عندما جلس مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذى لموقع "فيس بوك"، أمام جلسة استماع فى الكونجرس الأمريكى لمُساءلته بشأن اتهامات تسهيل التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ادّعى أنه منصة تواصل تقنية، مسؤولة عن تأمين المستخدمين وليس عن المحتوى الذىيُبثونه. فى الوقت نفسه كانت محكمة أمريكية تنظر قضية تسريب بيانات أكثر من 80 مليون مستخدم لشركة كامبريدج أنالتيكا، وكان فريق ضخم من محامىّ الموقع يدفعون أمام القضاء بأن "فيس بوك" جهة نشر تُسأل عن المحتوى فقط، على طريقة المنصات الإخبارية، وليست موقعا تقنيا مسؤولا عن تأمين البيانات.
بين المشهدين المتناقضين تماما، يبدو أن إدارة "فيس بوك" وصلت إلى حيلة للتلاعب بالقضاء والكونجرس والرأى العام فى الولايات المتحدة. وبالآلية نفسها تُحرّف معاييرها وتُعيد تخطيط مواقفها بين وقت وآخر، بما يضمن لها أكبر قدر من السلامة والربحية طوال الوقت. وفى المقابل لا تتوقف المنصة عن المتاجرة بشعارات الموثوقية ومحاربة الأخبار الكاذبة والتصدّى للشائعات، عبر مبادرات وحملات وبروتوكولات تعاون مع مؤسسات تعليمية وبحثية، لا تُفضى كلها للأسف إلى أىشىء، وتظل الأمور على حالها: سمسار يعمل بالوكالة عمّن يدفع، ومعايير لا يُمكن أن تمتد الخطوط فيها على استقامتها!
منصة لامعة ودور مشبوه
فى غضون خمس عشرة سنة على تأسيسه أصبح "فيس بوك" منصة ضخمة، بأكثر من مليار مستخدم على امتداد العالم، الأمر الذى وضعه فى دائرة الضوء والمرتبة الأولى لدى ملايين البشر، لكن فى مقابل ذلك الإقبال والتفضيل لا يبدو أن الموقع يضع مصالح المستخدمين فى اعتباره بالطريقة المُثلى، أو حتى الحد الأدنى من الاجتهاد لسدّ الثغرات.
قبل شهور أعلنت إدارة "تويتر" حذف عشرات الملايين من الحسابات الزائفة، وتوالت الخطوات الشبيهة من وقت لآخر، وأحدثها قبل أيام عبر إزالة أكثر من 4 آلاف حساب. فى المقابل تتنامى ظاهرة الشخصيات المجهولة والحسابات المنتحلة والمُزيفة على "فيس بوك"، وتتراكم تلال من الشائعات والأخبار المُصطنعة أو غير الدقيقة، والصور والمواد البصرية المُحرّفة أو المُعاد صياغتها، وقرصنة المحتوى واختراق الملكية الفكرية، ولا تواجه إدارة المنصة حالة الفوضى العارمة تلك بالقدر الواجب من الجدية، بل إنها تفتح بابا خلفيا لشرعنة تلك الانتهاكات تحت لافتة "المحتوى الإعلانى"، بينما تأخذ موقفا عدائيا من صور المحتوى الأخرى ما لم تكن مموّلة أو مدفوعة المقابل.
بات "فيس بوك" منصة تجارية بالدرجة الأولى. ويُؤكد متابعون ومختصون فى التقنية أن مواقف الإدارة التنفيذية ومراقبى المحتوى فى الموقع تتأسس بالدرجة الأولى على أمور ذات طابع تجارى، يتقدمها متوسط إنفاق الصفحات والحسابات على تمويل المحتوى. وشدّد أكثر من خبير تحدثنا معهم على أن المصداقية فى "فيس بوك" لم تعد مرهونة بوضوح الشخصية أو جدارة المحتوى، وإنما بما يدفعه هذا الشخص أو تلك الصفحة، حتى لو كان واضحا لإدارة المنصة أنها تتلقى أموالا مشبوهة، أو تصافح أيادى سوداء!
عينة من تجاوزات "فيس بوك"
تحدثنا مع باقة واسعة من صُناع المحتوى ومُديرى الصفحات الكُبرى على "فيس بوك". دارت أغلب التعليقات حول المعاناة بسبب معايير الموقع المُتشددة فى بعض الأمور، مقابل التساهل فى أمور أخرى، وللمفارقة فإن حالات التساهل ترتبط دائما بأنشطة مدفوعة، والأكثر صدمة أن كثيرا منها ينتهك معايير الموقع ومُدونته السلوكية.
الفنان الكوميدى حسن بلبل نشر قبل ساعات أغنية ساخرة بعنوان "خرفان" على لحن إحدى أغنيات الفنان محمد رمضان. سريعا بادرت إدارة الموقع بحذف المقطع المصور وحظر مديرى الصفحة من النشر لثلاثة أيام كاملة، بدعوى انتهاك معايير مجتمع "فيس بوك"!
بالرجوع إلى مدونة المعايير التى يُحددها الموقع، وجدنا أنها لا تخرج عن ثلاثة أمور: العنف، والجنس، والملكية الفكرية. عدنا إلى الفيديو لنرصد ما يشتمل عليه من قائمة المحاذير، لكن وجدنا أن المقطع لا يتضمن أية صور عنيفة أو دموية، ولا دعوات أو تحريض على العنف، كما أنه يخلو من الإيحاءات والمشاهد ذات الطابع الجنسى، وفى شقّ الملكية الفكرية فإن اللحن مملوك للفنان محمد رمضان، وبثه على قناته فى "يوتيوب" وصفحته بموقع "فيس بوك"، وبحسب مصادر مقربة منه فإن القناة والصفحة لم يتقدما ببلاغات ضد أغنية حسن بلبل، وبالتبعية تنتفى كل مُبررات الحذف فى ضوء معايير "فيس بوك"، وينحصر الأمر فى بلاغات الكتائب الإلكترونية المنظمة من بعض الجهات، واستخدام إدارة الموقع تلك البلاغات كسيف على رقاب صناع المحتوى.
آخرون ممن تواصلنا معهم من مُديرى الصفحات الكبرى، قالوا إنهم تعرضوا طوال الشهور الماضية لعمليات شبيهة من جانب إدارة "فيس بوك"، سواء بحذف صور وفيديوهات ومواد إخبارية لا تُخالف معايير المنصة المُعلنة، أو معاقبة الصفحات حال تداولها محتوى إخباريا مملوكا لوكالات عامة ومُصرحا بتداوله برخصة المشاع الإبداعى، بدعوى أنه "أخبار مزيفة"، فى الوقت الذى تترك فيه المحتوى نفسه على صفحات وحسابات أخرى، وعلى حسابات وصفحات المنصات نفسها التى يُوصف محتواها فى تقرير مراقبى الموقع بأنه "مُزيف".
انحياز وتسهيلات مدفوعة المقابل
إلى جانب مئات الشهادات التى حصلنا عليها من صناع محتوى كُثر، فإن تجربتنا الشخصية فى "اليوم السابع" لا تخلو من تجارب شبيهة، بدا واضحا فيها أن إدارة الموقع مدفوعة بحسابات أخرى خارج مُحدّدات الفرز ومدونة المعايير المُعلنة من جانبها، فضلا عمّا ينطوى عليه الأمر من ابتزاز بغرض اضطرار مسؤولى صفحات المؤسسة لتمويل منشورات المحتوى والمواد الإخبارية المملوكة لها.
فى مرات عديدة تعسفت إدارة "فيس بوك"، وحذفت مواد إخبارية عديدة لأسباب مُضحكة، منها الملكية الفكرية رغم أن المواد تعود إلى وكالات مُصرّح بتداول محتواها، أو ادعاءات "الأخبار الكاذبة" بدون تفنيد أو أدلة، وبترك المحتوى نفسه على عشرات الصفحات والحسابات الأخرى، وكانت أكثر الوقائع تعسفا واختراقا لكل المعايير، حذف تقرير مصوّر أنتجه موقع "دوت مصر" بالتعاون مع "فيديو 7" التابعين للمؤسسة، عن آراء أهالى مذيع قنوات الإخوان محمد ناصر فيما يفعله ضد مصر، ورغم أن التقرير لا يشتمل على عُنف أو تحريض أو سباب أو ملكية فكرية لموسيقى أو صور، قررت إدارة "فيس بوك" حذفه، إما بإرادة فردية منها انحيازا لفريق بعينه، أو استجابة لبلاغات من جهات ما، والانتصار لتلك الجهات بدون فرز أو تحقق.
رغم جرأة تلك الممارسات وتبجحها، كان يُمكن تفهم الأمر حال اتخاذ تلك المواقف والإجراءات بحق كل صور الانفلات المتداولة بين صناع المحتوى العربية، باعتبار طبيعة المنطقة أو حساسية الأوضاع مثلا. لكن الحقيقة أن إدارة "فيس بوك" فى مقابل تلك الغطرسة مع مؤسسات بعينها، تغض الطرف عن مساحة واسعة من الانفلات والتجاوزات فى منصات أخرى.
مصدر بإحدى شركات الإنتاج الفنى، قال إنه قرر فى وقت سابق اتخاذ موقف تجاه اختراق قنوات تابعة لجماعة الإخوان الإرهابية لحقوق الملكية الفكرية المملوكة له، وبالتنسيق مع شركات وجهات أخرى قدموا مئات البلاغات فى مواد بثّتها تلك القنوات على "فيس بوك"، لا تشتمل على قرصنة للمحتوى فقط، وإنما تتضمن أخبارا زائفة وصورا دموية وتحريضا ودعوات للعنف وسبابا وتجاوزات أخلاقية، لكن إدارة الموقع لم تحذف مادة واحدة من عشرات المواد التى اشتكوا منها.
بقدر من الفحص العابر لحسابات وصفحات "الجزيرة - الجزيرة مباشر - الأناضول - TRT عربى - العربى الجديد - عربى 21 - عربى بوست - ميدل إيستآى - الشرق - مكملين - وطن - معتز مطر - محمد ناصر - وائل غنيم - حمزة زوبع - هشام عبد الله - أسرار محمد على - باطل - جماعة الإخوان – المتحدث الإعلامى للإخوان – رصد" رصدنا مئات الأخبار غير الموثقة، أو غير المنسوبة لمصادر، أو الملوّنة، أو التحريضية، أو المشتملة على مواد وصور قديمة، فضلا عن عشرات من حالات قرصنة المحتوى بين مشاهد من أعمال فنية وأغنيات ومواقع موسيقية وبرامج وتقارير تليفزيونية مملوكة لقنوات ومواقع أخرى، ولم تُتخذ أية مواقف تجاه تلك الانتهاكات الواضحة لمعايير "فيس بوك" المسلطة سيفا دائما على رقاب الآخرين.
إحدى تلك الصفحات اسمها باطل، تشير معلوماتها إلى أنها تُدار عبر 8 أفراد (6 من تركيا وشخص من جنوب أفريقيا وشخص من قطر) بثّت عشرات المنشورات التىتنطوى على تحريض ودعوات عنف وأخبار مُزيفة وفيديوهات مُحرفة ومواد مملوكة لمنصات أخرى، لكن كل منشورات الصفحة مموّلة كإعلانات مدفوعة، ومن ثمّ لم تستجب إدارة "فيس بوك" لأى من البلاغات المقدمة ضد الصفحة، سواء لانتهاكها معايير سلامة المجتمع، أو قرصنتها لحقوق صناع محتوى آخرين.
موقف جاد من التجاوزات
فى الوقت الذى تبدو فيها حالة المحتوى المُتداول بلغات أخرى منضبطة بدرجة جيدة نسبيا، فإن المحتوى العربى يُعانى فوضى ضخمة وتجاوزات لا حصر لها، تقابلها مواقف مُتناقضة وإجراءات مُنحازة من جانب إدارة "فيس بوك" ومسؤولى مراقبة المحتوى فى المنصة.
يُمكن إرجاع محاولات الانضباط التى تعمل عليها إدارة الموقع فى بيئات المحتوى الأخرى، إلى الإجراءات القانونية والرقابية التىيواجهها "فيس بوك" فى عديد من أنحاء العالم، ففضلا عن جلسات الاستماع والقضايا فى الكونجرس والمحاكم الأمريكية، تكبّد الموقع فاتورة ضخمة فى نزاعات قانونية وغرامات مالية لدى الاتحاد الأوروبى وبعض الدول الغربية، إلى جانب خسارته مئات الملايين من المستخدمين فى الصين، على خلفية موقف حكومة بكين الجذرى ضد المنصة وممارساتها، لكن على الجانب الآخر تبدو الصورة مشوّهة فى بيئة المحتوى العربى، وكأن إدارة "فيس بوك" تتساهل مع الأمر بثقتها فى أنها لن تواجه إجراء جادا من الحكومات العربية، ولن تتكبد ما تكبّدته من عقوبات وخسائر فى الأسواق الغربية.
حتى الآن يتحرك "فيس بوك" فى المجال العربى بأريحية شديدة، خارج أية رقابة أو مُساءلة أو محاولة للردع. وإلى جانب ما يُشيعه هذا الانفلات من فوضى فى المحتوى العربى، وما يوفّره من مساحات حركة آمنة ومُتّسعة لمنصات أو جهات مشبوهة أو موجهة، فإنه يُحقق عوائد مالية وأرباحا ضخمة مقابل الإعلانات وحصيلة تمويل تلك المواد، وهى المكاسب التى تصل كاملة إلى المنصّة العالمية، بدون أية رسوم أو أعباء ضريبية.
من غير المفهوم سرّ الصمت المُطبق فى الساحة العربية، وتقاعس مؤسسات التشريع فى المنطقة عن التصدى لانفلات "فيس بوك" وتنامى شراهته للمال. وعلى الأقل فيما يخصنا لا يبدو مفهوما عدم اتخاذ مواقف جادة من جانب الدولة المصرية تجاه حالة "فيس بوك" بتداخلاتها المُعقدة، سواء ما يخص حصار بعض فئات المحتوى بدون مُبرر، أو ترويج مواد أخرى مخالفة لقاء إعلانات ضخمة تُسددها دول إقليمية معروفة، أو قرصنة المحتوى وانتهاك الملكية الفكرية، أو الإفلات بحصيلة كل تلك التجاوزات دون سداد حقوق الدولة، أو وضع أُطر عادلة تصون حقوق المؤسسات الإعلامية والإعلانية التى تخوض منافسة غير عادلة مع الديناصور الأمريكى الشره!
يرى خبراء قانونيون أن إبقاء الأمور على تلك الصورة ينطوى على مخاطر عديدة، ليس أقلها تجاوز القانون وانتهاك خطوط السيادة وتهديد الأمن القومى، ولكن الأمر لا يخلو من تهديد لصناعة الإعلان المحلية، وتسرّب ضخم للموارد فى ظل صيغة تنافسية غير عادلة، تسهم فى ضخ تدفقات مالية ضخمة من جانب المعلنين للمنصة التى لا تتحمل أية أعباء عن تلك الأرباح.
ويُطالب الخبراء الذين تحدثنا إليهم، مؤسسات الدولة بضرورة فتح ملف "فيس بوك"، ودراسة الآليات والإجراءات العملية والتشريعية التى يُمكن أن تُلزم إدارة المنصة باحترام معايير إنتاج وتداول المحتوى، والتصدى للشائعات والأخبار الكاذبة بدلا عن الإسهام فى زيادة رواجها، والمُحاسبة الضريبية الجادة فى ضوء قواعد العمل الاقتصادية وضوابط المنافسة العادلة مع مُقدمى الخدمة نفسها من الشركات المحلية.
وشدد الخبراء على ضرورة انطلاق هذا المسار من اتخاذ إجراءات قانونية بحق إدارة "فيس بوك"، والممارسات الثابتة من جانبها بشأن دعم خطابات الإرهاب والعنف، فضلا عن تحرك المؤسسات والشركات المُضارة والرجوع قضائيا على الموقع، وسنّ تشريعات كفيلة بإلزام إدارة الموقع باحترام معايير أمان المستخدمين وسلامة المحتوى، باعتباره منصة تقنية وجهة نشر فى الوقت نفسه، والإسراع بفرض رسوم ضريبية على إعلانات مواقع التواصل الاجتماعى، وضرورة أن تكون التحركات التنفيذية والتشريعية بالجدية نفسها التى تحرك بها الكونجرس والقضاء الأمريكيين، ومؤسسات الاتحاد الأوروبى وعدد من دول القارة، بما يضع حدا لتلك التجاوزات، ويُغلق الثغرات التى تسمح للمنصة اللامعة بمواصلة ممارساتها السوداء.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع