هدى حجاجى أحمد تكتب: ليلي والمجنون

هدى حجاجى أحمد تكتب: ليلي والمجنون
هدى حجاجى أحمد تكتب: ليلي والمجنون

 سحبتني من أعماقي رسالاته المتناثرة هنا وهناك تختبئ في ظلال تلك الأوراق، وبقدر ما حزنت لقراءتها بقدر ما سعدت بهذا البعد الذي فرضته على نفسي وعليه.. كانت سعادتي باستغراقي في تفاصيلها الممتعة.. واستمتاعي بكل ما منحته لي من معرفة وعلم وثقافة وحب ومعرفة وجمال ومتعة، ايقظت بداخلي مشاعر جميلة ظننتها انزاحت تماما امام مرارات السنين، أشاعت البهجة في نفسي وأعادت لي القدرة على الاستمتاع بجو المذاكرة خاصة في شهر رمضان الكريم مع صديقاتي.. علمت ان لدى قدرة فائقة ع البدء من جديد والاستمتاع بأبسط الأشياء. تفجرت في داخلي دهشة الطفولة، عندما رأيت صورة الطفل الذي يغمز بعينيه وكأنه هم بمعاكستي من جديد ودفعت بي إلى أحضان الدنيا ومن فيها خلصتني من ضبابية الآيام الماضية ولحظات الالم والمرض الذي الم بي حوالي شهر وأكثر.

عدت أذاكر من جديد وأشعر بأن روحي قد عادت لي من جديد مكثت طوال الليل على كتابي واستعد لامتحان الغد ولم اذق للنوم طعم استبقت أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة إيقاظي. داعبت جفوني وأنا في قمة استيقاظي ها هو الصباح المشرق يحمل معه رسالة جديدة وكان يسألني وأنا كطفلة أو تلميذة خائبة أربكتني أسئلته.. طفلة عاجزة عن إجابة أسئلة أستاذها.

لم يكن في وسعى الا الصمت أو الرد الغير مقنع بدأ لي وقتها كالمحلل أو المشرع وهو يحدثني عن الصوم. نسيت أنه بقي ساعات على دخولي الامتحان ومواجهة أصعب مادة لنا في المقرر هذا العام وبقدر يقظة عقلي وضميري بقدر ما كنت حزينة على اتخاذ أصعب قرار، كان شعوري بالفقد وأنا أتهيأ للرحيل والوداع كنت أضحك وأبكي في آن واحد من اعماق قلبي.

كانت عيناي تتمعن فوق سطوره القليلة أعيد قراءتها مرات ومرات.. أتفحص كلماته وحروفه وأبحث عما بين سطوره من معان، كم كان مجنونا وكم كان محبا.. عرفت وقتها كم كان عالمنا حافل بالكثير من القصص والحكايات المثيرة. ان في جيبي هذا الصباح كثيرا من الكلمات، ليتبنى أستطيع أن أقرأ أول سطر لأرى كيف يتكلم، وكلما تكلم قال جملته المشهورة والمعهودة ما أجمل البدايات.. لو بتكره حد أوى ليه تجيب في سيرته وتتكلم عنه هو ده اللى حصل بالرغم ما اشعر به من زعل واختناق منه كنت أتحدث عنه مع صديقتي.. هي في مقام ماما والدتي، جمعتنا صداقة قوية بالرغم من المدة البسيطة التي تعرفت بها، وهو كان سبب معرفتي بها منذ زمن وعندما كنت أسأله عنها كان يقول لي انه صديق قديم ومن بلدتي، وهو معجب بك وعندما قلت له ذات مرة أنه مهتم بي ودائما ما يشير نحوى، قال لي أنه يبحث عن زوجة وربما كان معجب بك وظل الحال هكذا شهور طويلة وأنا معتقدة أنه رجل وأحاول إلا ألتفت إليه ومرت الأيام وذات مرة شكرته على الاهتمام بصفة صديق، وإذا به يقول لى أنه امرأة فما كان لى أننى غضبت جدا من صديقى الذى أوهمنى بالعكس، وعاتبته على هذا الكذب فإذا به يضحك ويقهقه ويقول حبيت أعرف رأيك فيه كنت أمزح معك.. أعتذرت لصديقتى وقبلت طلب صداقتها لى ورحبت بها ومن هنا نشأت بينا علاقة وطيدة وأخذت تقص لى قصتها وسبب تسمية الحساب بأسم رجل. قالت انه حساب زوجها المتوفى وانها اغلقت حسابها وتواصلت من حسابه هو، لم ترد إغلاقه وفاء لزوجها.. ما أروع الوفاء وما أحوجنا إليه.. الوفاء بين الاصدقاء، وبين الازواج حتى وان رحلوا.

مع الآسف الوفاء بين القطط والكلاب أكثر منه في عالم الإنسانية. كنت أفتقد إلى قلب صديق أو صديقة لا تربط بيننا مصالح.. فقط الحب والود. اليوم هو آخر يوم لي في امتحانات الترم الثاني، وكان لابد إن أسافر إلى بلدتي وإلى وطني، عائدة أحمل الكثير من الذكريات الحلوة والمرة وتعب وارهاق الامتحانات، ودائما ما أقتل وقتي في سفري على اللاب توب أتواصل مع الاصدقاء. دخلت ووجدت صديقتي وأخذت اتواصل معها حتى فصل اللاب الشحن. كنا معنا في سيرته التي لا أدري ان كانت تغضبني أو تسرني؟ كل ما أدري إنني أتحدث عنه ولا أدري بأي صفة؟ ربما كان الحديث احتراماً لما مضى بيننا من الوقت ومن الصداقة ايضا.. التي لم يعرف معناها حتى الآن.. المهم عنده هو إنني امرأة وهو رجل.

 تحدثت معها عن خصامنا لأختلاف الرأى بيننا وأنني قاطعته، حاولت ان تصلح بيننا بكلمات انها فرصة نتصالح خاصة واننا في شهر كريم وانه شيطان دخل بيننا، ولم اخبرها بأية تفاصيل عن السبب الحقيقي هو إهانتي، وانني لم أعتاد على ان يوجه لي أحد إهانة وأسكت عليها، حتى وان كان رئيس عملي فما بالك لو كان شخص لا تربطك به اية علاقة؟! تذكرت حديثه عن بعض الصديقات التي اعترفت بحبها له على الملأ دون حياء وقطع علاقته بها، وحدثني عن فنجان قهوته الصباحية وسيجاره التي تشعل ذاكراته حينما يصيبه الملل والرتابة، وعن أشياء كثيرة ربما كانت لا تخدش الحياء، رأيه في الاصدقاء وعدم الثقة بهم فهو لا يثق بأحدهم فعدو اليوم هو صديق الأمس، وأنه لا مجال للصداقة في هذا العالم الافتراضي، وكنت أحيانا كثيرة أجد انه على حق وانما هي صداقة من اجل مصالح شخصية، وكيف أنه معجب بي إنني كسبت صداقة كل هؤلاء في وقت قصير وأصبحت لدى كل هؤلاء الشخصيات المعروفة. ربما كنت بارعة مثلك ولكن الفرق بيننا انني امرأة لا تخضع مهما كانت الظروف، تعودت على خوض الحروب والمعارك، لا سلطان على قلبي الا عقلي المفكر الذي يود ان يستريح ولو قليلا من ذلك الضجيج وهذا الصراع الدامي، ذلك الصراع الذي يفقدني الحياة والاحساس بها: هل كان كان قرار انسحابي منك فرصة لشن حربك علي.. مضيت تاركة خلفي ذكرياتي، وذاكرتي التي تهرول ورائي وتلاحقني بجراح تأبى أن تندمل، ومخاوف تأبى أن تزول.. وأنت كل يوم تكرر كلمة (أحبك) آلاف المرات وتذكر ليلى لعلي، أعود وارسم لك طريق أمل من جديد.

 رحلت تاركة في عينيك نظرة لوم، وفي فمك لهجة عتاب، وسألت نفسي آلاف المرات: هل كان قراري بالانسحاب متسرعا؟ هل كانت أمامي فرصة لأن تتغير من أجلي أو أن اتحمل من أجلك؟ تمضي الأيام ويعاودني الحنين إليك، إلى لمسة روحك ووداع أخير رجوته أمي التي تسمعني الآن وتلومني على غضبي منك، وتدافع عنك بكل حرارة حتى ظننت انها هو الذي يحادثني ولما لا أفقدني الثقة في نفسي وفي من حولي. كنت احتاج الى قبلة أخيرة فوق جبين الأيام، مثل وداع أخير يهدي من ثورة أفكاري، ويؤنس وحشتي في ليالي الغربة، تحيي موات الأمل المدفون في مقبرة الذاكرة.. مدريتوش. ان هناك من يقتله الغياب تمنيت لو أن الأيام تمحو من ذاكرتي عذاب الايام الماضية والشهور تمنيت أن أعود المرأة السجينة داخلي. أن أحيا امرأة كاملة لا نصف نصف.. تمنيت لو أن الأيام تعود فأبلغك بأني ما حلمت إلا بأن أعيشني أن أكون أنا هى تلك التي تضحك وتبكي وتحلم وتعشق وتكره وتحب وتلهو وترسم وتحيا وتموت.. لكن البعد لم يمنحني تلك الفرصة.

عدت أسأل نفسي: هل حقا انتهت القصة وأسدل الستار على بطليها؟ على حدث أسطوري في حياتي؟ هل انتهت القصة وخلت ساحة العرض من كلينا ؟ هل عدت مرة أخرى إلى وحدتي إلى زاوية انزوائي الى الضوء الخافت الذي لا أريده أن يشتد حتى لا يكشف عن تعاسة وجهي وتاريخي؟ كأسطورة إغريقية جئت أنت: ثم رحلت لتصبح في عالمي كحدوته سندبادية عراقية، أسردها وأحكيها مع ظلام كل ليلة، وحتى بزوغ شمس الصباح مثل حكايات شهرزاد ألف ليلة وليلة.

لقد استعمرت أوردتي وشراييني ونبضي، وجعلت مشاعري مثل حضارة فرعونية مصرية تذهلني وتثير الأسئلة حول خفاياها التي تتخطى اللامعقول، وحدود المنطق والنظريات العلمية وأسرار الكون، فهل يصدق أحد أن هذا المارد انطلق من مصباحه عملاقا يتحدى الكون ويملأ الدنيا حياة وبهجة وفرحة، ونورا وأملا وألوان زهر وروائح عطور، قد عاد مجددا الى محبسه، إلى مصباحه محكم الغلق؛ لأعود أنا إلى قارورة الموت والسكون ورائحة القبور إلى وحدتي.. إلى زاويتي؟ فلماذا أعود دائما إلى نقطة البداية؟ فرمان من حضرة المحترم أمير البلاد وأسطورة الرجال شهريار زمانه، فرعون الادب والكلمة الهروب لغة العصر الذي اخترعها الانسان من معاناة التفكير، أو تأجيل الفكر والقرار حتى حين عودتنا من سفرنا البعيد. اشتغلت كثيراً وانشغلت ايضا كثيرا في هذه الفترة.

انشغلت حتى عن ذاتي ما بين سفر وصداقات من الجنس الناعم، وما اروع ذلك في جدنا ومزحنا حتى الاسرة لم تسلم من هزارنا الثقيل والضرب بالمخدات وزجاجات الميه الساقعة، حتى غرقنا وغرقت معنا الكتب وعلى صوت الصراخ في الحجرة حتى من في الشارع يقول حرام عليكم احنا والله صايمين! طيب ياعم انت زعلان ليه ما احنا كلنا صايمين من الواضح انه كان عاوزنا نحارب في سينا مش كفاية علينا حرب الكتب والمناهج والدكتاترة.. كنت أنا أحارب أيضا ليس عقلى فقط وقلبي أيضا بكل قوتي وبكل ما تحمل المرأة من سلاح.

في اليوم التالى وصلنا الجامعة ولا أدري لما الوجوه تتشابه احيانا مع من نحب ومع من نعرف ومع من نعزف معهم لحنا بات مفقود؟ دكتور حمدي استاذ ورئيس القسم أخذ يناديني كثيرا (ليلى)، وأنا غارقة في تفكير عميق ربما كنت أبحث عن علة، عن اجابات كثيرة علقت في ذهني اليوم فور مجيئي الكلية، جبال من الجليد أود لو أذوبها الآن. ملأني الحنين لرؤيته والشد والجذب بيننا الذي ينتهي عادة بخصام طويل أو قصير، ولا أفيق منه إلا برسالة منه يقول فيها سامحيني، أنا مجنون ذكرها مرات عديدة.. يقولها اشتقت الى خصامك الى غضبك إلى شاكلك.. يداعبني مثل طفل صغير.. اتعلثم في كلماتي وفي ردي.. تتلاحق دقات قلبي، ينفضح أمري ولون الخجل في سكوتي أضحك وأقول له اممم يقول اممممممممم كثيرا ليت بائع الجرائد بالخارج يخبرني سره وأخيرا رديت دكتور حمدي أعتذر لك يقول لازم في حاجة مهمة اللى واخدكي كل ده؟ ارتبكت وقلت لا لا أبدا الامتحان فقط أقصد الأسئلة يا رب تكون سهلة وبسيطة ومن اللى ذاكرته لا تقلقي أنتى كدها يا استاذة تذكرت كم كنت قاسية معه بالأمس، وكم كنت غاضبة وأنا ألوم نفسى كثيرا، كنت أود ان يكرهني أن يبتعد ان ينسى ان يفقد الامل في رجوعي، كنت أجيبه ببرود لم اعتاده من قبل لاني شعرت انني اصبحت أمثل له كل شئ. كنت أود ان أسرع بالانسحاب حتى وان كان بقسوة لا لأجرب البعد ولكن حتى أنهي تلك العلاقة التي اسميناها صداقة.. كنت أود المقاطعة بسكين حاد.

لمحتني صديقة عمري اكلمه تنهدت بصوت مسموع وقالت ياحرام والله حرام عليكى ..ليه القسوة دى؟ ده انتى جبارة والله والله لو اعرف بيته لأخبرته عما في قلبك. نهرتها بقسوة سهام: انا مش عارفة سبب العنجهية والتكبر، انتى بتكدبى عليه ولا على نفسك.. أدهشتني كلماتها استأنفت الحكي وهي تسوطني بنظرة عتاب: لكن صوت العقل اقوى واشد من كل الاحتمالات تعاودني الأسئلة التي لا نهاية لها كيف منحتك صكوك امتلاكي؟ كيف صنعتك من حكمتي؟ وكيف صنعتني من جنونك؟ كيف وافقت أن أستبدل بحريتي أسري في متعقلات حبك وسجون هواك؟ كيف تحولت أنا المتمردة الثائرة لكرامتي وكرامة أنثى، إلى امرأة مستكينة تستبيح أنت كبرياءها صباح مساء؟ امرأة صاحبة ثورات مكبوتة وخيال خصب يلاحقك في كل زمان ومكان؟ منذ آمنت بك.. آمنت لقلب تعود على الغربة والسفر، قلب تعود على الرحيل؟ كيف آمن لرجل عشقه الترحال والسفر بين البلاد والنساء؟ إنه عشقي لك.

إنه العشق الذي يمنحنا مفاتيح الرضا ولو لم نكن بما لا نرتضيه أو نرضاه.

 إنه العشق الذي يبدلنا ويحرقنا وينثرنا ويبعثرنا ويطرحنا بقايا فوق أرصفة الطرقات أو شظايا حرائق تتطاير في الهواء.

 إنه العشق الذي يأتينا قبل أو بعد فوات الأوان لكنه لا يأتي أبدا في حينه.