتواجد أساتذة أجانب بشكل مستمر بالجامعات العربية الناشئة أسهموا في البناء الثقافي ونشر الوعي بين كتاب الماضي وهي أمور قلما تتيسر لكتاب اليوم إلا من طريق واحد ألا وهو التراجم من اللغات المختلفة وما أندر التراجم الصحيحة...
من العوامل الأخرى المهمة والتي مثلت سببا رئيسيا للاحتفاء بعدد محدود من الكتاب في هذه الحقب دون آخرين هو مدى قربهم وبعدهم من دائرة صنع القرار والمؤسسات والأحزاب والفرق السياسية في بلدانهم وهذا السبب رفع من رصيد عدد من الكتاب وجعلهم في دائرة الضوء فيما طوى الزمان أقلام أخرى عن عمد أحيانا أو بدون قصد أحيانا أخرى .. 
أدباء الزمن الجميل لم يكونوا بضعة أسماء وحسب لا نزال نردد أسمائهم من فرط ما يأتي ذكرهم مع كل مناسبة حتى أضحينا نحفظهم عن ظهر قلب دون غيرهم  ولما لا وهم يحتلون صفحات  الكتب المدرسية وعلى ألسنة وسائل الإعلام حينما تذكرنا بالزمن الجميل ورجاله !!لكن الحقيقة أن هذا الزمن المسمى بالجميل كان به أعداد كبيرة من الكتاب والأدباء العظام والشعراء أصحاب فكر لكن لم ينالوا نصيبهم من الشهرة الكافية في  عصرنا الحالي وفي عصرهم أيضا لعدة أسباب منها القديم وهو كونهم لم يقتربوا من دوائر الضوء والصخب السياسي وارتكنوا أن فكرهم له الكلمة الفصل وسيفرض نفسه يوما أو لكونهم متواضعين بشكل كبير مما جعلهم محتجبين عن جلبة الاضواء والنزاعات الحزبية والسياسية أو لدخولهم في صراعات مناهضة لأنظمتهم مما همش سيرتهم .هذا فيما يخص الماضي أما الحاضر فمن بين أسباب عدم ذيوع شهرتهم وشهرة كتبهم  : عدم اهتمام ورثتهم بتجميع إرثهم الثقافي أو بإعادة اصدار كتبهم علاوة على أن الصحافة في ذلك الزمان كانت مرآة العصر والجميع أفنى عصارة جهده في هذه الصحف بين مقالات ومشاركات وآراء  و تجميع ميراث هؤلاء الكتاب من بطون الصحف العربية مسألة شاقة وتحتاج لجهد ومال فأرشيفات الكثير من المجلات العربية القديمة متاحة نظير مقابل مادي ليس باليسير والباحثون ومن خلفهم المؤسسات الثقافية في عالمنا العربي  يبحثون عن شهرة الكاتب قبل أن يتجشموا مشاق مادية وذهنية في البحث بين الأرشيفات  والتجميع منها والتحقيق  لها والنشر بمجلدات عنها    لذا فمبادرتهم من أجل جمع تراث كتاب قدماء غير مشهورين مسألة شبه معدومة و نادرا ما يقبل عليها أحد.
كثيرا ما أحزن حينما أجد نسخ خطية من مذكرات بعض الفنانين والفنانات والأدباء وبعض العمد والمشايخ بالقرى ومفكرات لعاملين في بعض المصالح وأعمال إبداعية لبعض الكتاب الشباب   تعود للعشرينات والثلاثينات والاربعينيات من القرن الماضي  تباع على الأرصفة وتعاني الإهمال  ولا تجد من يشتريها ويحققها ويضعها على درجة أهميتها في إعادة كتابة التاريخ ورسم صورة صحيحة للحياة في مصر قديما أو ربما اشتراها أحد الهواة ولا يعرف قيمتها فتضيع إلى الأبد أو يحتكرها مجتزأ منها قطوف يسيرة يعرضها بين الفينة والفينة من أجل حصد متابعات على صفحته وهذه نماذج كثيرة وللأسف الشديد تتاجر بالتراث بشكل غير لائق ..
لذا يا عزيزي الكاتب فنصيحتي لك إجمع كتاباتك واسهاماتك بنفسك ولا تنتظر زمنا قد يأتي وقد لا يأتي يعكف فيه باحث ما على جمعه أو تتوقع من ورثتك أن ينفقوا على هذا الأمر من بعدك فلو حافظوا على مكتبتك القيمة من بعدك لجيل واحد فهو من الأمور الخارقة للطبيعة بلا شك ..
ما أقوله ليس اسوء التنبؤات  بل أقربها إلتصاقا بالواقع الحالي وحينما تكون مثلي من  زبائن باعة الكتب القديمة ومن متابعي صفحاتهم لن تندهش من نظرتي التي ربما تنعتها الآن بالسوداوية حينما تجد مكتبة كاتب كبير في أدب الأطفال مثلا بما فيها من كتب قيمة واهداءات وملاحظات ومسودات تؤرخ لرحلته الطويلة تفترش الرصيف بحثا عن من يحنو عليها ويشتريها بسعر الجملة !!!
لذا كن مبادرا أنت وليس سواك لحفظ تراثك الذي تحب أن يصل إلى العالم وأنت على قيد الحياة  ومقتنياتك القيمة التي تشعر أنها جزءا لا يتجزأ من رحلتك ومشوارك ونظرا لأني ولخلفيتي بالعمل بالجودة الطبية اعتدت أن اجرب أي أمر على نفسي قبل طرحه على الملأ لذلك فقد جمعت المئات من  المقالات التي نشرتها وعشرات الحوارات التي أجريت معي وعشرات الرؤى النقدية حول رواياتي وكتبي وسيرتي الشخصية ومؤلفاتي الإلكترونية الشعرية والأدبية وذكرياتي مع جائحة كوفيد ورحلتي معها من منظور شخصي ومن الزوايا العلمية والأدبية والدينية  فضلا عن مؤلفاتي التشاركية مع كتاب آخرون  في كتيبات إلكترونية وجعلتها متاحة كأرشيف كامل  لي على عشرات المواقع والمكتبات  الإلكترونية العربية والأجنبية لتبقى أثرا أني مررت بهذا الكون يوميا  وحاولت أن أترك بصمة بواقعه وأن اطرح حلولا لمستقبله...
 
 
* د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري