بوابة صوت بلادى بأمريكا

جلالة المتّة بقلم المنتجب علي سلامي

 
 من وحي الواقع في سورية الحبيبة حول المتّة، هذا المشروب السحريّ اللذيذ المتعالي المدلّل الساخن، مالئ الدنيا وشاغل الناس ،والذي وصف بويسكي الفقراء، و أصبح تراثاً أو كالتراث ،يتوارثه الأبناء عن الآباء وهلمّ جرّا...فقد ارتبط اسمه بالبخل كما ارتبط بالكرم، وارتبط اسمه بالفقر؛ كما ارتبط في هذه الأيّام -بعد غلاء ثمن علبة المتّة - بالتبذير أو الثراء؛ فالأموال التي تُنفَقُ على تأمينه في الأسر الكبيرة الكريمة التي تعتمد على الراتب الوظيفيّ أصبحت تهدّد ميزانيات بيوتهم بالعجز، وهذا واقع في مجتمعنا، فهناك عائلات كثيرة تعوّدت منازلها أن تسخو على الضيوف، ومن جملة هذا السخاء تقديم هذا المشروب الأصيل لكلّ زائر دون أن يُخيَّر غالباً، وهي تحتاج مثلاً تقريبيّاً لعلبتي متّة في اليوم الواحد أي لأكثر من عشرة آلاف ليرة سوريّة ناهيك عن البذورات غالية الثمن التي تقدّم إلى جانبها، وأصبحت موضة تشبه الفرض والواجب، وتُقاس درجة الكرم في تقديم هذا المشروب بأمرين، أولهما نوع المتّة وثانيهما نوع الموالح التي ترافقها ، ومن الضيوف من يعتذر ممتعضاً عن احتسائها ،أو يجامل خجلاً ، لأنّ النوع الذي يقدّمه المضيف ليس هو النوع الفاخر الذي يفضله ويحتسيه دائماً ،وهذا غيض من فيض.....
وقد أصبح اسم المتّة يترافق مع أغلب عباراتنا فنحن نقول : - ماأطيب كأس المتّة فوق ذلك الجبل او على ضفّة النهر....أو ضع الإبريق على النار أنا قادم إليك..
أو حوّل لنشرب المتّة..
أو لقد خرجت من البيت مسرعاً حتّى طعم المتّة لم أذقه....
أو يادكتور هل أستطيع أن أشرب حبة الدواء بعد المتّة؟!.....
و القوانين خصّصت للمتّة جانباً من موادها لمنع شربها في الدوائر الرسميّة، فتزايد عدد المخالفين لهذه القوانين ،وأصبحت مصاصاتها مشرعة منتصبة في المكاتب والمدارس والشركات وكأنّها تنتفض في وجوه كلّ المانعين والمنتقدين لها ولمجدها وتراثها المقدّس....
أحد الكادحين الشرفاء الذي يعمل نجّار باطون قال لي يوماً:
- والله لو أصبح سعر علبة المتّة خمسين ألف ليرة فلن أتوقّف عن شرائها ،لأنّني تعوّدت على احتسائها بعد ساعات عملي المرهقة، وأجد فيها راحةً وتعويضاً عمّا فقدته من عرق متصبّب؛ فتمنحني نشاطاً جديداً وقد جرّبتُ مراراً أن أشرب سواها لكنّني لم أحسّ بتلك النشوة التي كانت ترافقني قبيل شرب المتّة وأنا أنتظرها عاشقاً وأثناء شربها وبعده....
والظاهرة الغريبة التي اجتاحت مجتمعنا أنّ الأطفال المراهقين قد أصيب الكثير منهم بالعدوى ، فراحوا يتحلّقون على احتساء ماء خضرتها جماعات جماعات ،وكؤوس متّتهم العامرة تشمخ شاهرةً سيوف مصّاصاتها الملتمعة  في الأماكن العامّة والخاصّة إلى جانب اراكيلهم الفخمة التي تزفر الدخان كسحاب كانون، سعيدين مرحين متفائلين وهم ينفقون الأوقات والليرات.......
وبعض الزائرين يعتذر عن شربها إذا قُدِّمَت له قائلاً :- لقد شربتها اليوم خمس مرّات وأكثر...ويُضطَرّ المضيفُ أن يجامل ضيفه محتسياً معه هذا المشروب العظيم مُتكلّفاً إظهار الفرح ولو كانت معدته تئن من بحيرتها المائيّة المتجمّعة من احتسائها لمرّات ومرّات.....
ومنهم من يسخر من شاربي الزهورات التي أضافوها إلى متّتهم متّهماً إيّاهم بالجهل بطقوسها أحياناً وبالبخل أحياناً أخرى......
والضيف الذي تُقدّم له القهوة في بداية زيارته إلى منزل من المنازل  يَعتَبرُ ذلك استخفافاً به وإيحاءً من أصحاب البيت له بألّا يطيل وقت الزيارة......
وقد أصبحت كأس المتّة عند الكثيرين أيضاً مكاناً لوضع وإضافة وصفات التنحيف (الريجيم )من أعشاب وعصائر الليمون والتفاح تضاف إلى مسحوق المتّة الذي لايمكن الاستغناء عن جلالته ومرورته وأصوات انصباب مياهه من المصّاصة عندما تُسحَبُ بعنف لتلج الفم وتستقرّ في المعدة الصابرة.....
وغالباً يستهلك ضرب المتّة ليُشرب على الأصول التي تراعي زمن النميمة والثرثرة أكثر من ساعة وقد يصبح ماراتونيّاً لساعات وساعات.......
وانا لاأنكر فائدتها وميلي لاحتسائها، ولكن مع إضافة أعشاب قرأت عن فائدتها، وكم هي رائعة في أيّام شتائنا الباردة ولكن باعتدال ووعي وابتعاد عن مجالس النميمة وألّا تصبح وسيلة لإذلالنا من قبل تجّارها المستوردين لها ،والذين لارحمة في قلوبهم ولاشفقة،وضمائرُهم أصابها الشلل وأموالهم تتكدّس يوماً بعد يوم على حساب خبزنا ولقمةعيشنا مستغلّين وفاءنا وإخلاصنا وكرمنا وحفاظنا  على طقوس هذه المتّة العريقة .