أخبار عاجلة

حسنى حنا يكتب: نهر العاصي Orontis River .....رحله في الزمان

حسنى حنا يكتب: نهر العاصي Orontis River .....رحله في الزمان
حسنى حنا يكتب:  نهر العاصي Orontis River .....رحله في الزمان

 

"ان نهر العاصي اصبح يصب في نهر التيبر"

                                                               الشاعر:  juvenal

                                                  

ان الشهره التي تتمتع بها انهار كبرى , كالنيل ودجله والفرات , قد غطت علي شهره انهار أخري’ كان لها دور كبير في صنع الحضاره الانسانيه  مثل نهر العاصي وهو النهر الاساسي في سوريا القديمه وقد ذكره المؤرخ اليوناني بليني الاكبر (23- 79م ) في موسوعته (التاريخ الطبيعي) الذي يقع في 40 مجلدا.

ان أنهاراً كنهر العاصي لا يوجه الاهتمام إليها اليوم الا بهدف الاستفاده من مياهها في الري ولم يعد احد يسمع صبري القرون الماضيه في السهول والوديان التي تضم مجاريها ويقول العلامه الاستاد جبرائيل سعاده وهو كاتب وباحث سوري في التاريخ وعلم الاثار

اننا لا نكاد نلتقط الرساله التي يهمسها نهر من الانهار الا بالقدر الذي نتيقظ فيه الذكريات التي يحملها.

ان التاريخ يواكب نهر العاصي من منبعه الا مصبه فمند الازل وجد النهر محاطا بالمناظر الطبيعيه الجميله والمواقع الغنيه بذكرياتها التاريخيه فمصاطب ضفافه ضمت اثار العصور الحجريه وتلالها الاثريه تضرب في اعماق التاريخ وكذلك مدنها القديمه وقلاعها العائده للعصور الوسطي

 

اصل التسميه

ورد اسم هذا النهر في اول الامر (ارانتو ) في حوليات ملوك اشور منذ القرن التاسع قبل الميلاد وذلك في تاريخ الملك الاشوري اشور ناصر التاني للحمله التي وصل فيها إلي البحر المتوسط اذ كتب قائلا عبرت نهر ارانتو وامضيت الليل عند ضفته اما ابنه وخليفته شلفصر الثالث الذي كان عليه ان يقضي علي تحالف الملوك الاراميين الذي قام ضده في سوريا

فقد كتب يقول:

انطلقت من جبل الامانوس وعبرت الارانتو وبعد التغلب على ملك دمشق الآرامي تلك الاراضي يضيف قائلا دفعت فلول فرقه في نهر ارانتو وقد تفرقوا في كل اتجاه طلبا للنجاه بارواحهم

ويقول العالم الجغرافي اليوناني سترابون (23- 64 م) بان نهر اورونت قد اخد اسمه علي اسم مهندس أول بني عليه جسرا  ويبدو لنا هدا الاسم وكانه يوناني

ويذكر المؤرخ البيزنطي ملالاس (491-578م ) ان الأمبراطور اليوناني تيبريوس (14-37 م) الذي عاصر السيد المسيح اعتمد هدا الاسم (اورنت) الدي يعني باللغه اللاتينيه (الشرقي) ونحن نعتقد ان التسميه الساميه القديمة ارانتو هي التي اشتقت منها اسم (اورنت)

 

التسميه عند العرب

اورد الجغرفيون العرب في العصور الوسطي اسم نهر العاصي (الارند) او (الارنط) وهذا نقل واضح عن اسم (اورنت) وقد جاء علي لسان الشاعر البحتري في مدحه الفنح بن خاقان: 

وقد قطعت عند الارند اليهم.... كتائب تزجي فيلقاً بعد فليق

علي ان اسم (العاصي) اي (المتمرد) هو الدي اصبح سائداً ويقول الجغرافي ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) وقيل انه سمي بالعاصي (لأن اكثر الانهار تتجه نحو الجنوب وهو ياخذ ذات الشمال)  اما المؤرخ (ابو الفداء) فيعلل اطلاق اسم العاصي علي النهر المذكور بان معظم الانهار لا تحتاج سقايه الاراضي منها الي النواعير بينما لا يرضي العاصي تقديم مائه فالمرء مضطر ان ياخذ الماء اقتدارا بواسطه النواعير  غير ان بعض الجغرافيين في العصور الوسطي كانوا يطلقون علي النهر اسم (نهر حماه) او النهر المقلوب وعلي اي حال يبقي العاصي الاسم الوحيد المستخدم باللغه العربيه في الوقت الذي يشير اليه الغربيون باسم orontis 

  نهر العاصي عند الرومان

كان نهر العاصي معروفاً بشكل جيد لدي الرومان في نهايه القرن الاول الميلادي ويقول الشاعر الروماني جوفينال:

"ان نهر العاصي اصبح يصب في نهر التيبر ونهر التيبر هذا هو الذي يمر في مدينه روما ويقصد الشاعر في قوله ان العديد من السوريين كانوا قد قدموا الي روما للسكن فيها وهؤلاء قد تركوا تاثيرات هامه في الحياه الفكريه والاجتماعية لدي الرومان ويبقي اهم اثر للسوريين علي الاطلاق هو نشر الديانه المسيحيه في ارجاء الامبراطوريه الرومانيه

 

نهر العاصي من منبعه الي مصبه

ان الحديث عن نهر العاصي من منبعه الي مصبه لا يكتمل الا بالحديث عن المواقع التاريخيه والاثريه التي يلتقي بها في طريقه وهي التي تؤكد اهميته بالاضافه الي عدد كبير من التلال الاثريه المتوضعه علي ضفافه وهذا يحتاج الي مجلد كامل!...

 

نهر العاصي في لبنان

ينبع نهر العاصي من منطقه في لبنان ليست بعيده علي مدينه بلعبك فعند مشارف الهرمل وعلي ارتفاع 660مترا عن سطح البحر توجد عده ينابيع غزيره تعرف باسم (عين الزرقا) وهناك مغاره اطلق عليها الجغرافيون العرب اسم (مغاره الراهب) وتروي التقاليد انها كانت خلوه للناسك الشهير (مار مارون) مؤسس الطائفه المارونيه واصل الموارنة من سوريا وتحديدا من المنطقه الممتده بين مدينه حماه جنوبا ومدينه قورش ( سيروس ) الى الشمال من مدينه حلب وهذه المنطقه يتوسطها سهل (الغاب) الخصيب الذى يمر فيه نهر العاصى وبعد السهل يمر نهر العاصى فى واد ضيق شديد الانحدار، ثم يسترخى فى السهل بعد خروجه فى الوادى وهنا يغادر الاراضى اللبنانيه .

 

نهر العاصى فى سوريا

بعد دخول نهر العاصى الاراضى السوريه يمر قرب تل اثرى هام يحمل اليوم اسم ( تل النبي مند ) الذى يضم انقاض مدينه (قادش) القديمه التى شهدت فى شهر أيار /مايو من عام 1274 ق م اعظم معركه جرت فى التاريخ القديم هي (معركه قادش) بين المصريين بقياده (رمسيس الثانى) والحثيين بقياده ملكهم ( مواتالى الثانى ) وهذه المعركه هى اول معركه موصوفه فى التاريخ القديم ( راجع كتاب فن الحرب للجنرال مونتغمرى ) ونحن نقرأ وصفا لهذه المعركه على جدران معبد الاقصر فى مصر وقد شاركت فى هذه المعركه العربات الحربيه التى تجرها الخيول وقد تراوح عددها مابين خمسه الاف وسته الاف مركبه وقد نقبت فى هذا التل عدة بعثات اثريه فرنسيه وانجليزيه وسورية.

وبعد مدينه قادش يمر نهر العاصى ببحيرة قادش ( بحيره قطينة) وهى بحيره صناعيه واسعه يحتجز مياها سد قديم يعيده الجغرافى سترابون الى الالف الثانيه قبل الميلاد لكن العالم الفرنسى ( دونان ) ينسبه الى العهد السلوقى!...

وبعد خروج العاصى من هذه البحيره يتابع مجراه فى سهل منبسط من التربه البازلتيه محازيا مدينه حمص ويصل الى مكان يسمى ( الميماس ) وهو منتزه اهل حمص ومكان لهوهم وراحتهم .

ويتغلغل نهر العاصى فى وديان تنتهى به الى بلده ( الرستن ) حيث يقوم عليه سد كبير ويعتقد بوجود كنسية كبرى ودير كبير باسم ( مار مارون ) فيها لم يبق لهما أثر. ثم يتجه العاصي إلي الشمال الشرقي ثم ينعطف نحو الغرب ليصل الى مدينه ( حماه) وفي هذه المدينه ، يتجلى العاصى بأبهى صورة كما هو تماما فى مدينه انطاكيه  وبعد خروجه من مدينه حماه يتجه شمالا نحو سد مدينه محردة ثم يندفع في وديان عميقه توصله لنحت قلعه شيزر التي تطل عليه من ارتفاع 40 متر ولايستبعد ان تكون شيزر هي (سيزارا) الوارد ذكرها في النصوص المصريه القديمه و(لاريسا) التي يتحدث عنها المؤلفون اليونان وقد ذكر وردها علي لسان الشاعر امرؤ القيس وهو في طريقه الي قيصر الروم يستنصره علي قتله ابيه حيث يقول

(تقطع اسباب اللبانه والهوى عشيه  جاوزنا حماه فشيزرا) ثم ينساب العاصي في سهل  الغاب بين جبال الساحل السوري وجبل الزاويه والي الشرق في هذا السهل تقوم اثار مدينة افاميا الرائعه

وقد نقبت في هذا المكان بعثه اثريه بلجيكيه قبل الحرب العالميه الثانيه وكشفت عن شوارع نحيط بها اعمده والعديد من الاجنبيه  ومسرح كبير وعدد من لوحات الفسيفساء متعدده الالوان ومن هذا المكان يمكن مشاهده (قلعه برزيه) القائمه في الغرب علي السفوح الجبليه

ويغادر العاصي سهل الغاب ليمر بمدينه جسر الثغور التي كانت فيما مضي مدينه هامه علي الطريق الاستراتيجيه بين الساحل السوري ومدينه حلب وقد كانت مركز اسقفية في العهد البيزنطي وهي تتميز بجسرها الروماني الذي ينهض علي عدد من القناطر الحجريه ويمر العاصي بعد مسافه قصيره ببلده دركوش الهادئه المشهوره بزراعه اشجار الرمان

 

نهر العاصي في انطاكيه

لواء اسكندرون ومركزه مدينه انطاكيه هو ارض سوريه منذ اقدم العصور ضمته تركيا في عام 1939 وهو احصب واجمل المناطق في سوريا بعد دخول العاصي ارض اللواء يمر بالقرب من تل اثري هام يعرف باسم تل العطشانة الذي نقبت فيه بعثه انجليزيه كشفت عن مدينه ومملكه الالاخ التي تعود الي الالف الثانيه قبل الميلاد وهي مذكوره كثيرا في نصوص اوغاريت وقرب هذا الموقع ينعطف العاصي غربا  ليدخل مدينه انطاكيه حيث يرفده عندها نبع دافني Daphne وتشتهر مدينه دفنه المعروفه اليوم باسم الحربيات باشجار (الغار) والشلالات الرائعه ولوحات الفسيفساء التي اكتشفت فيها وهي اليوم تزين متحف انطاكيه ويشهد العالم القديم انه في صباح اليوم الثاني من شهر ( ايار- مايو ) من عام 300 ق م  قام القائد سلوقوس نيكاتور بوضع الحجر الاول في اساس مدينه جديده قدر لها ان تكون عاصمه سوريا ومركزها الفكري والروحي طيلة 938 عاما وكانت تلقب بملكه الشرق كما دعيت باسم مدينه الله انطاكيه العظمي وهي اليوم بلده صغيره تغفو علي احلام ماضيها بعد ان دمرتها مرارا الحروب والحرائق والزلازل التي قلبت مرارا طموحات هذه المدينه العظيمه وكانت المدينه الثالثة في العالم بعد روما والاسكندرية حتي دخول الغزاه العرب اليها عام (638 م )

 

نهاية المطاف ....

بقي لنهر العاصي ان يجتاز مسافه 30 كيلو متر ليصب في البحر المتوسط في خليج (مار سمعان) المعروف اليوم باسم (خليج السويديه) فاذا ما وصل الي سهل السويديه وجد نفسه محاطا باجمل المناظر وقد كشفت الحفريات الاثريه عن مصبه عند وجود مدينه أثرية والي الشمال علي مسافه قصيره تنهض اطلال مدينه سولقيا التي نشاهد فيها اليوم ميناءها ومقبرتها البحريه وفي هذه المدينه نتذكر الكلمات التي كتبها العالم الاثري الفرنسي (ارنست رينان) الذي عمل في سوريا 1860 وترك نتائج اعماله في كتابه الهام والرائع (بعثه فينيقيا) كتب عن سلوقيا في صفحه 707 يقول :

"في سلوقيا وفوق الكتل المتباعده المكسر القديم استولي علينا بعض الحسد للرسل الذين ركبوا البحر من هناك في طريقهم الي انحاء العالم وقد عم صدورهم ايمان حار بقرب حلول مملكه الله ..( راجع " سفر اعمال الرسل في الانجيل )

وهنا تكون نهايه المطاف بعد رحله 600 كيلومتر حيث تختلط مياه الماضي بالمياه الزرقاء للبحر المتوسط، قريانا متجددا، ومحفوظا في ذاكره التاريخ!...