بوابة صوت بلادى بأمريكا

حسنى حنا يكتب: سوريا المسيحية.. من ميلاد المسيح الى دخول العرب(1)

"المسيحية ديانة أساسها المحبة.. محبة الله ومحبة الانسان"

*د.فيليب حتي

في مطلع القرن الأول للميلاد، ولد ذلك الذي قسم التاريخ الى عصرين. وكانت الأضواء مسلطة آنئذ على روما Roma سيدة العالم، وعلى العرش المتألق، الذي كان قد أقامه أوغسطوس قيصر Augustus Caesar قبل حين.

ولم يكن المؤرخ ليحفل بوجود طفل، في ولاية نائية من الامبراطورية، جمع بعض الأتباع حوله، وعلم وبشر، وشفى وصلب، بسبب معتقداته، وقد ظهر شاب معاصر، في الوقت ذاته من مواطنيه هو فلافيوس يوسيفوس Flavius Jusephus الذي خصص لهذا (الرجل الحكيم) و (صانع الأعمال الخارقة) كما قال عنه. شذرة صغيرة، تنتهي بهذه الملاحظة: "وجماعة المسيحيين، التي سميت بالنسبة إليه ليست منقرضة اليوم.."!..

والمؤرخ اللاتيني الوحيد، الذي يذكر المسيح Christ هو تاكيتوس Tacitus الذي يشير بصورة عرضية بأنه: "تعرض لعقوبة الموت في عهد طيبريوس Tiberius بموجب حكم الحاكم بيلاطوس البنطي Pontius Pilat.

ومع ذلك، كان الذين كانوا، أقرب الى المسيح في الجليل واليهودية، وعرفوه جيداً، أصبحوا مقتنعين، بأنه لم يكن شخصاً عادياً. بل (ابن الله) وقد بدلوا طريقة حياتهم حالاً. وكما فعل المسيح، لم يترددوا في بذلها، في سبيل معتقداتهم. كما اهتم بعضهم، بتسجيل تعاليم سيدهم وأعماله. وهكذا وصلتنا الأناجيل، مصدرنا الرئيس عن حياة المسيح. وقد قدر لذلك الدين الجديد، أن يبقى طويلاً، بعد أن سقطت الامبراطورية الرومانية، التي كانت تبدو راسخة ومستقرة. وبعد أن أصبحت في أسفار التاريخ. وقد دام هذا الدين. أكثر من أية فلسفة وعقيدة أخرى، في بلاد اليونان والرومان، وبالتالي في العالم أجمع.

وإذا كان لبعض حوادث حياة المسيح وتعاليمه، مايشبهها فى التراث الديني في بلاد الشرق القديم، فإن الانسان لايستطيع أن يجد في أي مكان آخر، مثل هذه الخلاصة المحكمة، من الأفكار النبيلة. وهذا التأكيد على المثل السامية. كما أنه ليس باستطاعتة أحد. أن يكشف في أي زمن، طبق ماعلمه، بمثل هذه الصورة الكاملة.

أسس الديانة المسيحية ومبادؤها

كان اساس هذه الرسالة الجديدة (المحبة) وبالمحبة جعل المسيحيون الانسانية عائلة واحدة، تحت أبوة واحدة. وهكذا وضعت المسيحية الأولى مثلاً عالمياً أعلى. بخلاف المثل الأعلى الأقليمي، الذي كان يسود في كل مكان..

وكان اليونان والرومان يفكرون بالانسانية على أساس القومية. بينما كان المسيحيون السوريون، أول من أعطى العالم. نظرة عالمية فعالة. ومجتمعهم لم يكن له طموح دنيوي. وكانت المسيحية فى جميع تعاليمها تؤكد على واجب تكريس الانسان نفسه لله، بصورة لاتعرف الانانية، وعلى خدمة الانسان. وعلى الروحانية الداخلية. عوضاً عن الطقوس، والمظاهر الخارجية.

ولم تتخذ أي من العقائد الهلنستية (المحبة) كفلسفة أساسية لها. والرواقية Stoicism وهي مدرسة فلسفية، أسسها الفيلسوف السوري (الفينيقي) زينون Zeno (القرن 3 ق.م) وحدها حاولت السير في هذا الاتجاه..

ولم تعلم أية عقيدة سابقة بأن هناك الهاً، فادياً ومخلصاً Redeemer يهتم بكل أفراد الجنس البشري. كما أنه لم تكن لأي منها، رسالة حيوية تتجه للفقير والمنبوذ، وللعشار والخاطئ. وقلما أثرت أية ديانة وثنية على الدوافع الداخلية للسلوك والحياة. فقد كانت كلها تهتم بصورة رئيسية بالطقوس ولم توجد أية منها، ذلك الارتباط الفعال بين الدين والأخلاق، أو تخصص مثل ذلك الاهتمام، للحياة الثانية، كما فعلت المسيحية، التي قرنت الأخلاق بالدين، فأصبح الاحسان من أعمال الايمان. بدلاً من أن يكون من أعمال العدل.

وقد أعطى الدين الجديد. للمضطهدين وعديمي الحظ، الأمل في حياة ثانية، تقدم للأبرار السعادة التي حرموا منها، في الحياة الدنيا. وكان اليونان والرومان، يمنحون الخلود، لمن كان محسناً لشعبه فقط!..

ثم أن الكنيسة في تنظيمها كمؤسسة. وضعت أساليب فاقت كثيراً، كل ماوضعته الديانات الأخرى. وقد شق هذا الدين السوري طريقه ببطء، ولكن بصورة أكيدة، الى مرتبة التفوق الروحي. وبهذا الدين أتت الحضارة السورية بأعظم مآثرها..

تقدم المسيحية

بعد موت المسيح وقيامته، وصعوده الى السماء. ذهب تلاميذه ليبشروا بالانجيل، وكلمة الله في انحاء العالم. محتملين كل أنواع المشقات وكان مقدار تقدم المسيحية بطيئاً اول الامر. فقد بدت بعض مظاهر الدين الجديد، غريبة على الفكر اليوناني-الروماني ولكن الهوة أزيلت نهائياً بجهود بولس الرسول Paul the Apostle والآباء المسيحيين الاوائل.

وكان بولس الرسول. يعرف اللغة والفلسفة اليونانية. وبفضل الطريقة التي انتهجها. تم التفاهم بين الديانة المسيحية والحضارة اليونانية.. واتخذت المسيحية طابعاً هللينياً قبل أن تصبح مقبولة لدى اليونان والرومان. وقد عملت كل الظروف لصالح المسيحية. ولكن قبل أن يتأكد لها النصر، كان على اتباعها المتمسكين بها، ان يتعرضوا لنار الاضطهاد!..

اضطهاد المسيحيين

كان المسيحيون الاوائل نشطاء ومتحمسين، في بحثهم عن أتباع جدد لديانتهم. كما امتنعت جماعتهم عن الاشتراك في الاحتفالات الرسمية والدينية ومثل هذا الموقف، كان لابد ان يؤدي الى الصدام!..

حصل أول اضطهاد عنيف ضد المسيحيين في عهد الامبراطور نيرون Nero بمناسبة حريق دمر قلب مدين روما عام (64) وفسر الجمهور الناقم هذا الحريق، بانه حادث آخر، من حوادث لهو امبراطورهم الجنوني، وعندما ارتاع نيرون من ذلك، حاول أن يلقي التهمة على المسيحيين في العاصمة روما، وأمر بابادتهم جميعاً. وفي عام (67) صدر حكم على بولس بالموت بكونه مسيحياً ويبدو أن بطرس saint Peter استشهد بالصلب في روما. في نفس الوقت الذي استشهد فيه بولس بالسيف. وقد قتل كثيرون في نفس الوقت.

وحدث الاضطهاد الثاني في عهد الامبراطور دوميتيان Domitian سنة (95).

أما الاضطهاد الكبير فقد حدث في عهد الامبراطور الروماني ديوكليتيان Diocletian في القرن الرابع. الذي عزم على محو كنائسهم وحرق كتبهم، وطردهم من مناصبهم. وأصدر مرسوماً بذلك في عام (303) وقد استمر هذا الاضطهاد مدة عشر سنوات، بشدة لايعدلها شئ. منها الالقاء الى الوحوش الجائعة في ساحات المسارح العامة!..

ولكن بعد سنوات قليلة، أصبحت المسيحية، في عهد الامبراطور قسطنطين الكبير Constantine the Great الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية. وكان اضطهاد ديوكليتيان آخر الاضطهادات في عهد الرومان.

الامبراطور قسطنطين

بعد سقوط روما بيد البرابرة (4 ايلول 476) وانهيار القسم الغربي من الامبراطورية الرومانية، أصبحت مدينة (القسطنطينية) عاصمة القسم الشرقي للامبراطورية الرومانية..

وقبل أن يؤسس الامبراطور قسطنطين، عاصمة جديدة للدولة. اعترف بالديانة المسيحية، وجعلها ديانة رسمية للدولة، وتروي كتب التاريخ قصة اعتناق قسطنطين للمسيحية أنه شاهد فى السماء اثناء زحفه على روما عام (312) صليباً متألقاً، عليه كتابة يونانية مضيئة تقول: "بهذه العلامة تنتصر" والذي نعلمه بالتأكيد هو ان قسطنطين استخدم اللواء الكبير، وعليه اشارة الصليب كعلم امبراطوري وبواسطته تقدم نحو النصر، على منافسه مكنتيوس Maxantius والأمر الثابت ايضاً هو ان المسيحية، بعد أن كانت فيما مضى غريبة أصبحت في عهد قسطنطين، الديانة الرسمية للامبراطورية. وإذا كانت الحضارة اليونانية قد سيطرت على فكر الرومان من قبل. فإن سوريا الآن قد سيطرت على نفوسهم..

سوريا في العصر البيزنطي

عرفت سوريا أزهى عهودها. وقمة أزدهارها، في جميع المجالات في العصرين اليوناني والروماني.. وهي تبدو بمظهر مختلف نسبياً في العصر البيزنطي. وقد أصبحت فيه بلاداً مسيحية بشكل عام. والواقع أن هذه الفترة، هي الفترة الوحيدة التي كانت فيها سوريا بلاداً مسيحية تماماً. ونظراً لوقوع العصر البيزنطي، بين العصر الروماني والعصر العربي الاسلامي فإنه كان فريداً في تاريخ سوريا!..

لم تكن البلاد مسيحية فحسب، بل كان العصر، تسيطر عليه الصفة الدينية، فقد كانت الكنيسة، أعظم مؤسساته وكان القديسون ينالون اكبر جانب من الاحترام. وقد وجد ين القرنين الرابع والسادس عدد من الرهبان والأساقفه والراهبات والنساك، بشكل لم يعرف من قبل، ولا من بعد!.

وكانت أبنية الكنائس، واماكن الصلاة والأديرة، تنتشر في البلاد وجميعها تتبع أسلوباً جديداً في الهندسة المعمارية، يظهر فيه الباب، وأبراج الأجراس، والصلبان البارزة. كما نشطت زيارة الأماكن المقدسة، وتعتبر البقايا المعمارية والآثار الدينية البيزنطية الموجودة اليوم في سوريا، أكثر عدداً من آثار جميع العصور!.

مراكز المسيحية في سوريا

كان أول مركز للمسيحية السورية المنظمة، في مدينة أنطاكية Antioch ، وقد كانت كنيسة أنطاكية –بصورة خاصة- أم الكنائس. وكان بولس وغيره من المبشرين الأوائل، ينطلقون من أنطاكية للبدء بأعمالهم التبشيرية. ثم يعودون إليها..

وقد أصبحت أنطاكية، بعد تدمير أورشليم (القدس) على يد الرومان عام (70) عاصمة العالم المسيحي. وكان أسقفها في القرن الرابع، رئيس أساقفة (متروبوليت Metropolite) وفيها عقد أكثر من ثلاثين مجمعاً للأساقفة (سينودس) وقد لمع فيها القديس يوحنا فم الذهب (ت 407) وعلى عكس الاتجاه العاطفي والصوفي في الدين، أكدت مدارس اللاهوت على العنصر الانساني، وكانت لغتها هي اليونانية.

وكانت اللغتان اليونانية والآرامية، تستعملان في العبادة، منذ عصر الرسل. وبعد أن أنطلقت انطاكية الى مكان الزعامة، بالجزء الذي يتكلم اليونانية في سوريا. بدأت مدينة أديسا Edessa بالارتقاء الى مكانة مشابهة في المناطق التي تتكلم اللغة الآرامية (السريانية).

آباء الكنيسة

تدين الكنيسة بقسم كبير من نجاح انتشارها، الى سلسلة من المؤلفين المعروفين بآباء الكنيسة، الذين فسروا عقائد الكنيسة ووسعوها، ويسمى اول ستة منهم الآباء الرسوليين. الذين عاصروا الرسل في بعض أدوار حياتهم. وكان أحد هؤلاء سورياً يدعى أغناطيوس Ignatius الذي خلف بطرس في أسقمية أنطاكية.

ومن بين الآباء، الذين عاشوا قبل مجمع نيقية Nicaea الذي انعقد عام (325) شخصان بارزان، كانت لها صلة بسوريا، هما يوستين الشهيد Justin (the) Marty وأوريجين الفيلسوف Origen الذي افتتح اول مدرسة مسيحية في روما، وتوفي في مدينة صور Tyre عام (253).

الرهبنة في سوريا

إنبثقت الرهبنة من عادة الزهد المسيحية. وكان مؤسسها مصرياً يدعى القديس أنطونيوس  Anthony the Great الذي اعتزل في الصحراء ومات حوالي عام (360) وسرعان ما انتقل هذا الأسلوب الجديد في الحياة المسيحية من مصر، الى سوريا الجنوبية، حيث بدأ حركة الرهبنة هيلاريون Hilarion من غزة. وهو أحد تلاميذ القديس انطونيوس وفي أواخر القرن الرابع. ظهرت جماعات من النساك حول انطاكية.. وكان القديس أفرام السوري Ephram the Syrian الذي توفي حوالي عام (373) أحد مؤسسي الرهبنة السورية. وفي القرن التالي ظهر القديس سمعان العمودي Saint Simon  (ت 459) ولا يزال السواح، يشاهدون العمود،الذي أقام عليه سمعان، وسط كنيسة فخمة، ضمن مجمع كنسي كبير، يضم العديد من الكنائس والأديرة، ومساكن الرهبان الى الشمال الغربي من مدينة حلب في المنطقة المعروفة باسم جبل سمعان. وقد كانت حياة الرهبان الاوائل، النموذج المحبب لدى العالم في الشرق والغرب.

 

أخبار متعلقة :