المنتجب علي سلامي يكتب : قطعة الحلوى

المنتجب علي سلامي يكتب : قطعة الحلوى
المنتجب علي سلامي يكتب : قطعة الحلوى
 
  
 
 
كنت في الصّفّ الأوّل الابتدائيّ في مدرسة  بلدتنا- التي أصبحت اليوم مُجمّعاً تربويّاً - حينما قُرِع الجرس اليدويّ و أسرعتُ مع زملائي في الفرصة لأخرج معهم من باب ساحة المدرسة الأسود الضّخم ، وأقطع الشّارع الأساسيّ اليتيم في المدينة الملاصق رصيفه الضيّق لسور المدرسة  ،قاصداً دكّان( معين) 
-رحمه الله- المقابل لمدرستنا في الجانب الآخر لهذا الشّارع.....
معين كان تاجراً شابّاً طيّباً نحيلاً يعاني مرضاً ملازماً له ،لاتغادر الابتسامة وجهه الشّاحب وكان دائم الجلوس على كرسيّ الخشب خلف الطاولة ولا يعاتب أو يخاصم أحداً... 
حينما دخلنا المكان المقصود شاهدت بعض زملائي وهم أكبر سنّاً منّي سامحهم الله يستغلّون الزّحمة في الدّكان المتواضع وعجز صاحبه عن الحركة وعن مراقبة كلّ مايحصل ، ويخطفون قطعاً صغيرة من الحلوى المغلّفة(البسكويت) دون أن يدفعوا ثمنها للتّاجر الطيّب المريض المنهمك في البيع وتلبية طلبات زبائنه وأغلبهم تلاميذ من المدرسة ذاتها....
أعجبتني براعتهم و(شطارتهم ) في خطف تلك القطع اللذيذة وإخفائها في ملابسهم دون أن يثيروا انتباه التّاجر المريض نهائيّاً ودون أن يدفعوا قرشاً واحداً....
وقد شجّعوني على فعل مافعلوه خوفاً منّي أو شفقة عليّ، أو لأسباب أخرى، والله أعلم...
وراحوا ينعتونني بصفاتِ الجُبن وقلّة المهارة والضّعف، كي يشجعوني لأخطف مثلهم بعض القطع المعروضة على طرف الطّاولة الطّويلة التي تصل الحائط الأوّل بالحائط الثّاني لذلك الدّكان المتواضع...
تراجعت قليلاً بسبب الخوف من التّاجر ومن زبائنه الواقفين المنتظرين، ثمّ شجّعتني كلماتهم الحماسيّة وأشكال قطع الحلوى الفخمة والفوضى في المكان......
 فتقدّمت بهدوء وخطفت بأصابع يمناي المرتجفة النحيلة قطعةً صغيرةً واحدةً و أسرعت في وضعها في جيب( الصّدريّة) التي أرتديها، وركضت بسرعة  لأقطغ الشّارع إلى ساحة المدرسة متخلّصاً من الخوف ضاحكاً مُعجباً بخفّتي وبراعتي التي اكتسبتهما حديثاً...
لم ألتهم قطعة الحلوى - التي أعرف طعمها اللذيذ سابقاً لأنّ والدي كان دائماً يصطحب منها صندوقاً من أجلنا إلى البيت - في نهاية الفرصة كما فعل غيري بل تركتها في جيبي، واصطحبتها ببراءتي إلى بيتنا الذي كان والدي قد استأجره لنا لأعرضها على أبي وأمّي وإخوتي متفاخراً بمهارتي في الحصول عليها هذه المرّة دون أن أدفع ثمنها الذي كان فرنكاً كما أذكر....
أخبرت أمّي أولاً وانتظرت منها إعجاباً برجولتي المبكرة، وبولدها (الشّاطر) الماهر الشّجاع ، لكنّ وجهها احمرّ غضباً وأخذت منّي قطعة الحلوى وخبّأتهَا فوق الخزانة، ثمّ قالت لي بصوتٍ تختلط فيه السّخرية بالغضب و الحزن والغيرة:
(- ياماما ليش عملت هيك.... مابتعرف إنو هادا حرام...بعدين نحنا منقصيين عنك شي...ياعيب الشوم عليك....أبوك عميجبلكن ياها بالصّندوق..).....
 
وتوالت بعد ذلك أصواتٌ  من أفراد أسرتي تلومني كلّها وتوبّخني على مافعلت....
في اليوم الثّاني وبعد أن نمت الليل باكياً نادماً مقهوراً شاعراً بالخيبة ، وبعد دروس في الأمانة والصّدق  شرحها لي ،ذهب أبي إلى مدرستي وطلبني - رحمه الله - مُستأذناً من معلّمتي الآنسة مريم (أمّ رامي)- رحمها الله- لأخرج معه خمس دقائق فقط إلى دكّان معين القريب، وفي يده قطعة الحلوى التي روى قصّتها للكادر التعليميّ كلّه في المدرسة.....
أمسك أبي بيدي اليسرى وأدخلني معه الدّكان  وألقى التحيّة على صاحبه وبيده الثّانية المباركة كانت قطعة الحلوى التي أعطاني إيّاها وكلّفني آمراً ،و التّاجر الطيّب الذي كان وحيداً هذه المرّة يشاهد ويستمع لما يحصل و يُقَال، أن أعيد هذه القطعة إلى مكانها في طرف الطّاولة وأعتذر من صاحب الدّكان على مافعلته يدي بالأمس معبّراً عن ندمي وتوبتي.