أخبار عاجلة
السيطرة عل حريق شقة فى إمبابة دون إصابات -

حسنى حنا يكتب: فيلون الجبيلي والتاريخ الفينيقي.. مقتطفات

حسنى حنا يكتب: فيلون الجبيلي والتاريخ الفينيقي.. مقتطفات
حسنى حنا يكتب: فيلون الجبيلي والتاريخ الفينيقي.. مقتطفات

"الفينيقيون شعباً وحضارة، كانوا ومازالوا يثيرون اهتماماً كبيراً، منذ أن كشف هوميروس عن خصائصهم البحرية والتجارية"

 

 

يعرف كل شعب بأسمه قبل كل شئ، واهمية الاسم ماتنفك تتعاظم، حتى لتجعل من البحث في معناه أمراً ضرورياً. فقد عرف الشعب الذي استوطن الساحل السوري. منذ قرابة خمسة آلاف عام باسم (فينيقي Phonix) وعرفت البلاد باسم )فينيقيا Phoenicia) والتسميتان اغريقيتان، ترجعان الى زمن الشاعر اليوناني القديم هوميروس Homer (القرن 8 ق.م) ان لم يكن أقدم من ذلك.. وفي المصادر المحلية نجد اسم (كنعاني) يطلق على الشعب و(كنعان) على البلاد. وقد ورد هذا الاسم في الوثائق التاريخية لمصر، وبلاد مابين النهرين. كما نجد هذا الاسم في شمال افريقيا، يتمسك به من هم من اصل فينيقي كما ذكر القديس أوغسطين أسقف مدينة عنابة (هيبو) في الجزائر. وقد تم الكشف عن نقود معدنية، تعود الى الحقبة الهلنستية جاء فيها (لاوديسيا في بلاد كنعان)

 

 

أصل الفينيقيين

يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت (اواخر القرن 5 ق.م) أن موطن الفينيقيين الأصلي، هو الساحل الأرتيري. ويذهب سترابون Strabo الى القول بأن أصلهم من جنوب بلاد الرافدين، ويثني على ذلك بلايني Pliny ولكن يبدو أن تكون الشعب الفينيقي عموماً، قد نتج عن تطور تاريخي في المنطقة السورية، لاعن هجرة شعب جاء من الخارج. ويذكر فيلون الجبيلي Philo of Byblos: "أن الفينيقيين أصيلون في موطنهم، وأنه ليس الناس وحدهم بل الآلهة وكل الثقافة الانسانية، إنما مصدرها بلادهم"

وقد أسس الفينيقييون مدناً عديدة على الساحل السوري، من أهمها أوغاريت وأرواد وجبيل وبيروت وصيدا وصور. التي شكلت كل منها مملكة مستقلة يحكمها ملك، يوجد الى جانبه مجلس للشيوخ. ولضيق المساحة بين الجبال والبحر، وعلى الرغم من خصوبة الأرض، اتجه الفينيقييون بأنظارهم الى البحر، وبرعوا في الملاحة والتجارة البحرية، في حوض البحر المتوسط، وأقاموا محطات ومدناً تجارية على سواحله، وقد داروا بسفنهم حول افريقيا، كما وصلت مراكبهم الى بريطانيا.وهناك من يقول بأنهم وصلوا الى القارة الأمريكية.

 

مدينة جبيل

لمدينة جبيل Byblos مسقط رأس فيلون الجبيلي تاريخ طويل، يبدأ مع بداية الألف الثالثة قبل الميلاد. كما كانت لها اهمية كبيرة بين المدن الفينيقية القديمة.

وقد أدت الحفريات الفرنسية، التي تمت بين عامي (1921 – 1936) الى الكشف عن العديد من الأنصاب، التي تحمل كتبات فينيقية، تذكر اسماء عدد من حكام جبيل، في القرن العاشر قبل الميلاد، واشهرهم الملك (أحيرام Ahiram) لذي يحمل تابوته الحجري، أقدم وأطول كتابة فينيقية معروفة حتى الآن. وهي تعد أقدم الأدلة الموجودة على الكتابة الأبجدية الفينيقية، المكونة من (22) حرفاً ساكناً. كذلك اكتشفت في المدينة اساسات السور، الذي كان يحيط به، وبقايا أحجار المعابد التي يعود بعضها الى الألف الرابعة قبل الميلاد.

ومما تجدر الاشارة اليه، أن مدينة جبيل ، اصبحت في القرن السادس قبل الميلاد، المركز الرئيس لتجارة اوراق البردي المصرية، وتصديرها الى بلاد الاغريق، وقد اشتهر هذا البردي، بحيث ان اسم المدينة، اطلق على مادة الكتابة (Biblion) بالاغريقية. كما أن تسمية التوراة (Bible) مشتق من هذا الاسم..

ويبدو أن فيلون قد وعى –كما يتضح من كتاباته- كل هذه الحقائق عن تاريخ مدينته بشكل خاص، وعن تاريخ فينيقيا بشكل عام.

 

فيلون الجبيلي

يعتبر فيلون الجبيلي، أول مؤرخ فينيقي معروف حتى الآن، نقل الينا أخباراً عن بلاده، عن مؤلف اقدم منه، عاش قبله بقرون عديدة هو (سانكونياتون Sanchoniathon)

وفيلون الجبيلي مفكر فينيقي، ذو ثقافة اغريقية، عاش بين عامي (64- 141م) وهو معروف من خلال عمله الرئيس (التاريخ الفينيقي Phoinikike Historia الذي هو عبارة عن سجل للأساطير، والتقاليد الفينيقية. ولكن لم يصلنا هذا التاريخ كاملاً. بل حفظت مقتطفات منه فقط، في عمل مؤرخ الكنيسة، واللاهوتي البيزنطي (يوسيبيوس Eusebius) القيصري (نسبة الى مدينة قيصرية في فلسطين) المدعو (التاريخ الكنسي) وقد حفظ يوسيبيوس تلك المقتطفات من تاريخ فيلون الفينيقي، كي يستخدمها كمسيحي متدين، في حربه ضد الوثنية، في القرن الرابع الميلادي. وليظهر طبيعة المسيحية، وجوهرها الصحيح، من خلال مقارنتها مع الأديان الوثنية. لذلك أوردها في الكتاب الأول من عمله ليظهر الوثنية وعيوبها، من خلال إقتباس شواهد من كتب معتنقيها، في الأزمنة الغابرة!..

ومما لاشك فيه أن يوسيبيوس، اقتبس من عمل فيلون الأشياء التي تناسب غرضه. ولم يترجم العمل كاملاً. إذ لم يكن هدفه ذلك. وبالتالي يمكن القول ان فصولاً كثيرة لم تصلنا في هذا العمل الهام!..

 

 

سنكونياتون ومصادره

من المعروف أن عمل فيلون المدعو (التاريخ الفينيقي) هو عبارة عن ترجمة لمصدر أصلي كتب من قبل شخص يدعى سانكونياتون الذي عاش فى مدينة بيروت. وكان يتمتع باحترام كبير لدقته وأمانته في كتابة التاريخ الفينيقي.

ويقول فيلون ان عمله هو اكثر ثقة من اي شئ آخر موجود في المصادر الاغريقية. وقد اعتمد على كتاب أقدم منه. كما اعتمد على تقارير الكهنة الفينيقيين. ويبدو أن كل مدينة في الشرق القديم، كانت لها سجلاتها الخاصة، التي تضم مراسلات ومعاهدات، واخباراً عن أحداث سياسية أو اقتصادية وغيرها.. وكذلك في المعابد بالاضافة الى الكتابات الدينية، كانت هناك أرشيفات تحتوي على سجلات متنوعة.

وفي زمن حرب (طروادة Troy) الذي يؤرخه بورفيروس عادة بعام (1184 ق.م) وهو أقدم حادث تايخي مسجل لدى الأغريق. بينما تجهل المصادر الاغريقية، التاريخ الحقيقي للفينيقيين. ولم يرد ذكر (سانكونياتون) قبل فيلون الجبيلي. وقد جاء عنه في بعض المصادر أنه فيلسوف صوري، عاش في زمن حرب طروادة. وكتب عن عقائد الفينيقيين، وكان محباً للحقيقة. جمع وكتب وأتم باللغة الفينيقية، التاريخ القديم، من السجلات والوثائق القديمة، المحفوظة في العابد المنتشرة في مختلف المدن الفينيقية.

ويذكر فيلون في مقدمة كتابه (الجزء الاول) مايلي:

"هذه هي الحقائق.. سافكونياتون ذو علم غزير، محب للأطلاع. رغب في ان يعرف كل انسان، ماحدث منذ البداية عندما بدأ الكون بالتشكل، بعناية تامة".. وهو يتابع قائلاً:

"بحث أعمال (توتوس Tautus) هو فعل ذلك، لأنه عرف أن توتس كان أول شخص بين اولئك الذين تحت الشمس، الذي فكر باختراع الأحرف والذي بدأ بكتابة السجلات، واضعاً بذلك أسس التعليم كما كانت"

ويرى العالم (إيسفلت Eissfeldt) أن سانكونياتون عاش في بيروت، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وترجم فيلون الجبيلي عمله، من الفينيقية الى الاغريقية. وهذا يعني انه عاش في زمن الأساطير الأوغاريتية. وبالتالي اعتمد على مصادر مباشرة في كتابة تاريخه.

 

 

تاريخ فليون الفينيقي

إن طبيعة المؤلف، تعود الى العصر الهلنستي، الذي سادت فيه فكرة كتابة تاريخ العالم. فتاريخ فليون الفينيقي تاريخ عالمي بأصل محلي، وهو يشبه غيره من الأعمال، التي كتبت في تلك الفترة، مثل كتابات ديودورس الصقلي التاريخية وغيرها..

وصف فليون الجبيلي الآلهة، والميثولوجيا الفينيقية، وصفاً مستفيضاً، يمكن تقسيمه الى ثلاثة أقسام (أصل الكون) و (أصل الثقافة) و (نسب الآلهة) عبر من خلالها عن المفاهيم القديمة في الديانة الفينيقية.

لكن .. ماهي دوافع فيلون الجبيلي لترجمة وتحقيق (التاريخ الفينيقي)؟!.. ويبدو ان فيلون قد أنجز عمله لتحقيق فكرة اساسية، وهي عرض التاريخ الفينيقي، بشكل متتابع وإظهار المساهمات الفينيقية، في الانجازات الحضارية الكبرى، التي حققتها البشرية. كبناء البيوت والمراكب والصيد والزراعة وغيرها..

وربما كان الهدف من ذلك هو التعبير عن وطنيته (الفينيقية) وإظهار معاداته للتفوق الثقافي الاغريقي السائد في ذلك العصر.

لكن فيلون لم يكن الفينيقي او المشرقي الوحيد، الذي عبر عن عدائه للاغريق، غير أنه كان أفضل مثال على ذلك. وتظهر من بقايا عناوين كتبه المفقودة، دلائل اهتماماته الأدبية الواسعة، وحسه العلمي وإمكاناته الكبيرة. مما يدل على أنه، كان مؤلفاً واسع الاطلاع!..

 

مقتطفات من (التاريخ الفينيقي)

*المقتطف الأول (مقدمة):

يقول فيلون: "أنا بحثت هذه الأشياء، لأنا رغبنا أن نعرف التاريخ الفينيقي بدقة، وفحصنا مواداً كثيرة، ليست تلك المحفوظة لدى الكتاب الاغريق لانها غير ثابته".. وبعد ملاحظة أخرى يقول:

"من الضروري الوصول الى موضوع مبدئي في البحث عن الحقيقة، أن نذكر أن الفينيقيين والمصريين، هم الذين أخذت عنهم بقية البشرية افكارها.. هؤلاء عدوا آلهة كبرى، اولئك الذين اكتشفوا اشياء مفيدة للحياة.. اولئك الذين افادوا شعوبهم بطريقة ما، فعبدوهم كآلهة. وبنوا لهم بعد وفاتهم معابد واقاموا لهم نصباً ومسلات باسمائهم. وقد عظمهم الفينيقيون كثيراً واقاموا اعياداً كبرى على شرفهم".

 

*المقتطف الثاني (الكتاب الاول):

يقول فيلون: "عندما اصبح الهواء مضيئاً. عندها وبسبب سخونة كل من البحر والأرض. نشأت رياح وغيوم وامطار، وطوفانات غزيرة من المياه. وعندما التقت هذه الأشياء مع بعضها، وتصادمت، نتج عن ذلك الصوت الرعد ولمع البرق، وولد من الريح مخلوقات بشرية رجل وزوجته أولاً. عدت الشمس سيدة السماء. وتم اكتشاف النار وبناء البيوت واكتشاف المعادن واختراع الكتابة الأبجدية، واختراع المراكب واستخدام المحراث.." ويضيف فليون: "الاغريق الذين تفوقوا بذكائهم الطبيعي، وضعوا يدهم أولاً على هذه القصص، ثم أعادوا كتابتها بطرق مختلفة"!..

 

 

*المقتطف الثالث (الأضاحي):

كانت عادة عند الناس القدماء، إذا حلت بهم أخطار جسام ولتجنب التدمير الكامل، أن على حكام مدينة او شعب، تقديم أضاحي للآلهة، وخاصة للاله (إيل El).

 

*المقتطف الرابع (عن كرونوس):

ذكر المؤرخ يوسيبيوس: "الرجل نفسه –أي فيلون- كتب التعليقات الاضافية التالية عن كرونوس في كتابه (عن اليهود): "توتوس الذي يدعوه المصريون (توت) كان بارزاً في الحكمة بين الفينيقيين، وكان الأول في القضايا الدينية، وفي هجر جهل العامة، وإدخال المبدأ العلمي" أما كرونوس، فهو الذي أوجد المدينة الأولى جبيل في فينيقيا، وأحاطها بسور.

 

هوامش..

1/(خنا) هو الجد الأسطوري للفينيقيين بحسب فيلون

2/(كنعان) طالما ظل هذا الاسم يعد اسماً سامياً وفيما بعد مالبث هذا الاسم ان ظهر في نصوص مسمارية عثر عليها في تل العمارنة بمصر، وبوغاز كوي والالاخ في بلاد الاناضول. على شكل (كيناخني) او (كيناخي) وهو يقابل كلمة (كنعن) في العبرية والفينيقية والمصرية القديمة، وبحسب (سباتينوموسكاتي) فإن (كنعن) هو الشكل الأصلي.

3/ورد فى العهد القديم (التوراة) معلومات عن قوم يسميهم العبرانيون بالكنعانيين الذين اقاموا قبلهم في الاقليم (السوري – الفلسطيني) وكل شئ أشير اليه في العهد القديم، على انه ارث كنعاني يمكن ان ينطبق على المدن الفينيقية.

4/اللغة العبرية هي لهجة كنعانية يسميها العبرانيون (شفة كنعان)

5/فوينيكس Phoinix

من المؤكد ان الاكثر اقناعاً بين سائر التفسيرات الاغريقية لكلمتي فينيقي وفينيقيا هو اشتقاقها من المفردة (Phoinix) بمعنى (أرجواني).

6/سانكونياتون:

لقد ساورت الشكوك الكثيرين من العلماء قبل اكتشاف نصوص اوغاريت في العام (1929) حول تاريخية سانكونياتون وصحة المعلومات الواردة عنه، عند فيلون الجبيلي وغيره. ولكن الاكتشاف المذكور وبخاصة النصوص الميثولوجية، أظهرت صحة الكثير من المعلومات التي اوردها فيلون في كتابه نقلاً عن سانكونياتون وكان أول من اشار الى اهمية اكتشاف اوغاريت لفهم عمل فيلون هو عالم اللغات القديمة الفرنسي (شارل فيرولو) في العام (1931) الذي كان له الفضل، في فك رموز النصوص الأوغاريتية وقراءتها.

7/هيرودوت:

نقرأ في مقطع لهيرودوت: "هؤلاء الفينيقيون الذين جاؤوا مع قدموس Cadmus في جملة أنواع العلوم الأخرى، جاؤوا بالحروف الأبجدية الى بلاد اليونان، وكانت غير معروفة لدى الأغريق، على ما أحسب حتى ذلك الحين"!.. هيرودوت (V58 – 61).