بوابة صوت بلادى بأمريكا

محيى الدين إبراهيم يكتب: «مسرح رمسيس» وقيمة الفنان في الشرق

لا شك أن الفنان القدير عميد المسرح العربي يوسف وهبي وفرقته فرقة رمسيس ومسرحه مسرح رمسيس هو ما أعطى للفنان في الشرق وليس في مصر فقط قيمته ومقامه بعد أن كان الممثل يتساوى مع بائع الحمام في عدم الإدلاء بشهادته أمام القضاء، فبائع الحمام قال فيه الإمام ابن قدامة : "اللاعب بالحمام يطيرها , لا شهادة له".! وبالنسبة للممثل فإنه يخشى منه في شهادته اقناع القاضي ولو كان كاذباً ! ولكن حين أعطى مسرح رمسيس للمثل قيمته صارت له كل الحقوق والواجبات والمواطنة الشريفة من الدرجة الأولى.

تلغراف في كلمتين يعلن عن ولادة نجومية يوسف هبي !

"والدك توفي" هكذا كانت برقية والدته التي أعادته لمصر بعد سنوات "التيه" بميلانو في إيطاليا.

وحين عاد في أواخر عام 1921م، التقى بوالدته وأخيه القاضي "محمود وهبي" وأخبراه أن آخر كلمات والده "عبد الله باشا وهبي" قبل وفاته كانت: فين يوسف ؟ .. إذا قابلتموه قولوا له أني مسامحه، ويقول يوسف وهبي في مذكراته أنه تأثر بهذه الكلمات تأثيراً عميقاًبسبب رضاء والدهقبل وفاته عنه وعن الفن الذي أختاره طريقاً لحياته.

البحث عن عزيز عيد مكتشف موهبة يوسف وهبي:

أوائل عام 1922م، أصبح يوسف وهبي ثرياً بميراث ( 10 آلاف جنيه ذهبية  )ورثهم عن أبيه، ثراءً يتيح له تحقيق حلمه في أنشاء فرقة مسرحية، ذلك الحلم الذي ظل يراوده منذ أن عشق الفن وهو صغير بمدينة سوهاج بعد أول حضور له لمشاهدة فرقة سليم قرداحي، الحلم بفرقة مسرحية تقدم فن التراجيدي وبخاصة "المأساة" الذي لا يوجد مثله في الساحة الفنية بمصر المملوءة بالفرق الكوميدية كفرقة نجيب الريحاني وعلي الكسار، وفرقة جورج أبيض التي تقدم الدراما الغربية المعربة، والفرق الغنائية التي تقدم الأوبريتات وعلى رأسها فرقة منيرة المهدية، ولن يحقق هذا الحلم إلا بعبقري المسرح الجاد "عزيز عيد"، الذي يعتبره يوسف وهبي أستاذاً له إذ أنه هو الذي أكتشفه عام 1916م حينما كان يقدم منولوجات بحفلات النادي الأهلي ودفعه لاحتراف الفن قبل سفره لإيطاليا هرباً من غضب أبيه عبدا الله باشا وهبي،  ولكن أين هو عزيز عيد الآن ؟ .. لا أحد يعلم .. هناك اشاعات تؤكد أنه أفلس وهام على وجهه بعد خسارته الفادحة في موسم 1921م المسرحي، الذي لم يلق نجاحاً لغالبية الفرق المسرحية في مصر بسبب انشغال الناس بأحداث ثورة 1919م وأحلام المستقبل في انشاء أول دستور مصري تحاربه الإنجليز ويحاربه الملك فؤاد، لكن يوسف وهبي العنيد استطاع أن يجد "عزيز عيد"، وجده يسير في شارع عماد الدينبالقاهرة، رث الثياب وحافياً وينحني على الأرض ليلتقط عقب سيجارة ! وبالفعل كما قال البعض كأن هائماً على وجهه !، وقرر يوسف وهبي أن يسافر به إلى فرنسا ليصنعا سوياً تصوراً جديداً للمسرح في مصر يختلف اختلافا كلياً عن كل ما قبله، ويقوما معاً بأنشاء نهضة مسرحية تليق بقيمة مصر.

 

مسرح مصري عالمي:

أول شيء وضعه يوسف وهبي نصب عينه لإنشاء مسرح مصري يحاكي المسارح العالمية في أوروبا هو دراسة أخطاء الفرق المسرحية التي سبقته، وكان من أكثر الأخطاء التي قللت من شأن وقيمة المسرح في مصر وركز على تفاديها يوسف وهبي هي، الجمود وعدم التطوير، اختيار نصوص أجنبية لا تمت للواقع المصري بصلة، عدم وجود إخراج مسرحي سليم مبني على قواعد مسرحية سليمة، والفوضى في أختيار الديكور والملابس بما لا يتناسب مع الجو العام للعمل المسرحي سواء تاريخي أو معاصر، والتأخير في رفع الستار مدة طويلة تدفع المتفرج للملل أو لترك المسرح قبل عرض المسرحية، كل هذه المسائل جعلت من المسرح المصري في ذلك الوقت مسرحاً لا يرقى لأن يقف على قدم المساواة مع المسرح في العالم المتقدم فنياً.

لماذا فرقة "رمسيس" وليس فرقة يوسف وهبي؟.

قرر يوسف وهبي بعدما سافر إلى إيطاليا أن يبقى بها للأبد، وأن يتجه فيها للعمل بمجال المسرح والسينما، وهو المجال الذي يؤمن بالانتماء إليه ودفعه هذا الانتماء لمغادرة مصر هرباً من معارضه والده، ولأنه مصري عاشق لوطنه أختار لنفسه أسم "رمسيس" ليدل على هويته أمام جمهور الأجانب الإيطاليين، ويبدو أن هذا الاسم كان تميمة الحظ التي أدخلته حقل السينما الإيطالية من أوسع أبوابها ليقوم ببطولة الفيلم الإيطالي "عين الثعبان" عام 1921م حيث كان هو أول ممثل عربي مصري على الإطلاق يقوم بدور البطولة في فيلم إيطالي وأوروبي، وحينما عاد لمصر في أواخر عام 1921م قرر أن ينشئ فرقته المسرحية بنفس الاسم تيمناً به وبصداه الفني في إيطاليا.

تكوين الفرقة وبداية التجهيز للموسم المسرحي 1923م

كانت المشكلة عند يوسف وهبي اختيار مجموعة من أكثر الفنانين احترافاً ليس فقط في مجال التمثيل وإنما في الإخراج والإضاءة والديكور والملابس لتكون الفرقة على المستوى العالمي، وعليه أختار مجموعة فرنسية من الفنانين المحترفين في هذا المجال وعاد بهم للقاهرة و في شهر نوفمبر 1922م، أقترح عليه "عزيز عيد" الذي تم اسنادالإخراج إليه مجموعة من الفنانين المصريين النابهين ليكونوا النواة الأولى لفرقة رمسيس ومنهم: حسين رياض، استيفان روستي، روزا اليوسف، فاطمة رشدي، أحمد علام، حسن فايق ، سرينا إبراهيم وغيرهم على أن يبقى أمر الفرقة سراً حتى الاتفاق على ميعاد الإعلان عنها في الصحف والمجلات.

من أفشى السر؟؟

في 21 يناير 1923م فوجئ المصريون بهذا الإعلان يتصدر صفحات جريدة المقطم:

تعلن جريدة المقطم عن قرب افتتاح أكبر مسرح مصري على الطراز الحديث بشارع عماد الدين مع استعداد لم يسبق له مثيل مع توفر رأس المال الكبير وسيمثل على هذا المسرح نخبة من الممثلين والممثلات !

شك يوسف وهبي في أن استفان روستي أو "زكي طليمات"، قد أفشى أحدهما سر ظهور الفرقة للجرائد، وأكتشف بالفعل أن زكي طليمات هو من أفشى السر حيث قبل وظيفة المندوب الفني لجريدة المقطم، ولكنه كان افشاءً ساهم مساهمة إيجابية في فضول الشارع المصري لمعرفة اسم ابن الباشا واسم الفرقة الجديدة.

ظهور النجم الجديد في عالم الفن:

تم الإعلان رسمياً في أواخر شهر فبراير 1923م بكل الجرائد عن أن المسرح هو تياترو "رمسيس" والفرقة هي فرقة "رمسيس" لصاحبها "يوسف وهبي" نجل المرحوم "عبد الله باشا وهبي" الحائز على دبلوم الإلقاء من معهد ميلانو بإيطاليا، وفي يوم 10 مارس 1923م تم رفع الستار رسمياً عن أول عرض مسرحي لفرقة رمسيس بطولة "يوسف وهبي" وهي مسرحية "المجنون" ليعلن هذا العرض عن بزوغ وولادة نجم وطني محترف ومؤسس فرقة رمسيس المسرحية التي تضاهي في اتقانها فرق أوروبا وإنشاء أول مسرح مصري على الطراز الفرنسي والعالمي وهو مسرح رمسيس.

عام المجد 1926م:

في 22 نوفمبر 1926م قدم يوسف وهبي مسرحية كرسي الاعتراف" ترجمة الفنان "استيفان روستي" وقصة المسرحية تحكي عن كردينال – وهي مرتبة دينية رفيعة بالكنيسة الكاثوليكية – يتلقى اعترافاً من قائد الجيش بأنه أرتكب جريمة قتل بحق والد حبيبته التي رفض أن يزوجها له، وبعد أن أعترف قائد الجيش بهذا الاعتراف الخطير أختفى لفترة، وفي فترة اختفائه تم اتهام أخيه بجريمة القتل، وأوشك أن يصل لحكم الإعدام وهنا يقع الكاردينال في صراع نفسي صعب بين شخصيته ككردينال ورجل دين يعرف القاتل الحقيقي الذي أعترف له بجريمة القتل ولا يستطيع كرجل دين أن يفشي أسرار الرعية وبين كونه إنساناً يجب عليه أن يحمي برئ من عقوبة الإعدام،  وتنال المسرحية قبولاً عظيماً واستحساناً تصل أخباره لإيطاليا ولبابا الكنيسة الكاثوليكية نفسه، "بيوس" الحادي عشر ( 1922م – 1939م ) وهو آخر بابا للكنيسة الكاثوليكية تحت العلم الإيطالي وأول بابا للكنيسة الكاثوليكية تحت علم الفاتيكان بعد إنشاء دولة الفاتيكان عام 1929م ، فينعم على يوسف وهبي بالجائزة الذهبية عام 1927م ويضع أسمه في الكتاب الذهبي الخاص بالكاتدرائية، مما دفع "موسوليني"وكان حاكم ايطاليا ( 1922م – 1943م ) أن يعطي يوسف وهبي جائزة "كومنداتوري" أو لقب "فارس" بسبب عداء يوسف وهبي للشيوعية التي كان موسوليني" يناصبها العداء إلى حد الإبادة، ومن ثم صار يوسف وهبي في عام 1927م نجماً لامعاً في عالم الفن واصبحت فرقة "رمسيس" من أعظم الفرق في الشرق، مما دفع يوسف وهبي أن يتدخل في دور "عزيز عيد" كمدير للفرقة ومخرجها الأول وأن يسحب البساط شيئاً فشيئاً من تحت قدميه، لإيمانه بوجوب النهوض أكثر بفرقة "رمسيس" بعد سمو مكانتها ليس في مصر والشرق فقط وإنما في أوروبا أيضاً حتى حدثت الأزمة بينه وبين "عزيز عيد".

فاطمة رشدي وعلقة ساخنة لزينب صدقي:

بعد تقليص دور عزيز عيد كمدير للفرقة ومخرجها الأول، قرر يوسف وهبي" أن يستبدل بطلة الفرقة الأولى "فاطمة رشدي" لتأخذ مكانها "زينب صدقي" مما دفع فاطمة رشدي لأن تشيع في الوسط الفني أن يوسف وهبي على علاقة حب بزينب صدقي، وهو أمر لم يعلق عليه يوسف وهبي ولا زينب صدقي حينما حاصرتهم الصحافة مما أغضب "فاطمة رشدي" وجعلها تنتظر "زينب صدقي" وفور صعودها لتأدية بروفاتها على خشبة المسرح حتى انهالت عليها "فاطمة رشدي" باللكمات والضرب والركلات دخلت على إثرها للمستشفى وهو الأمر الذي أغضب يوسف وهبي جداً فقام بطرد "فاطمة رشدي" نهائياً من الفرقة دون رجعه، ولما كانت فاطمة رشدي زوجة عزيز عيد" الذي تم تقليص دوره كمدير للفرقة ومخرجها الأول، هدد يوسف وهبي بترك الفرقة إذا ما أصر على طرد "فاطمة رشدي" فلم يأبه "يوسف وهبي" بهذا التهديد خاصة بعد إعلانه للفرقة ذات مساء أنه الرواية وأن الرواية أي رواية يتم تقديمها على مسرح "رمسيس" هي يوسف وهبي، وكانت هنا بداية أن يستأثر "يوسف وهبي" بكل شيء في الفرقة من الإدارة والإخراج والبطولة، لتخرج فرقة رمسيس" بتصور جديد يدفعها للأمام بقوة ويضع "يوسف وهبي" في مصاف عمالقة المسرح في مصر والعالم.

أخبار متعلقة :