يبدو أن الاحتلال الإسرائيلى بات يجر أذيال الهزيمة فى معركته، التى يخوضها منذ أكثر من 45 يوما، فى قطاع غزة، سواء على المستوى الميدانى، فى ظل عجزه عن تحقيق الهدف المعلن من العدوان الوحشى، وهو القضاء على الفصائل الفلسطينية فى القطاع، رغم ما ارتكبه من جرائم تصل إلى مرتبة "الإبادة الجماعية"، بحق المدنيين العزل، والتى أسفرت عن مقتل آلاف البشر، معظمهم من النساء أو الأطفال، أو دبلوماسيا، عبر فشله فى استغلال الزخم الناجم عن عملية "طوفان الأقصى"، وما ترتب عليها من حالة تعاطف غربى، لتصفية القضية، وذلك بفضل الجهود الكبيرة التى بذلتها الدولة المصرية، للتصدى له، وتحقيق توافق عالمى، يعزز ثوابت القضية، أو على مستوى الداخل الإسرائيلى، جراء فشله الذريع فى إقناع المواطنين فى الداخل، بما تحقق خلال العدوان، خاصة مع عدم قدرته على تحقيق أى إنجاز يذكر فى ملف الأسرى، مما دفع آلاف الإسرائيليين إلى التظاهر للمطالبة بوقف إطلاق النار، بل والاحتشاد أمام السفارة المصرية لمطالبة القاهرة بالتدخل الفورى لإنهاء الأزمة واستعادة ذويهم.
إلا أن ثمة حالة من الإصرار على الترويج لفكرة التهجير، والتى تكررت بصور مختلفة، أولها مع بداية العدوان، عبر الدعوة لنقل سكان غزة إلى دول الجوار، ثم بعد ذلك حديث نواب بالكنيست عن نقلهم إلى أوروبا والولايات المتحدة، بينما كانت آخر حلقات الدعوة المشبوهة يوم الثلاثاء، عندما دعت وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية غيلا غملئيل، اليوم، المجتمع الدولى إلى تشجيع ما أسمته "إعادة التوطين الطوعي" للفلسطينيين خارج القطاع، وهو ما يعكس رغبة ملحة لدى القيادة الإسرائيلية لتطبيق الفكرة وتنفيذها، مما يضفى انطباعا حول الهدف الحقيقى من ورائها، والذى يتجاوز مجرد الفصائل المتواجد داخل غزة، إلى ما هو أبعد من ذلك وهو تصفية القضية.
والحديث عن تصفية القضية ربما يبدو واضحا فى الدعوة المشبوهة، فى ظل ما سوف تسفر عنه الدعوة المشبوهة من تفريغ الأرض من سكانها، وهو ما سبق توضيحه فى تقارير سابقة، وبالتالى تجريد الدولة الفلسطينية المنشودة من مواطنيها، والذين يمثلون ركنا رئيسيا فى قيام "الدول"، والتى تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية، وهى الأرض والسلطة والشعب، وهو ما يعنى فى حال تطبيق الرؤية الإسرائيلية النهاية الفعلية لحل الدولتين، والذى يمثل مرتكزا رئيسيا للشرعية الدولية التى ارتضاها العالم قبل عقود طويلة من الزمن.
تصفية القضية الفلسطينية عبر الدعوة إلى التهجير مر بعدة مراحل منذ بداية الصراع، امتدت من اختلاف وجهة سكان القطاع، من دول الجوار، مع اللحظة الأولى للعدوان، ثم طرح أوروبا والولايات المتحدة، فى مرحلة لاحقة، بينما جاء الحديث عن "إعادة التوطين الطوعي" بمثابة مرحلة ثالثة، فالهدف من المرحلة الأولى يتجسد فى زعزعة استقرار دول الجوار، باعتبارهم حلفاء القضية الرئيسيين، وتصدير الفوضى لهم، بينما كان الحديث عن نقل أهالى غزة إلى الغرب، بمثابة محاولة للضغط على حلفاء الدولة العبرية، بعدما تراجعوا عن دعمهم المطلق وغير المحدود لها، فى ظل الجهود الدبلوماسية المصرية، وهو ما بدا فى بزوغ دعوات وقف إطلاق النار، من قبل عدد من دول المعسكر الغربى، بل والوصول إلى حد إدانة الانتهاكات الإسرائيلية، ناهيك عن إحياء الحديث عن مستقبل القضية، وهى الأمور التى يرجع الفضل فيها للدور المصرى الكبير لاستعادة أولوية القضية على الأجندة الدولية.
بينما يبقى الحديث عن "إعادة التوطين الطوعي" لسكان غزة، بمثابة محاولة لإضفاء قدر من الإنسانية "المزيفة" إلى الاقتراح الإسرائيلى، عبر الحديث عن مستقبل القطاع فى مرحلة ما بعد العدوان، فى ظل الحديث عن استخدام الأموال التى سيقدمها المجتمع الدولى لإعادة إعمار القطاع، فى تشجيع الفلسطينيين على بناء حياة جديدة خارج القطاع، فى محاولة لإقناع العالم بالتحول لدعم دعوتها المشبوهة.
ولكن يبقى التساؤل حول ما إذا كانت الدولة العبرية تحمل أهدافا أخرى، بعيدا عن تصفية القضية، تدفعها إلى الإصرار على الترويج للدعوة المشبوهة، والتركيز عليها، لتطبيقها فورا، وهو ما يبدو فى تكرارها لأكثر من مرة من قبل مسؤولين نافذين فى الحكومة الإسرائيلية، سواء وزير المالية فى حكومة الاحتلال، أو نواب بالكنيست موالين لنتنياهو، وأخيرا وزيرة الاستخبارات بحزب الليكود الذى يتزعمه رئيس الوزراء.
فى الواقع، يبدو أن الإصرار على تفريغ غزة من سكانها هو طوق النجاة للحكومة الحالية، من وجهة نظرها، فى ظل تراجع شعبية رئيس وزراءها إلى أقصى درجة، بسبب الفشل الذريع فى إدارة الأزمة الحالية، بينما لم تشفع له مشاهد الدماء والدمار التى ألحقتها قواته بالقطاع لدى مواطنيه، بسبب عدم قدرته على تحقيق ما تعهد به، وفى القلب منه استعادة المحتجزين الإسرائيليين، والقضاء على الفصائل، ناهيك عن ملاحقة المعارضة الإسرائيلية لنتنياهو والتى تضع ضغوطا كبيرة على كاهله فى اللحظة الراهنة.
الحديث عن التهجير يعنى استمرار المعركة التى يديرها نتنياهو فى غزة، وإن لم يكن على المستوى الميدانى حال وقف إطلاق النار، فسوف تبقى فى الإطار الدبلوماسى، وهو ما قد يساهم فى إطالة عمر حكومته، والتى يبقى استمرارها مرهونا بتوقف الحرب فى القطاع، بحسب رؤية قطاع كبير من المتابعين، وبالتالى فإن تفريغ غزة، يمثل هدفا ذو مدى أطول، من شأنه إطالة أمد المعركة، وربما إثارة اعتداءات جديدة فى اللحظة المقبلة، خاصة وأنه يمثل رهانا مهما على تقويض قضية فلسطين على النحو سالف الذكر، مما يضفى له قدر من التعاطف فى الداخل الإسرائيلي.
وهنا يمكن القول بأن التهجير وإن كان رهانا إسرائيليا لتصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل الدولتين، فإنه فى الوقت نفسه يمثل رهانا شخصيا لنتنياهو وحلفاءه، للبقاء، وهو ما يعكس الضغط الكبير والإصرار على الترويج للفكرة، رغم إمكانية تأجيل الحديث عنها، لصالح قضايا أخرى من المفترض أن تحظى بأولوية أكبر، وعلى رأسها ملف الأسرى المحتجزين لدى الفصائل، باعتبارها ترتبط بصورة مباشرة بالداخل الإسرائيلى الغاضب.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع