هل نحن على أعتاب حرب في ليبيا يقرع طبولها أعداء مصر؟.. هل ستشهد المنطقة حربا إقليمية من ورائها داعمون دوليون لحصد المزيد من الثروة العربية، المستنزفة طوال تاريخها، أم أنها ستتحول إلى حرب عالمية مسرحها المنطقة العربية؟.. أم أن ما يحدث هدفه استمرار توابع ما عرف بـ”الربيع العربي” الذي ما جنينا منه سوى سقوط الأنظمة ليحل محلها “استقرار الفوضى” سياسيا وأمنيا واقتصاديا.
إن هذه الأسئلة وغيرها من الطبيعي أن تعصف الأذهان بعد لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي بوفد القبائل الليبية الذي جاء طالبا التدخل المصري، عسكريا، في ليبيا؛ بعد أن أصبح “اللعب على المكشوف” وأعلن الرئيس السيسي جاهزية مصر للتدخل العسكري وحماية الأمن القومي في كل من ليبيا ومصر ضد أي تدخل أو تحرك من أي قوى معادية، حيث التحركات التركية التي لم تهدأ خلال الأيام الأخيرة، بعد أن كشفت تقارير صحفية ومصادر رسمية عن حشد عسكري كبير من جانب تركيا في منطقة (سرت والجفرة)، فتم رصد منظومة للدفاع الجوي وأجهزة التشويش، وإرسال المزيد من المرتزقة السوريين وخبراء عسكريين أتراك، وكذلك تدفق أرتال عسكرية للميليشيات الليبية المسلحة (الموالية لتركيا وحكومة الوفاق) باتجاه المراكز القريبة من محاور القتال غرب مدينة سرت الساحلية. وربما يتسائل سائل: ماذا يفيد مجئ وفد القبائل الليبية إلى مصر، بل وربما يذهب بعض الخبثاء بأنها تمثيلية بلهاء لا قيمة، لها وأن هؤلاء لا يمثلون كل الشعب الليبي كما يروج تنظيم الإخوان وقائدهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
ولكن، ولمن لا يعرف، فإن الشعب الليبي له تركيبة مجتمعية خاصة، وأن الثقل الوزني والنسبي للشعب الليبي يتمثل في قبائله الممتدة في ربوع دولته، والمفاجأة كانت أن وفد القبائل الذي حضر إلى مصر للقاء الرئيس السيسي مثَلَه شيوخ وزعماء القبائل من جميع أنحاء ليبيا؛ وهو ما ينفي تحيز مصر إلى الشرق الليبي كما يروج “الإخوان” وربيبتهم تركيا. ولم يكن اللقاء إلا تعبيرا عن تلاحم الشعبين المصري والليبي، وترجمة مؤكدة لطبيعة العلاقات التاريخية التي وطدتها علاقات المصاهرة والأنساب بينهما حتى توحدت الدماء. ولم يكن عنوان اللقاء (مصر وليبيا.. شعب واحد ومصير واحد) إلا ترسيخا جديدا لمفهوم الوطن وواجب الشعوب نحو أوطانها.
فبالرغم من إعلان القاهرة الصادر في السادس من يونيو الماضي، والذي دعا في الرئيس عبد الفتاح السيسي كافة أطراف النزاع الليبي إلى وقف القتال والعودة إلى التسوية السياسية، وأن تكون الأمور بيد الدولة الليبية الوطنية المفوضة من الشعب الليبي لا من الميليشيات والتنظيمات المسلحة، وهي المبادرة التي كشفت المطامع التركية وأحرجته أمام المجتمع الدولي.. بالرغم من هذا، إلا أن الرئيس السيسي أكد في لقائه بوفد القبائل الليبية أن مصر لن تسمح بالرهان على التنظيمات المسلحة في ليبيا، وأن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي حال تجاوز خط (سرت – الجفرة)، وأنه لن يكون هناك سماح لزعزة أمن واستقرار المنطقة الشرقية الليبية التي تمثل الأمن القومي المصري لحدوده الغربية. لم يقل “السيسي” هذا الكلام من فراغ، ولا لكونه مجرد كلام، ولكن أكد وبشكل كاشف وحاد حين أكد أن الجيش المصري هو أقوى الجيوش في المنطقة وأفريقيا، وأن مصر قادرة على تغيير المشهد العسكري بشكل سريع وحاسم (حال تجاوز الخط الأحمر الذي حدده السيسي من قبل وهو خط سرت – الجفرة).
إن لقاء “السيسي” بالقبائل الليبية أضفى مزيدا من الشرعية على الطلب الليبي لتدخل مصر لأسباب عديدة، أولها: أن مصر ليست طامعة كعهدها دوما، بل حامية، وأنها تلقت الطلب من البرلمان الليبي واليوم يدعم طلب البرلمان الليبي زعماء وشيوخ القبائل الليبية؛ مما أسبغ على الموقف المصري وجاهته أمام المجتمع الدولي، على خلاف الغاصبين الأتراك ووكيلهم فايز السراج رئيس حكومة الوفاق (الواجهة المدنية لتنظيم الإخوان والتنظيمات المسلحة في ليبيا).
ثانيا: مصر هي الأقرب حدوديا إلى ليبيا وإلى المنطقة المهددة (سرت والجفرة). ثالثا: مصر هي الدولة الأكثر تهديدا من التحركات التركية في ليبيا، بخلاف الدول الستة المتشاركة في الحدود مع ليبيا. رابعا: دولة مثل تونس موقفها “رخو”، فمن حدودها يتم تسهيل دخول المرتزقة السورين والأتراك إلى الغرب الليبي من خلال حزب حركة النهضة (الإخواني) بقيادة راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب التونسي، كما أن حراكا سياسيا ومدنيا واسعا يدور هذه الأيام لإسقاط تنظيم الإخوان من الحكم في تونس وسحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي وحركته، وقد استقال على إثر هذه الأحداث رئيس الحكومة إلياس الفخاخ. خامسا: الجزائر والسودان وتشاد والنيجر لهم حسابات وتقديرات مختلفة، وربما يرون أن لا ضرر مباشر واقع عليهم في الوقت الحاضر، وسياسة مصر الخارجية دائما تحترم سياسات الدول الأخرى ولا تتدخل في شؤونها.. ويجب أن نلفت الانتباه هنا أن دولة كالجزائر لها حدود مع دولة مالي وهي منطقة دائمة التوتر؛ حيث تركز معهود في تلك المنطقة لجماعات وتنظيمات إرهابية، فالكل عنده همه ومشغول به.
ولمن لا يعرفون أو يقدرون استراتيجية منطقة (سرت – الجفرة) بالنسبة لمصر، وهو ما يفرض عليها التدخل لحماية حدودها وأمنها القومي من الناحية الغربية نقول لهم: سرت والجفرة تبعدان عن مصر مسافة ١٠٠٠ كيلومتر تقريبا، وعند سيطرة التنظيمات المسلحة على قاعدة الجفرة الجوية؛ فهذا يسهل لتلك التنظيمات تهديد الحدود المصرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تقع “الجفرة” في منتصف ليبيا وتربط الجنوب بالشمال، وقريبة من طريق واحة جغبوب، ويمكن الوصول منها إلى واحة سيوة المصرية، الأمر الذي يمكن دخول تلك التنظيمات إلى مصر، لتشهد مصر معاناتها مرة أخرى من دخول الأسلحة والعناصر الإرهابية من تلك الحدود كما حدث في أعقاب أحداث 25 يناير 2011. أما في حال سيطرة تركيا على منطقة سرت، والتي تمثل الهلال النفطي الليبي وفي نفس الوقت إطلالها على الطريق الساحلي الرابط بين مصر وليبيا، وهو ما يمثل تهديدا تركيا واضحا للأمن القومي المصري.
ولمن يسألون عن الشرعية، نقول لهم: إن مصر اختارت الاختيار الصحيح الذي تمثل في المكون الحقيقي للشعب الليبي (القبائل، الجيش الوطني، البرلمان) فهذه المكونات الثلاثة هي الشرعية الليبية الحقيقية، وهذه الشرعية، أيضا، اختارت مصر لتكون الملاذ والأمان لها. الشرعية يضفيها الداخل وليس الخارج، فمن يتعللون بأن حكومة الوفاق هي من يعترف بها المجتمع الدولي نقول لهم: هذا المجتمع الدولي يعترف بمصالحه فقط،، والآن، أين مؤيدي “السراج” وربيبه “إردوغان” في الداخل الليبي؟!
إن صراحة ووضوح الموقف المصري خلال لقاء “السيسي” بوفد القبائل الليبية عكسا قوته وأثبت أن مصر دولة مؤسسات، وأنها تنتظر موافقة برلمانها للتدخل العسكري في ليبيا، وأنها لن تتدخل إلا بطلب ليبي وتخرج بأمر ليبي، في تقدير واضح للسيادة الليبية.