"كانت الأديرة المسيحية طوال القرون الأولى مراكز للحياة الفكرية والدينية"
*سورديل D.Sourdel
المسيحية ديانة أساسها المحبة، محبة الله ومحبة الانسان، والمحبة الواحدة تفترض الأخرى، وبالمحبة جعل المسيحيون الانسانسة عائلة واحدة، تحت أبوة واحدة. كما أوجدت المسيحية ثقافة إنسانية، شملت ثقافة الشرق والغرب معاً.
في العهد البيزنطي أصبحت سوريا، وبلاد الرافدين ومصر، بلاداً مسيحية بوجه عام. ولم تكن البلاد مسيحية وحسب، بل كان العصر تسيطر عليه الصفوة الدينية، فقد كانت الكنيسة أعظم مؤسساته. وقد وجد بين القرنين الرابع والسادس عدد من الرهبان والكهنة والأساقفة والراهبات وانساك لم تعرفه هذه البلدان لامن قبل ولامن بعد. وكانت الكنائس والأديرة، تنتشر بكثرة في طول البلدان وعرضها.
وقد بينت الأكتشافات الأثرية من جانبها بقايا عدد كبير من الأديرة التي تعود الى ذلك العهد. ويمكننا أن نضيف الى شواهد التاريخ وعلم الآثار شواهد مستقاة من تسمية بعض المناطق. إذ توجد في سوريا -على سبيل المثال- العديد من المدن والقرى، تسبق اسمها كلمة (دير) مما يدل دون شك على أنه كان يوجد سابقاً دير في قلب تلك التجمعات السكنية، أو في الجوار القريب. وقد لاحظنا أنه يوجد حالياً في سوريا، سته وخمسون مدينة او قرية، تسبق اسمها كلمة (دير)!.. ولايشمل هذا الرقم المناطق غير المأهولة حيث ماتزال توجد آثار مسيحية وهي مناطق تسبق اسمها كلمة (دير).
ومن الثابت أن العديد من أديرة العهد البيزنطي، قد استمرت تمارس نشاطها بعد دخول العرب الفاتحين الى سوريا بعدة قرون. كما أن بعضها مازال قائماً الى اليوم.
التعريف بالدير
إن كلمة (دير) كلمة سريانية الأصل، يقصد بها المنزل الذي تسكنه جماعة من العباد، يتعبدون لله. وجمع الدير (أديار) لاغير الا أنها تجمع على (ديارات) و (أديرة).
وتختلف الأديار باختلاف مواضعها، فمنها ماتسنم قمم الجبال، او توسد ضفاف الأنهار، ومنها ما اقترب من المدن والأرياف، أو ما انفرد في البراري والقفار. ويشترط في كل دير، أن تكون فيه كنيسة للصلاة. وان يحتوي على عدد من الغرف، تستوعب مافيه من رهبان، إضافة الى عدد من المباني الآخرى كالمخازن وبيوت الطعام وغيرها.. ولايخلو دير من الأديرة الكبيرة من مكتبة، يجد فيها الرهبان ماينشدون من التاكيف المتنوعة، الدينية والأدبية والعلمية والديارات الجليلة الشأن. لاتخلو من دور ضيافة، وبيوت ينزلها زوار الدير، والمجتازون به.
ةقد كانت بعض تلك الديارات على جانب عظيم من فخامة البنيان، واتساع الرقعة. حتى ان بعض الخلفاء، والملوك والأمراء وأعيان الناس. كانوا ينزلونها ولايخرج أحد منها. إلا وهو يلهج بطيب الاقامة فيها، والثناء على من بها. وإن ركب الدير شواطئ الأنهار. ألفيت حوله من البساتين والكروم والرياحين، مايبهج النظر، ويسر الخاطر!..
الاهمية الدينية والفكرية
كانت الأديار مراكز للحياة الدينية والفكرية. نشأ في اكنافها جماعة من العلماء والمؤلفين الأفذاذ. كما انها ساهمت مساهمة كبيرة في نشر المؤلفات الهلنستية، بعد ماترجموها الى اللغة السريانية، قبل أن يترجموها الى اللغة العربية. وقد تمكنت الأديار في كثير من الأحوال، أن تؤسس مكتبات هامة.
وقد كان للأديار، شأن كبير في أشاعة الفرح في القلوب والنفوس، لما يتمتع به الرهبان، من نقاوة النفوس والكرم الأصيل وحسن الضيافة.
وقد كان للشعراء في تلك المتعة، الحظ الأوفر والنصيب الأكبر، لرقة مشاعرهم، وطلاوة مسامرتهم. وقد زودت أشعار الأديار، الأدب العربي والمتكتبة العربية. بما يبهج ويعجب من كنوز عاطفية، وذخائر أدبية لاتفنى، كما صورت نمطاً خاصاً من الحياة أبدع تصوير!..
أشعار الأديار
اتجهت جمهرة من الأدباء والشعراء، والمؤرخين والبلدانيين، الى الديارات، خلال قرون عديدة. فوصفوا طيب مواقعها، ورقة هوائها، وعذوبة مائها. وتغنوا بمحاسنها. وبما وجدوه بها من المؤانسة ، ومواطن النزاهة. وأشاروا أحياناص الى بعض الأحداث التي مرت بها!..
ان الوف الصفحات، لاتتسع لأخبار الأديار المسيحية، كما تحدثت عنها كتب التراث.. وسوف نقدم -فيما يتسع له المجال- أمثلة ونماذج من أخبار تلك الأديار في مجال الأدب والشعر..
دير الفاروس φάρος.
بني هذا الدير في شمال مدينة اللاذقية، في القرن السادس الميلادي الذي شهد ازدهار العديد من الأديرة في سوريا. ولفظه (فاروس) يونانية تعني (منارة) وقد وصف عماد الدين الأصفهاني روعة بنائه، وأسف كثيراً لما أصابه من دمار، إثر دخول صلاح الدين الايوبي الى اللاذقية، في شهر تموز من عام (1188م) كما تحدث عنه شيخ الربوة وابن بطوطة الذي زاره في عام (1325م) ووصفه بأنه: "أعظم دير في الشام ومصر، تقصده النصارى من الآفاق.." لكن لم يبق من هذا الدير اى اثر باق الى اليوم، غير نسخة نادرة من الأنجيل تعرف باسم (إنجيل الفاروس) ومن كتاب (مسالك الأبصار) لابن فضل الله العمري (ت1348م) الذي تحدث فيه عن عشرات الأديرة، اخترنا بعضاً مما قاله فيه حسن بن علي الغزي:
"لم أنس في الفاروس يوماً أبيضاً مثل اللجين يزينه فرع الدجى
في ظل هيكله المشيد وقد بدا للعين معقود السكينة أبلجا
واللاذقية دونه في شاطئ بلوره قد زين الفيروزجا
فله ولليوم الذي قضيته معه بكائي لا لربع قد شجا
دير ميماس
هو بين دمشق وحمص، على نهر ميماس. وهو في رياض وبساتين. ويحكى أب أبا نواس لما نزل حمص. دعاه فتى من أدبائها الى دير ميماس ودعا معه الشاعر أشجع السلمي. وأبو نواس ينشدهم له ولغيره. فقال أشجع:
صبحت وجه الصبح بالكاس ولم تعقني مقالة الناس
ونحن عند المدام أربعة أكرم صحب وخير جلاس
ندير حمصية معتقة على نسيم النسرين والآس
ولم يزل مطرباً ومنشدنا ابو نواس في دير ميماس
دير اسحق
بين حمص والسلمية، في موضع حسن نزه، على نهر جار، وحوله كروم ومزارع، قال فيه الشاعر الهاشمي السلماني (من مدينة سلمية):
وأفق أخاك. تجد خير رفيق إن كنت لست من الصبا بمفيق
وإذا مررت بدير اسحق فقل جادتك غير سحائب وبروق
دير يشبه ماؤه بهوائه وهواؤه بلطافة المعشوق!..
دير النقيرة
هو الأن إحدى ضواحي مدينة معرة النعمان، الى الجنوب الشرقي منها و(النقيرة) كلمة سريانية، تعني المسكن المنقور في الصخر. كما يعرف أيضاً باسم (دير سمعان)..دخل الشاعر جرير (ت 728م) هذا الدير يوم عيد، فرأى النساء والصبيان يقبلون الصلبان فقال:
رأيت بدير سمعان صليباً تقبله الشوادن والظباء
تعظمه القسوس وتحتويه فترشفه ويخنقها البكاء
كفتين وماحولها
بلدة فى محافظة ادلب في شمال سوريا.. ومما يوجد فيها حمام، فوق بابه حجر رخام، منقوش عليه كتابة باليونانية ترجمتها: "المجد للآب والابن والروح القدس" وقد نقشت عليه اشارة الصليب أيضاً، ويرجح أنه جزء من باب كنيسة أو دير، جلبه الأهالي فيما جلبوه من حجارة من الأراضي المجاورة الغنية بالكنائس والأديرة الأثرية. حيث مواقع (دير سيتا) و (دير مرقص) وقريتا عرشين وحربنوش، ولم يبق من هذه الكنائس والأديرة، غير أطلال بسيطة. فيد الجهل قد امتدت اليها لتشوه معالمها، وتنهب حجارتها لبناء المنازل. وقد ذكر هذه الأماكن الشاعر حمدان الجزري الأتاربي (ت 1145م) قال:
"أسكان عرشين القصور عليكم سلامي ماهبت صبا وقبول
ألا هل إلى حث المطايا اليكم وشم خزامى حربنوش سبيل
وهل غفلات العيش في دير مرقص تعود وظل اللهو فيه ظليل
بلاد بها أمسى الهوى غير أنني أصيل مع الأهواء حيث تميل"
دير زكى
(زكى) كلمة سريانية تعني (عفيف أوبار أو طاهر) .. كان بظاهر مدينة الرقة الحالية. من الناحية الشمالية الشرقية، حيث يوجد تل عظيم، يطلق عليه اهل الرقة اسم (تل البيعة) وتأني (البيعة) هنا بمفهوم (الدير).
ذكر هذه الدير علي بن محمد الشابشتي (ت 998م) بمصر في كتابه (الديارات) الذي وصف فيه الأديرة، في العراق وبلاد الشام والديار المصرية، والذي حققه الباحث العراقي كوركيس عواد.
وصف الشابشتي هذا الدير وصفاً خاصاً قال: "وهذا الدير على الفرات وعن جنبيه نهر البليخ. وهو من أحسن الديارات موقعاً، وأنزهها موضعاً. وكانت الملوك إذا اجتازت به نزلته، وأقامت فيه. وبناحيته من الغزلان والأرانب، وماشاكل ذلك، وأصناف الطير. وفي الفرات بين يديه مطارح الشباك للسمك"..
وفيه قال الشاعر الصنوبري (ت 945م):
كأن عناق نهري دير زكى إذا اعتنقا عناق متسيمين
أيا متنزهي في دير زكى ألم تر نزهتي بك نزهتين
أردد بين ورد نداك طرفاً تردد بين ورد الوجنتين
وكان من أجل من نزل فيه أيام مجده، الخليفه العباسي هارون الرشيد. وقد كان هذا الدير كوكباً أشرق في سماء الرقة، والراجح أن مظالم مجاوريه عجلت في هبوط نجمه وذهاب عزه!..
دير الرصافة
الرصافة مدينة قديمة، تقع الى الجنوب الغربي من مدية الرقة، وقد ارتبط اسمها باسم القديس (سرجيوس) في مطلع القرن الرابع للميلاد. وقد بنى فيها الامبراطور أنستازيوس (490- 518م) كنيسة ضخمة واستوطنت فيها قبائل من العرب المسيحيين خاصة الغساسنة.
قال ياقوت الحموي واصفاً دير الرصافة: "هو من عجائب الدنيا حسناً وعمارة" وفي القرن العاشر مر به الشاعر اب نواس وقال فيه:
"ليس كالدير في الرصافة دير فيه ماتشتهي النفوس وتهوى"
وفي اخبار دير الرصافة أن الخليفى العباسي المتوكل، مر بالدير وهو في طريقة إلى دمشق وجد في حائط من حيطانه، رقعة مكتوب عليها قصيدة مطلعها: "أيا منزلاً بالدير أصبح خالياً.." ومنها:
"ليالي هشام بالرصافة قاطن وفيه ابنك يادير وهو أمير
وروضك فينان يذوب نضارة وعيش بني مروان فيك نضير
رويدك.. إن اليوم يتبعه غد وأن صروف الدائرات تدور"!..
وكان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قد أرسل أولاده الى دير الرصافة لتتم تربيتهم فيه.
دير مران
كانت الأديرة عديدة في أطراف مدينة دمشق وضواحيها، في مامضى. ومن بينها دير مران، في سفح جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق قرب الربوة.. كان في بنائه صورة عجيبة. دقيقة المعاني، وقلاليه (مساكن رهبانه) دائرة به، وأشجاره متراكبه، وماؤه يتدفق.
وحكي عن المبرد (ت 898م) أنه قال: "وافيت الشام، فاجتزت بدير (مران) وأحببت النظر إليه فصعدناه فرأيت منظراً حسناً!..
وإذ في بعض بيوته، كهل "حسن الوجه، عليه اثر النعمه فدنونا منه وسلمنا فرد السلام، وقال: من أين أنتم يافتيان؟! قلنا: من العراق فقال: حبذا.. أتنشدوني ام انشدكم؟! قلنا : بل أنشدنا فقال:
"لما أنا خوا قبيل الصبح عيسهم... وحملوها وسارت في الدجى الابل
ياحادي العيس عرج كي اودعهم.. ياحادي العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنكر مودتهم.. فليت شعري بطول البعد مافعلوا!
لما علمت بأن القوم قد رحلوا.. وراهب الدير بالناقوس منشغل
ياراهب الدير يالانجيل تخبرني.. عن البدور اللواتى هاهنا نزلوا
فحن لي وشكا وأن لي وبكى .. وقال لي يافتى ضاقت بك الحيل
إن البدور اللواتي جئت تطلبها.. بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا!.."
دير سيدة صيدنايا
دير مهيب مازال قائماً الى الآن، فوق كتلة صخرية، كأنه تاج عظيم. يبعد عن مدينة دمشق (30) كيلو متراً في ارتفاع (1400) متر عن سطح البحر.
يعود بناء هذا الدير الى عام (547م) زمن الامبراطور البيزنطي جستنيان وزائرو الدير يفدون إليه من كل مكان. من البلدان القريبة ومن أقاصي الأرض يحملون إليه النذر، ويطلبون فيه للمريض شفاء وللمعسر فرجاً!.. كان هذا شأنه منذ مئات السنين الى اليوم. وقد ذاعت شهرته بين الناس من كل جنس وعقيدة!..
ذكر هذا الدير في المراجع القديمة، وقال عنه ابن فضل الله العمري:
" من بناء الروم بالحجر الأبيض، وهو يعرف بدير السيدة، وله بستان وبه ماء جاء في بركة عملت به. وعليه اوقاف كثيرة له مغلات واسعة تأتيه نذور وافرة.."
ولعل اشهر من تغنى بطيبة مدامة صيدنايا، بعد تطوافه في الآفاق هو شاعر دمشق ابن عنين (1154- 1232م) ومن أبيات كتبها لأخيه من الهند جواباً على كتاب ورده منه جاء فيها:
"ياسيدي وأخي لقد أذكرتني.. عهد الصبا، ووعظتني ونصحت لي أذكرتني وادي دمشق وظله.. الضافي على صافي البرود السلسل ومداحه من صيدنايا نشرها.. من عنبر، وقميصها من صندل.
وأخيراً..
آمل أن أكون قد ألقيت بعض الضوء، بما سمح به المجال، على موضوع هام هو (أشعار الأديار) وما كان له من أثر بين فى الأدب العربي خاصة. وفي التراث العربي عامة فقد أتاح لجماعة من الأدباء والشعراء أن يلجوا باباً في الوصف، ماكان لهم أن يلجوه لولاها.. يشهد بذلك كتب الديارات العديدة التي صنفوها. وانتهى إلينا منها ما انتهى وضاع ماضاع، وفيما سلم منها، دليل على مانقول...