حسني حنا يكتب : كاتدرائية السيدة في طرطوس "اليوم مازالت هذه الكنيسة تجتذب شعوب العالم"

حسني حنا يكتب : كاتدرائية السيدة في طرطوس "اليوم مازالت هذه الكنيسة تجتذب شعوب العالم"
حسني حنا يكتب : كاتدرائية السيدة في طرطوس "اليوم مازالت هذه الكنيسة تجتذب شعوب العالم"
 كاتدرائية السيدة في طرطوس
"اليوم مازالت هذه الكنيسة تجتذب شعوب العالم"
*William of Tyre
 
منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كانت المدن الكنعانية تتوالى كحبات العقد على الساحل السوري. وكانت كل منها تشكل مملكة وهي (أوغاريت. أرواد. جبيل. صيدا وصور)
 
أرواد وبناتها
أرواد... هي الجزيرة الوحيدة المأهولة على الساحل السوري، وهي تبعد عن البر نحواً من ثلاثة كيلومترات. وقد كانت تتبعها عدة مدن ومواقع على الساحل القريب منها ومن أشهرها طرطوس وعمريت. لكن العالم الجغرافي استرابون Strabo (63 ق.م – 23 م) لم يذكر مدينة طرطوس. عندما قدم وصفاً جغرافياً للساحل السوري. واسم طرطوس المشتق من كلمة (أنترادوس) ومعناه (مقابل أرواد) ظهر في العصر الروماني الذي ازدهرت فيه هذه المدينة.
وكان سكان أرواد (الكنعانيون) أو (الفينيقيون) كما أطلق عليهم اليونانيون القدماء، هم من بنوا مدينة طرطوس. وكانت أرواد وممتلكاتها. تدين بآلهة الكنعانيين (إيل وبعل وعشتار) وفي العهد الروماني عبدت آلهة الرومان. ثم اعتنقت المسيحية في فجر تاريخها. وكانت أقدم الممالك على الساحل السوري، التي مشت على خطوات السيد المسيح، وتعاليمه المقدسة.
وقد جرى الاعتقاد بأن القديس بطرس St.Peler قد أقام في طرطوس أول احتفال بإقامة ذبيحة، وهو ذاهب في طريقه من القدس الى أنطاكية. وقد ضمت طرطوس أيضاً أيقونة السيدة مريم العذراء، التي قام برسمها القديس لوقا الانجيلي St.Luke وهذا مالفت الأنظار الى قدسية هذه المدينة. ودفع الفرنج الذين دخلوها في عام (1099) الى إنشاء كاتدرائية كبيرة فيها، على اسم السيدة العذراء، وإقراراها كرسياً اسقفياً.
 
 
كاتدرائية طرطوس
يذكر المؤرخ الكبير (د.فيليب حتي) في كتابه (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين): أن الحصون كانت ابرز ماخلفه الصليبيون (الفرنج) في سوريا، وتجئ من بعدها الكنائس. وقد اعتمد الفرنج على الطرازين الروماني والغوطي (الفرنسي المبكر) وزينوها بالزخارف السورية والبيزنطية.
ويعود تشييد كاتدرائية طرطوس إلى القرن الثاني عشر للميلاد، وشرع في بنائها عام (1130) بحسب العالم المؤرخ الفرنسي (كميل إنلارت).
وكان الفرنج قد استولوا على مدينة طرطوس في العام (1099).
ويؤكد العالم الجغرافي الادريسي، وجود كاتدرائية طرطوس في عام (1150) فيقول: "في طرطوس بيعة، في موضع تكريم وتعظيم من كل الطوائف..." والبيعة هي الكنيسة الكبيرة.
ومن المعتقد أن كاتدرائية طرطوس، قد شيدت على أنقاض كنيسة قديمة، ترقى الى زمن الامبراطور البيزنطي قسطنطين الكبير Constantine the Great الذي حكم بين عامي (306- 337) وكانت أول كنيسة على اسم العذراء في العالم.
ومن المعلوم أن مؤرخي القرن الثالث عشر، لم يأتوا على ذكر تلك الأيقونة، عند كتاباتهم عن حروب الفرنج في الساحل السوري لكن المؤرخ (جورج باسيومير) يذكر نقلاً عن كاتب يوناني أنه في 3 آب/ اوغسطوس من عام (1291م) عندما نزح الفرنج الى قبرص، حاملين معهم الأيقونة المقدسة، شوهدت وهي تذرف دموعاً. وذلك بعد أن استولى المماليك على مدينة طرطوس.
تسرد الروايات ان زلزالاً عنيفاً، ضرب مدينة طرطوس في عام (387م) فهدمها، ولم ينج منها الا مذبح الكنيسة والأيقونة.
فاعتبرت الأيقونة عجائبية، وأصبحت مع المذبح مقدسين. وصارت كنيسة طرطوس، موضع تقديس وتبجيل كبيرين، وأطلق عليها ام (كنيسة الحجاج) الذين كانوا يأتونها من كافة المناطق و(سيدة طرطوس Notre Dam de Tartous) ونذكر من حجاجها في عام 1204م كونراد Konrad أسقف مدينة (هالبرشتادت) الذي تقول الرواية انه قد شفي بأعجوبة بعد زيارته كاتدرائية طرطوس، وكذلك ملك قبرص (هنري الأول في عام 1218م)
 
وصف الكاتدرائية
تبلغ أبعاد الكاتدرائية (41 * 17.5 متراً) ولها ثلاث مداخل. رئيسي في الواجهة الغربية، وآخران على جانبي الكنيسة من الشمال ومن الجنوب.
وتتألف كتلة البناء من ثلاثة أروقة أو أجنحة. وينقسم الجناح الرئيسي الشديد الارتفاع الى اربع معربات على شكل قناطر نصف اسطوانية (عقد مدبب) أما الأروقة الجانبية، فترتيبها مماثل أيضاً، لكنها ذات عقود (متصالبة) تنتهي بصليب وقد بنيت الأروقة على ركائز متلاحمة، بديعة المنظر وأخاذة، وتأخذ شكل الصليب.
والتيجان والركائز والأعمدة، فهي تشبه الى حد كبير الطراز (الكورنثي) اليوناني، لكن زخارفها الورقية، تشتمل على عدد كبير من الأشكال. منها أوراق عريضة منحنية، وتخريم نباتي، ينفرج عن أزهار ناعمة، وورود صغيرة في الوسط، استبدلت في بعض الأحيان برؤوس أبطال وقديسين.
وتلاحظ في قبة صدر الهيكل من الرواق الشمالي خمس منحوتات إحداها تمثل حمامة (ترمز الى الروح القدس) وتمثل الأخرى رموزاً للانجيليين الأربعة (متى. مرقص.لوقا ويوحنا).
ويدخل الضوء غزيراً، عبر ثلاثيات نوافذ الواجهة الغربية، ونوافذ المكان المخصص للكورس. وعلى طرفي الكنيسة من الشرق ثمة برجان مستطيلان في كل حجرة، يستخدمان لملابس الكهنة أو غرفة وحفظ الهبات، أو مايسمى بغرفة الشهادة، لحفظ ذخائر القديسين الشهداء.
ونذكر أن البابا (كليمت الرابع Clemet IV) قد قرر في عام (1261م) تقوية البرجين، وبناء برجين آخرين في الواجهة الشرقية، وهكذا بدت الكاتدرائية بأربعة أبراج (حسب الإدريسي) إلا أنه لا يوجد شيء منها اليوم.
والوصول الى سطح الكاتدرائية، يتم عن طريق سلم حلزوني ودهليز أقيما في جدار الهيكل، من الجهة الشمالية الشرقية.
ويوجد في أرضية الرواق الجنوبي (خزان ماء) يخزن بالماء عن طريق قناة فخارية، لاتزال بعض آثارها باقية الى اليوم.
وتكمن طرائف هذه الكنيسة في الركيزة اليسرى من الجناح الرئيس، إلا أن قاعدة الركيزة، تنتصب وسط مكعب، فيه قبة واطئة، ولاشك أن هذا المكعب كان مدخلاً للكنيسة البيزنطية القديمة. فكان الحجاج في القرنين الرابع والخامس، يعبرونه ليصلوا الى أيقونة العذراء، ويتناولن القربان، من مذبح القديس بطرس.
ويذكر المؤرخ ورئيس أساقفة مدينة صور وليم الصوري (1175 – 1185) كثرة زوار هذه الكنيسة في زمنه بقوله: "واليوم هذه الكنيسة تجتذب شعوب العالم".. حيث كانوا يقصدونها للزيارة والشفاء والتبارك. 
 
وقائع وأحداث
-في عام (1099) رسا أسطول (غونيمر) في جزيرة أرواد ، وكان هذا العمل مقدمة لحروب الفرنج في الساحل السوري.
-في عام (1102) قام (ريموند دو سان جيل) على رأس جيش كبير بالاستيلاء على طرطوس (21 نيسان/ ابريل) من ذلك العام ومنذ أول يوم من دخولها، أخذ يعمل على تقوية حصونها وأبراجها مستفيداً من موقعها الاستراتيجي.
-في عام (1177) ضرب الساحل السوري وطرطوس زلزال مدمر.
-في عام (1188) وصلها صلاح الدين الأيوبي بجيشه المكون من الاكراد والتركمان، فأحتل بعض اجزاء طرطوس. وقام بتدمير أبراج الكنيسة. ثم غادرها نحو الشمال. إلا أن الأبراج تم ترميمها بعد ذلك.
-في عام (1202) ضرب الساحل السوري زلزال كبير ألحق بالكاتدرائية أضراراً. لكن (فرسان الهيكل) الذين حكموا المنطقة بين عامي (1152- 1291) قاموا باصلاحها بعد فترة وجيزة. وحصنوا مبنى الكنيسة، بسبب التهديدات المتكررة من المماليك الى أن استولوا عليها، وحولوها الى مسجد ثم الى اصطبل للخيول ومستودع تخزين.
-في عام (1213) كانت كاتدرائية طرطوس، مسرحاً لمقتل (ريموند) أكبر اولاد الملك (بوهيمند) ملك أنطاكية، على يد اثنين من جماعة الحشاشين أتباع (سنان شيخ الجبل) صاحب قلعة مصياف.
-في عام (1222) جرى زواج الأميرة الحسناء (أليس دي شامبين) أرملة ملك قبرص (بوهيمند الخامس) وسط احتفالات كبيرة رائعة في كنيسة سيدة طرطوس. وقد وصفت الكاتبة الفرنسية (ميريان هاري) حزن الأميرة على حبيبها الملك الراحل فكتبت: "... وكانت الدموع التي تتساقط من عينيها البراقتين، أكثر حزناً ,اشد لمعاناً، من تلك الجواهر، التي ازدان بها ثوبها الجميل".
-في عام (1268) دمر السلطان المملوكي (بيبرس) مدينة أنطاكية ومدن الساحل السوري بعد أن نهبها وأحرقها وهدم الكثير من أبراجها وأسوارها، وأسترق أهلها، وقتل الآلاف منهم ذبحاً، ونقل العديد منهم الى مصر. وقد بلغ عدد ضحاياه من المسيحيين السوريين اكثر من مائة الف إنسان. وقام بهدم جميع الكنائس التي وصلت الى يديه.
-في عام (1282) عقد سلطان المماليك (قلاوون) هدنة مع الفرنج تشمل عكا والساحل السوري مدتها عشر سنوات.
-في عام (1367) قام جيش قبرصي بمهاجمتها، وكذلك في عام (1369) حيث أصابها الكثير من الدمار.
-في عام (1857) حول العثمانيون كاتدرائية طرطوس الى جامع، وأضافوا إليها مأذنة. ثم عسكر فيها جيش تركي.
-في عام (1876) كانت هذه الكاتدرائية زريبة للماعز في أيام الشتاء. كما ذكر المعلم بطرس البستاني في موسوعته (دائرة المعارف).
-بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت طرطوس تابعة للانتداب الفرنسي. وقد قام الفرنسيون بترميم واسع لهذه الكاتدرائية واستقبلوا فيها الكثيرين من اللاجئين اليونانيين والأرمن الفارين من مجازر العثمانيين.
-في عام (1956) عمدت الحكومة السورية الى تحويلها الى متحف يضم الآثار، التي تم اكتشافها في المواقع الأثرية على الشريط الساحلي السوري.
لقد كانت كاتدرائية السيدة في طرطوس درة الكنائس التي بناها الفرنج في سوريا، واكملها وأجملها. وهي مازالت تحتفظ الى اليوم، بقسم كبير من هندستها الرائعة. ومازالت أفضل هيكل قائم، من زمن الفرنج.