إدوارد فيلبس جرجس يكتب: حكاية بلا عنوان

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: حكاية بلا عنوان
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: حكاية بلا عنوان

وقف آدم نور خلف التافذة الزجاجية ، يراقب ندف الثلج البيضاء القطنية وهي تهبط بكثافة ، وبالرغم من الدفء الذي تشعه المدفأة داخل المنزل ، انتابت جسده قشعريرة وهو يرى جارته تترجل خارج سيارتها ، وتهرول نافضة عن معطفها ندفات الثلج قبل أن تدلف إلى داخل البناية . سكن آدم شقته التي تجاور شقتها منذ خمس سنوات تقريبا ، ، لم تزد العلاقة بينهما عن تبادل الابتسامة عندما تجمعهما الصدفة على السلم ، خاطر مفاجئ داهمه ، قد يكون مبعثه الإحساس بالملل والكآبة وهو حبيس الجدران وحيدا في ليلة رأس السنة ، هرول نحو باب الشقة وفتحه ، تلاقت أعينهما  ، إزدادت مساحة الابتسامة فوق وجهيهما مع ما يتناسب وهذه المناسبة ، الجميع يحتفلون برأس السنة الجديدة ، تحركت شفتاه مع ابتسامته :

_ سنة سعيدة .

_ وأنت أيضا .

_ هل ستحتفلي بهذه المناسبة ؟

مطت شفتيها وأجابت :

_ وأنت هل ستحتفل بهذه المناسبة ؟

 مط شفتيه يقلدها وأجاب :

_ أحتفل مع ذكرياتي .

أحست بصدره الممتلئ بالكآبة وقالت ببساطة :

_ دعك من ذكرياتك وتعال نحتفل معا .

أضاءت وجهه ابتسامة ، دعوة لم يكن يحلم بها ، تمتم سريعا :

 _ شكرا .. شكرا لهذه الدعوة .. إسمحي لي بخمس دقائق لأستبدل ثيابي .

 ابتسمت وهي ترى في عينيه سعادة طفل فاز بقطعة من الشيكولاته .

 خمس سنوات " آدم نور " يجاور " جوليا " ولم يتعد ما بينهما ابتسامات المجاملة ، فجأة قفزت العلاقة لدعوى لقضاء رأس السنة في حفل خاص جدا . اقتضاه واجب الذوق أن يصطحب معه زجاجة من النبيذ المعتق ، استقبلته بابتسامة مرحبة ، كانت ترتدي ثوبا رقيقا محتشما ، ومكياج خفيف لم يخف من نقاء بشرتها البلورية ، دعته للجلوس أمام المدفأة ، اعترت وجهه دهشة وهو يرمق الأطباق فوق المنضدة ،  العديد من المزات والمأكولات الخفيفة ، وكأسان تتوسطهما زجاجة من الكونياك الفاخر ، منضدة لا تقل شيئا عما تقدمه أفخر الفنادق ، أشار بيده ، فهمت ما يقصده ، ضحكت بصوت يرتفع قليلا عن الابتسامة :

_ كل شيء أُعد الآن ، قد يكون عملي في أحد الفنادق من قبل ساعدني على ذلك ، أرجو أن تتخلى عن التكلف واجلس براحتك.

 شعر بارتياح شديد وقد زالت الكلفة بينهما بالرغم من أنها المرة الأولى وقال :

_ إسمك جوليا ، جوليا فلليني أليس كذلك؟

_ وانت اسمك آدم نور ، أليس كذلك ؟ ، ضحكت ضحكتها التي تعلو على صوت الابتسامة قليلا .. أعتقد أن الفضل في التعارف ، يعود إلى اللوحة التي تحمل أسماء السكان في مدخل البناية .

 ابتسم ابتسامة واسعة تحرك معها شاربة الوسيم :

_ نعم فلم تكن بيننا سوى الابتسامات طوال الفترة الماضية .

_ هل يضايقك لو سألتك لماذا أنت وحيد ؟

_  كنت متزوجا لكن هذا كان منذ فترة طويلة ، هل يضايقك إذا أعدت عليك نفس السؤال ؟

أجابت وقد بدا الألم فوق وجهها :

_ كنت متزوجة لكني وحيدة منذعدة سنوات .

_ آسف لو كنت أعدت لك ذكريات أليمة .

_ لا بأس ، أنا التي بدأت بسؤالك ، هل تحب أن ترقص ؟

_ لا أجيد سوى الرقص الهادئ .

_ حسنا ، وأنا أفضله أيضا .

انتقلت خطواتهما بطيئة فوق الأرض الخشبية ، تلاقت أعينهما أكثر من مرة ، مع ابتسامة هادئة ، لم يحاول ولم تحاول الالتصاق ، انتهت الموسيقي ، انحنى أمامها شاكرا ، عادا لمكانهما ، صبت كأسين من الكونياك ، تأمل وجهها عن قرب ، جمال هادئ مريح للأعصاب ، تأملت وجهه وهي تقدم له كأسه ، وجه يوحي بالثقة تعضده سلوكيات راقية .

_ في صحتك .

_ في صحتك .

_ ما أمنيتك بالنسبة للعام الجديد؟

أجاب آدم وظل سحابة من الماضي يطوف وجهه :

_ لم تعد لي أماني ، توقفت الأماني منذ زمن ولم أفكر فيها ثانية .

_ هل تستقبل العام الجديد بكل هذا التشاؤم ؟

_ في الحقيقة ليس تشاؤماً ولكن يمكن أن تسميه توقف الحياة .

_ عجلة الحياة لا تتوقف أبدا .

_ توقفت بالنسبة لي أنا على الأقل .

_ لم أكن أعلم أنك تعيش قصة درامية  ، نحن نجلس الآن معا يمكنك أن تفضفض عن نفسك لو شئت .

_ لا أريد أن أكون ضيفاً ثقيلا ونحن نحتفل برأس السنة الجديدة .

_ أعتقد أن هذا أفضل من أي شيء آخر .

_ هل تعلمين أنني من الشرق .. ومن مصر بالتحديد ؟

_ خمنت ذلك ، عندما لمحت من خلال بابك صورة فرعونية .

 فرقعت قطعة خشبية داخل المدفأة وانفصلت إلى قطعتين ، ابتسم آدم ابتسامة حزينة وهو يحدق في القطعتين المنفصلتين المتجمهرتين ، انسابت الكلمات من بين شفتيه محملة برائحة الألم :

_ هل رأيت هذه القطعة الخشبية عندما فرقعت وانفصلت ، أنها تشبه حياتي بالضبط ، كانت حياة دافئة وفجأة فرقعت وانقسمت ،  وكما ستتحول هاتان القطعتان في النهاية إلى رماد ، أعتقد أن حياتي أيضا أصبحت رماداً . منذ حوالي خمسة عشر عاما تفتحت أمامي الحياة كزهور الربيع  بزواجي من الفتاة التي أحببتها ، لي منها طفل وطفله ، كانت من عائلة ثرية ، أبوها كان يتبوأ مركزا سياسيا كبيرا ، توسط لي وعملت معه ، للأسف تبين لي بعد فترة أنه فاسد ومرتشي ، رفضت الحرام ، حاول أن يستغل حبي لابنته ، فشل ، هددني ، ظللت على موقفي ، لم يراع الله في زوج ابنته ، لفق لي تهمة عقوبتها السجن لسنوات طويلة ، هربت في ظلام الليل ، تركت بلدي وزوجتي وأطفالي ، خشيت الفضيحة وقضبان السجن . كنت أعلم أنه لن يدعني حتى لا أفشي سره ، وبأنه سيطلق رجاله خلفي ، تنقلت من بلد لآخر حتى انتهى بي المطاف إلى هنا . فقدت بعدها الاتصال بأسرتي تماما . بعد فترة قرأت في الصحف خبر وفاته ، عُدت إلى بلدي ، فوجئت بزوجتي وقد تزوجت ، رجوتها أن تكشف الحقيقة وأن تسلمني أولادي ، هددتني بإيقاظ التهمة القديمة ، فررت ثانية وقنعت أن أقضي باقي حياتي على ذكرى الأيام القصيرة التي عشتها في سعادة .

قالت وهي تربت ظهر يده بحنان :

_ قصة مؤلمة فعلا .

 تحولت ابتسامته الحزينة إلى ابتسامة هادئة وقال :

_ جاء دورك لتفضفضي عن نفسك .

_ ألا تكفي قصتك هذه الليلة .

_ لا أحب أن أكون أنانيا وكما استمعت لي أحب أن أستمع إليكِ .

_ ألا تخشى أن تكون قصتي أكثر إيلاماً من  قصتك .

_ دعينا نتقاسم ألمها على الأقل الليلة .

_ قد يكون الأمل لا يزال بابه مفتوحا أمامك للقاء أولادك ، أما بالنسبة لي فلقد أُغلق هذا الباب تماما ، فقدت زوجي وطفلي في لحظة واحدة .. كنا في مثل هذا اليوم بالضبط ، ليلة رأس السنة ، منذ ست سنوات تقريبا ، كنا نعيش مع السعادة من كل جانب . اعتدنا أن نسهر ليلة رأس السنة كل عام مع أسرتي أو أسرته ، في تلك السنة قرر زوجي أن نحتفل بها في منزلنا ، أنا وهو وطفلنا ، سهرنا حتى نام الطفل ، وأكملنا ليلة الحب على أضواء الشموع ، شربنا حتى فقدنا الوعي ، لم نكن نعلم أن النهاية ستأتي بسبب شمعة لم ندر كيف انزلقت إلى الأرض الخشبية ، امتدت النيران وحاصرت غرفة طفلنا ، استيقظت أنا وزوجي على طرقات عنيفة لرجال المطافئ ،  شاهد الجيران الدخان الكثيف وهو يندفع خارج المنزل فأبلغوا الشرطة ، قفز زوجي وسط النيران لينقذ الطفل ، لم يخرج هو أو الطفل ، فقدت الوعي من هول المصيبة ، فقت بعدها لأعيش فراغاً هائلاً ، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحتفل بهذه الليلة وحيدة مع ذكرياتي .

لم يستطع آدم أن يكبت جماح دمعة قررت القفز من عينه ، ربت يدها بحنان قائلاً :

 _ المثل العامي يقول   "اللي يشوف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته "

_ ألا ترى إننا يجب أن نخرج بفكرنا بعيدا عن هذه الأحزان وخاصة ونحن نحتفل بالسنة الجديدة .

_ معك الحق ، ماذا تقترحين .

_ هل لديك مانع أن نلعب لعبة كثيرا ما كنا نلعبها أن وزوجي في بعض أُمسيات الشتاء ؟

_ ليس لدىَّ مانع على الإطلاق .

_ كنت أنا وزوجي نجلس كما نجلس الآن في بعض أمسيات الشتاء ، يبدأ أحدنا اللعبة بطرح سؤال على الآخر ، وعلى الآخر أن يجيب إجابة وافية في أقل عدد من الكلمات ، فإن نجح يطرح هو السؤال التالي ، وأن عجز يتولى الآخر الإجابة ويكون من حقه طرح السؤال التالي .

 صفق آدم مبتهجا كطفل صغير ، وقال ولأول مرة يخرج صوته عن هدوئه :

_ لقد شوقتني إلى هذه اللعبة ، من فضلك إبدئي بطرح سؤالك .

 _ ما رأيك في الحياة ؟

_ حلوة ومرة ، لو زاد حلوها عن مرها يمكن القول بأنها حياة سعيدة ، ولو زاد مرها عن حلوها تحولت إلى التعاسة.                                                                                    

قالت جوليا مدعمة قولها بالتصفيق :

_ إجابة جميلة هيا اطرح سؤالك .

_ ماذا تقولين عن الرجل ؟

_ مظلة حنان فوق رأس المرأة ، أو كرباج يلهب ظهرها ؟

_ إجابة رائعة ، هيا اطرحي سؤالك ؟

_ ماذا تقول عن المرأة ؟

_ فراش ممتلئ بالورود أو ممتلئ بالأشواك ؟

قالت جوليا ضاحكة :

_ إجابة سيئة ، المرأة ليست فراشاً ، إجابتك بالنسبة للمرأة تتحكم فيها عقليتك الشرقية ..

_ آسف، لم أكن أقصد ، تفضلي أجيبي أنت .

_ المرأة الرفيق الجميل للرجل طوال رحلة الحياة ، السؤال ينتقل إلىّ لأن إجابتي أفضل من إجابتك .

_ ما رأيك في الدينْ ؟ سألت جوليا

_ وصال قلب الجسد العاري تماما مع الله .

_ ماذا تقصد بالجسد العاري تماما ؟

_ الله خلق الإنسان في عريه ، ولم يشعر بعريه إلا بعد جنوحه للخطيئة .

_ هل تقصد أن الله يهمه في الإنسان مخبره وليس مظهره ؟

_ هذا ما أقصده بالضبط ، البشر الآن حولوا الأديان إلى مجموعة من المظهريات ، توافق هواهم.  

_ تعريفك للدين رائع يا آدم ومن حقك أن تطرح سؤالك .

_ ما رأيكِ في الدنيا  ؟

_  مغرورة ، مشاكسة ، باطلة ، من يفهم هذه الحقيقة يسيطر عليها ، ومن لا يفهمها تسيطر عليه.

_ إجابة رائعة يا جوليا ومن حقك طرح سؤالك .

_ ما رأيك في الجنس ؟

_ رغبة بوهيمية ، إذا استؤنست صارت شيئا جميلا ، وإن تركناها على وحشيتها ، تصبح كالحصان الجامح ، تدوس سنابكه كل شيء في طريقه .

_ لقد خرجت إجابتك عن مفهوم كثير من أهل الشرق عن الجنس ، الذين يرون في المرأة مجرد وعاء يصبون فيه شهواتهم  .

_ يقولون إن أصابع اليد ليست مثل بعضها ، ومن الخطأ أن نعمم خطأ البعض  على الكل .

_ أصدق إجابتك ، لأن طوال فترة جوارنا ، وجلستنا هذه ، تؤكد أنك إنسان مهذب ، وبالتالي من حقك أن تطرح سؤالك .

_ ماذا تقولين عن الحرب ؟

_ مذبحة بشرية ، يساق فيها الجنود كالخراف ، يسببهاملوكاً أو رؤساء فشلوا أن يكونوا آدميين .

_ إجابة مبدعة يا جوليا فهل طرحت سؤالك .

_ ماذا تقول عن الخيانة ؟

_ جراثيم من انحطاط المبادئ وانعدام الضمير تسري في عروق الخائن.

_ هل تؤمن بذلك يا آدم أم هو مجرد تعريف مقتبس .

_ اعتقد أنه أيمان قوي لأني لم أحاول أن أفعلها حتى مع من ارتكبوا الخيانة معي .

_ صفة يندر وجودها الآن يا آدم وما عليك الآن سوى أن تطرح سؤالك .

_ أشكرك ياجوليا على إطرائك . وسؤالي هو ما رأيك في الصداقة ؟

_  تآلف بين الأرواح وهي لا زالت في بطون أمهاتها .

_ الله .. الله يا جوليا ، أبدع ما سمعت عن الصداقة ، فهل قابلت في حياتك الروح التي تآلفت مع روحك قبل أن تولدا .

_ زوجي رحمه الله .

_ رحمه الله ، وأعتقد أن روحه ترفرف سعيدة الآن بقولك هذا .

_ أنت إنسان لطيف ومجامل يا آدم .

_ أشكرك على رأيك الذي اعتز به جدا يا جوليا ، وأنت إنسانة رقيقة وصداقتك كنز لمن يفوز بها ، وأعتقد أنه دورك لتطرحي السؤال .

_ ماذا تقول عن الوقت ؟

_ الوقت يكون ثقيلا كالحجر مع البعض ، ويكون أخف من الريشة في صحبة من تأنس النفس بهم .

_ فسر قولك يا آدم .. قالت جوليا وابتسامة امتدت على طول شفتيها .

_ قولي يفسره أن الساعة الآن الرابعة والنصف صباحا ، وأنا أشعر بأنه لم يمض في جلستي معك سوى خمس دقائق .

_ لا تكن مبالغا .

_ إنها الحقيقة يا جوليا .. وأشكرك من كل قلبي على ساعات كانت ستمضي علىّ كدهر في هذه الليلة لو أمضيتها وحيدا ، واسمحي لي بالانصراف الآن، حتى لا أكون ضيفا ثقيلا .

_ صدقني أنى مثلك فوجئت بالوقت الذي مضى كهبة ريح .

نهض آدم ، تقدم من باب الشقة وهي تسير خلف ، كانت تقف تنتظره وهو يحاول فتح باب شقته ، يده أخطأت ثقب الباب عدة مرات ، أخيرا نجح فوضع المفتاح في مكانه الصحيح ، التفت نحوها ، وكأنه يريد أن يقتطف نظرة أخيرة من وجهها قبل أن يرسف في قيود الوحدة .                              

قالت جوليا بصوت مخنوق :

_ إلي اللقاء في ليلة رأس السنة القادمة وتذكر أنك عليك الدور في طرح سؤالك ..

  فزع كثيف حط على وجه آدم عندما تذكر أن هذه السويعات التي أمضاها مع هذه المخلوقة الرائعة قد لا تتكرر إلا في العام القادم أو لا تتكرر ، فجأة ألقى بكل أعباء نفسه أمامها قائلا :

_ هل تقبلين الزواج مني يا جوليا ؟

سعادة وردية رفرفت على وجهها ، تقدمت منه دون أن تنبس بكلمة ، لفت ذراعه حول عنقها ، أعانته حتى وصل لفراشه ، خلعت عنه الحذاء ، شدت الغطاء فوقه ، قبلت جبهته ، مرت بأصابعها فوق شفتيه وقالت ولا زالت السعادة الوردية تزيد من حلاوة وجهها :

_ لو نطقت هاتان الشفتان بعرضك لي بالزواج ثانية عندما تستيقظ غدا سـأوافق فـورا .

 

                                                                            

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

*********************