"لا مكان للإسلام السياسى فى فرنسا".. هكذا قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى إطار الحملة التى بدأها للقضاء على نفوذ دعاة التطرف، فى باريس، والذين باتوا يمثلون تهديدا صريحا للأمن فى المرحلة الراهنة، وهو الأمر الذى يتزامن مع حالة من الهلع فى العديد من العواصم الأوروبية جراء التهديدات الأمنية، الناجمة عن احتمالات تنفيذ هجمات فى قلب الغرب الأوروبى فى المستقبل، سواء على خلفية أزمة تدفق اللاجئين القادمين من مناطق الصراع، خاصة فى الشرق الأوسط، من جانب، أو ما يثور حول عودة المواطنين الأوروبيين، ممن سبق لهم الانضمام لتنظيم داعش الإرهابى، سواء في سوريا أو العراق، هو ما ترفضه العديد من الحكومات في القارة العجوز، من جانب آخر.
إلا أن التهديد الأمنى الذى تواجهه أوروبا لا يقتصر على "القادمين من الخارج"، سواء فى صورة لاجئين أو مواطنين متطرفين، وإنما يمتد إلى الداخل، فى ظل دعايا متطرفة يتبناها قطاع من الأئمة المحسوبين على تيارات سياسية بعينها، وعلى رأسها تنظيم الإخوان الإرهابى، وهو الأمر الذى أدركه ماكرون، ما دفعه إلى إطلاق دعوته، بالحرب ضد تلك التيارات، سواء داخل فرنسا، عبر تشديد الرقابة على الخطاب الدينى، ودعوته الصريحة إلى "التجديد"، أو في الخارج، عبر ما يمكننا تسميته بـ"حظر استيراد" الأئمة العابرين للحدود، خاصة القادمين من تركيا، في إطار الدعم التركى، ومن ورائه القطرى، للدعوات المتطرفة، لخلق أذرع مسلحة داخل أوروبا يمكنها إثارة الفوضى، من أجل تحقيق الأهداف المشبوهة التي تتبناها تلك الدول.
جرس إنذار.. مبادرة ماكرون تتلامس مع مخاوف الأوروبيين
ولعل المبادرة الفرنسية تمثل انعكاسا صريحا لإدراك القيادة الفرنسية للخطر الداهم الذى يمثله الخطاب المتطرف الذى يتبناه قطاع كبير من الدعاة، والذى أسفر عن حالة من الانعزال لجزء كبير من المجتمع المسلم في فرنسا، بينما تعد بمثابة جرس إنذار من باريس لباقى العواصم الأوروبية، للسير على نفس النهج في المرحلة الراهنة، مع تصاعد القلق من تنامى الدور الذى يلعبه دعاة التطرف، والذين تركت لهم المنابر لسنوات طويلة، لبث سمومهم بين المسلمين، سواء من المواطنين، أو المقيمين، في إطار مبادئ تشدق بها الساسة الليبراليين، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير، ما ساهم في تفاقم التهديدات التي تواجهها دول الغرب الأوروبى في المرحلة الراهنة، تزامنا مع السعي المتواصل لدى قادة الدول الداعمة للإرهاب نحو فرض رؤيتهم، عبر نشر الميليشيات الداعمة لهم، لتمتد من مناطق الصراع التقليدية، إلى مناطق جديدة، خاصة بعد الانتصارات المتتالية التي تحققت في إطار الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، فى أعقاب سنوات ما يسمى بـ"الربيع العربى".
ماكرون وسط عدد من المسلمين فى فرنسا
فلو نظرنا إلى المبادرة الفرنسية، نجد أنها تتزامن مع خلافات عميقة بين تركيا وحلفائها التاريخيين في الغرب، خاصة في أوروبا، سواء حول الدور المشبوه الذى يسعى الديكتاتور رجب طيب أردوغان للقيام به في ليبيا، لدعم الميليشيات هناك، وهو ما يمثل تهديدا صارخا لدول القارة العجوز، في ظل مخاوفهم الكبيرة جراء تكرار "مسلسل" اللاجئين، والذى عانوا منه الأمرين، في السنوات الماضية، إبان الصراع الأهلى الذى شهدته سوريا لسنوات طويلة بعد 2011، بالإضافة إلى تلويحه المتكرر بفتح الحدود مع أوروبا لتصدير اللاجئين إلى هناك، وهو ما يهدد بتسلل عناصر متطرفة يمكنها تنفيذ عمليات إجرامية في قلب القارة العجوز في المرحلة المقبلة.
قيادة أوروبا.. ماكرون يضع نفسه في مقدمة صفوف المعركة
إلا أن رؤية ماكرون ربما لا تبتعد كثيرا عن طموحاته المرتبطة بمستقبله السياسى في الداخل الفرنسي، أو رغبته في الإمساك بزمام القيادة على المستوى القارى، عبر قيادة الاتحاد الأوروبى، خلفا للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والتي تعانى جراء حالة من التخبط السياسى، في المرحلة الراهنة، تجلت بوضوح في اتجاه حزبها، ذو الطبيعة الليبرالية، مؤخرا، نحو التحالف مع حزب "البديل من أجل ألمانيا"، والذى يمثل تيار اليمين المتطرف، في صفعة أبرزت حالة من الخلل الكبير داخل الائتلاف الحاكم في برلين، وبالتالي فأصبحت الساحة خاوية أمام ماكرون لتحقيق الحلم الذى طالما يتوق إليه منذ صعوده إلى "عرش" الإليزيه، إلا أن الاحتجاجات التي هيمنت على المشهد الفرنسي، بسبب الإجراءات الاقتصادية، في الداخل كانت بمثابة العائق الأكبر أمام تحقيق هذا الهدف.
خطاب لوبان تجاه المتطرفين حقق زخما سياسيا كبيرا فى فرنسا
الخطوة الفرنسية، تمثل انطلاق معركة أوروبا ضد الإرهاب، لينجح ماكرون في وضع نفسه في موقع القيادة القارية لدحض "الكابوس" الذى يؤرق الملايين من مواطني القارة، وهو الأمر الذى دفعهم نحو "مبايعة" اليمين المتطرف، وذلك بعدما فشل التيار الليبرالى في مواجهة التهديدات الأمنية التي لاحقت القارة في السنوات الماضية، كما أنه في الوقت نفسه يمثل طوق النجاه للتيارات السياسية الأخرى، والتي ترغب في زيادة شعبيتها، عبر السير على خطى باريس، لاسترضاء الشارع الغاضب، وبالتالي مزاحمة الشعبية الكبيرة التي باتت تحظى بها التيارات اليمينية، والتي تجلت مؤخرا سواء في النتائج التي أسفرت عنها الصناديق الانتخابية، أو الاحتجاجات العديدة التي تمثل انعكاسا صريحا لتدهور شعبية القادة التقليديين، والحاجة إلى قيادات أخرى جديدة يمكنها إدارة المعركة في مواجهة مخاوف المواطنين.
الرهان على المستقبل.. ماكرون ينافس خطاب "اليمين"
وعلى الرغم من أن حديث ماكرون حول الخطر الداهم الذى يمثله دعاة التطرف، في فرنسا، ليس بالأمر الجديد تماما، حيث سبق له وأن تناول القضية نفسها منذ عدة أشهر، إلا أن توقيت إحياء القضية يحمل في طياته العديد من الأبعاد السياسية، وعلى رأسها اقتراب الانتخابات البلدية في العاصمة باريس، والتي تمثل اختبارا حقيقيا لشعبيته مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقررة في 2022، بالإضافة إلى الزخم الكبير الذى يحققه حزب الجبهة الوطنية، بزعامة غريمته السياسية مارين لوبان، عبر التوارى خلف حركة "السترات الصفراء"، والتي تقود التظاهرات، وتحظى بشعبية كبيرة بين المواطنين في فرنسا، مما ساهم في زيادة أسهمها إلى حد كبير على حساب الرئيس وحزبه.
أئمة تركيا هيمنوا على منابر المساجد فى العديد من الدول الأوروبية
صعود اليمين المتطرف، سواء في فرنسا أو في القارة بأسرها، ارتبط بشكل مباشر بتنامى نبرة المتطرفين داخل المجتمعات الغربية، حيث كانت الدعاية المتطرفة التي حملتها تلك التيارات، بمثابة الطريق أمام صعود الأحزاب اليمينية للسيطرة على الساحة السياسية في العديد من دول القارة، وبالتالي تبقى الحاجة إلى موقف أكثر حزما من التيارات الليبرالية تجاه التهديد الذى تمثله تلك الدعاية، لاسترضاء المواطنين، ومزاحمة الخطاب "اليمينى".
موقف ماكرون في انتخابات باريس يبدو صعبا، خاصة بعد الفضيحة التي لاحقت مرشحه السابق بنيامين جريفو، على خلفية تسريبات إباحية، دفعته إلى الانسحاب، مما دفع حزب "الجمهورية إلى الأمام"، الذى يقوده ماكرون للدفع بوزير الصحة لتكون مرشحته للمنصب، ولكن تبقى للفضيحة أصداء، تضاف إلى الغضب المتنامى، في الشارع الفرنسي نتيجة أوضاع سياسية واقتصادية مازالت تلقى قبول المواطن، وبالتالي فإن توقيت المعركة التي أطلقها ماكرون، ليس بعيدا عن رغبته في اكتساب قدر من الزخم السياسى قبل الانتخابات التي تصل أهميتها إلى حد تقرير المستقبل السياسى لسيد "الإليزيه" الحالي.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع