أخبار عاجلة

د. صلاح هاشم يكتب: الفقير .. المواطن البهلوان ..!

د. صلاح هاشم يكتب: الفقير .. المواطن البهلوان ..!
د. صلاح هاشم يكتب: الفقير .. المواطن البهلوان  ..!

 

تداول فى أدبيات التنمية العالمية كثيرة من المصطلحات المتعلقة بهموم وأوجاع البسطاء ومحدودي الدخل .. ومن أهم تلك المصطلحات مصطلح الحماية الاجتماعية الذى اعتبره بعض الأكاديميين العرب بأنه مفهوما مرادفا لمفهوم الرعاية الاجتماعية..  وحتى يلحقوا بالحديث من الكتابات العالمية - ويركبوا الموجة - اكتفوا فقط بتغيير أغلفة كتبهم القديمة ..!

ومن ثم فقد حوَلَوه من مصطلح علمي دقيق يمكن توصيفه والاستفادة به فى تطوير السياسات الاجتماعية ببلدانهم،والتى تستهدف بالأساس الحد من الفقر، إلى " سببوة " قدموا من خلالها عشرات الكتب ومئات البحوث والدراسات ..!

 وكل ما حدث هو استبدال مصلح الرعاية الاجتماعية بمصطلح الحماية الاجتماعية ..مما جعل هذه الكتابات والدراسات منفصلة تماما عن الواقع، وغير متصلة فعليا بواقع التطور الذى حدث فى أدبيات السياسة الاجتماعية المستحدثة فى العالم. وإن اشتركوا فقط معها فى " العنوان " ..!

وأصبح كلُ مَن كتبَ سطرا أو أجرى دراسة بسيطة  تناول فيها مصطلح الحماية الاجتماعية  خبيرا أو مستشارا للحماية الاجتماعية.. مما جعل هذا الكتابات مجرد جهودا مهدرة، تم حبس نتائجها فى أدراج الأكاديميين، كما تم اعتقالها على أرفف مكتبات المؤسسات البحثية ..!

أما وزارة التضامن المصرية فقد كان لها رؤية مغايرة لمفهوم الحماية الاجتماعية ... خاصة وأنها منذ عام 1939 تقريبا - وهو العام الذى شهد إنشاء وزارة الشئون  الاجتماعية المصرية-وهى تستخدم مصطلح الرعاية الاجتماعية، بالإضافة إلى استخدامها لمصطلح الضمان الاجتماعي ..

وحين بدأ مصطلح الحماية الاجتماعية  يلوح فى أفق المؤسسات الدولية الممولة وخاصة بعد 2011م بدأت وزارة التضامن فى استخدام المصطلح .. بل وبدأت الدولة المصرية تستخدم مصطلح شبكات الحماية الاجتماعية .. وكل ما فعلته الوزارة أنها اختزلت مفهوم الحماية الاجتماعية فى " جملة البرامج التى تقدم مساعدات مادية مؤقتة للأسر محدودة الدخل" .. بينما ربطت مفهوم الرعاية الاجتماعية بالمؤسسات .. وجعلت مفهوم الضمان الاجتماعي قاصراً على المعاش الشهري المبنى على العملاء المشتركين فيه ..

وبرغم هذه الاختلافات الحادثة بين الاكاديميين والباحثين من ناحية، وبين وزارة التضامن الاجتماعي ومؤسساتها من ناحية أخرى .. إلا أن المؤسسات الدولية قد تبنت مفهوما مغيارا تماما سواء عما تبنيناه أو اختلفنا عليه فى مصر .. فالأمم المتحدة مثلاً عرفت الحماية الاجتماعية على أنها مصطلحاً مرادفا تماما لمصطلح الضمان الاجتماعي .. وترى أنه إذا كان الضمان الاجتماعي ذاته يعد حقا من حقوق الإنسان - حسب ما ورد فى الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان وحسب ترادف المصطلحين فى عقيدة الأمم المتحدة - فقد اعتبرت الحماية الاجتماعية حق من حقوق الإنسان..!وأضافت مصطلحا إلى أدبيات العمل الاجتماعي مصطلحاً جديدا هو " أرضيات الحماية الاجتماعية " وقصدت به جملة التشريعات التى تستهدف الحد من الفقر وتأمين عدم الوقوع فيه ..  وهو مصطلح لم يتم تداوله حتى الأن فى ادبيتنا البحثية فى مصر أو حتى عربياً ..ولم يلق المفهوم  اهتماما ملحوظا من صانعي السياسات فى حكومات دول العالم الثالث ..!

أما منظمة العمل الدولية والتى تعد من أولى المؤسسات الدولية التى استخدمت مفهوم الحماية الاجتماعية/ فقد اقتصرت على استخدام مصطلح الحماية الاجتماعية فى تأمين وضعية العمال الاجتماعية.. ولا سيما العاملين فى الوظائف والأعمال والمهن الهشة ..!

ربما كانت هذه المقدمة لازمة للدخول فيما أود طرحه فى هذا المقال وهو أن الحماية الاجتماعية هى مفهوم أعم وأشمل من كل هذه المصطلحات .. وأكبر من هذه التجاوزات والاختلافات .. فهو مصطلح طبقى له معنى واسع ومعنى ضيق والاتساع والتضييق مرتبط بالموارد المتاحة لتحقيق أهداف الحماية الاجتماعية ..

 وإذا كان المعنى الواسع للحماية الاجتماعية يكمن فى الحد من الفقر ومنع دخول مزيد من المواطنين إلى عالم الفقر الدمقع .. لتصبح الحماية الاجتماعية مفهوما مقابلا وليس مرادفا لمفهوم الحماية الاجتماعية .. فإذا كانت الرعاية الاجتماعية تستهدف تقليص أعداد الفقراء وإن كنت أتصور أنها فعليا تستهدف الحفاظ عليهم فى وضعية الفقر دون تحسن ملموس فى معيشتهم ودون تراجع .. فإن الحماية الاجتماعية تستهدف تثبيت نسبة الفقر عند 20% من السكان والعمل على زيادة نسبة الأغنياء، ثم زيادة نسبة الطبقة الوسطى فى الهرم الاجتماعى.. وأن زيادة أعداد الأغنياء وأبناء الطبقة الوسطى سوف يؤدى حتماً الى تراجع أعداد الفقراء .. إذا أثبت التجارب الدولية أن الدول التى عملت على الحد من الفقر من خلال تكريس الاهتمام وتقديم المساعدات على الفقراء فقط أو من هم دون خط الفقر، ضاربة بالموجودين فى الطبقة الوسطى عرض الحائط قد فشلت .. ولعل التجربة المصرية تعد نموذجا واقعيا لهذه السياسات ..!

وعادة ما تتبع الحكومات فى الدول المتقدمة السياسات الحمائية التى تتضمن المعنى الواسع للحماية الاجتماعية وهو المعنى الذى يقدم الدعم الكامل لكل طبقات المجتمع حتى لا تتسع رقعة الفقر وتصيب السواد الأعظم من سكانها .. ومن ثم تبنى سياساتها فى ضوء هذا المفهوم وعليه تؤسس برامج مواجهة الفقر .. والمواجهة وفق هذا المفهوم لا تعنى الحد من الفقر بقدر ما تعنى زيادة معدل الغنى .. وان معظم مساعداتها مشروطة بالتعليم والرعاية الصحية والمشاركة فى الانتاج .. لتستهدف فى النهاية الوصول بمحدودي الدخل الى المرحلة التى يصبحوا فيها قادرين على الاعتماد على النفس .. ويصبح تراجع معدل مخصصات الدعم النقدي عاما بعد الأخر مؤشرا مهما على نجاح سياسات الحماية الاجتماعية وتعافى الفقراء من أزمة الفقر ..

أما الحكومات فى الدول الفقيرة فعادة ما تميل إلى تبنى المفهوم الضيق بل والضيق جدا لمفهوم الحماية الاجتماعية والذى يمكن اختزاله فى المفهوم التقليدي لمصطلح الرعاية الاجتماعية.. لتستهدف فى مجمل برامجها المواطن الضعيف مسلوب الحق .. ولا تتجاوز أنشطتها سوى مساعدات بسيطة جدا لا تشبع أكثر من  30 % من احتياجات الفقراء بالإضافة الى بعض الأنشطة المتعلقة بالحلقة الضعيفة فى النسيج البشرى كالمرأة والطفل والمعاق والُمِسن .. والتى عادة ما تكون أنشطة تثقيفية .. !

وعموا يبدو أن الاختلاف حول المفهوم بين الأكاديميين والميدانين وصناع القرار تسبب الى حد كبير فى عدم وضع سياسات للحماية الاجتماعية واضحة المعالم .. مما تسبب فى عدم تكامل برامج الحماية الاجتماعية التى تمارس داخل الوزارات المختلفة وربما داخل الوزارة الواحدة .. مما يعد اهدار حقيقيا لجهد الدول ومواردها .. ولعل هذا ما يدعونا إلى مطالبة الحكومات فى المجتمعات الفقيرة بتبنى مفهوما واضحا للحماية الاجتماعية يحاكى المفهوم العالمى المتفق عليه .. وعليه يتم وضع سياسات للحماية الاجتماعية تلتزم كل مؤسسات الدولة بتنفيذها .. من خلال برامج تكاملية تستهدف طبقات المجتمع المختلفة ..  كل حسب جادته وكل حسب طاقته ..!

ومن أهم التجارب التى نجحت فى توضيح معنى الحماية الاجتماعية واستخراج سياسات فعالة للحماية الاجتماعية ؛ تلك التجارب التى نظرت الى الفقير كـ" بهلوان " فى سرك .. فالفقير يتحايل على ظروفه القهرية بشتى أنواع الحِيَل ، وكأنه بهلوان يقفز من حَبل إلى أخر مخاطرا بحياته .. ففى جميع الظروف هو معرض لخطر السقوط إلى الأرض ..!

وتنطلق هذه التجربة من فلسفة – ربما أراها محاكيةٌ للواقع-  مفادها:  إذا كان البهلوان فى كل مرة يشارك فيها فى " العَرض"  يسقط  على الأرض ويموت .. فهذا معناه واحد من اثنين او الاثنين معاً .. فإما أن البهلوان لم يحصل على التدريب الكافى للعمل بالسرك .. وإما أن إدارة السرك ليس لديها سياسة جيدة لحماية البهلوان من الموت فى حالة سقوطه .. وربما دل موت البهلوان على اجتماع العاملين معاً ..!

 

أما إذا البهلوان نادراً ما يسقط .. فعلى إدارة السرك أن تمتلك سياسة للطوارئ .. ووفقا لهذه النظرية فإن إدارة السرك فى كل الحالات مسؤولة أولا أن حماية البلهلوان من السقوط وثانيا فى حالة سقوطه هى مسئولة عن حمايته من الموت .. وقياسا على الفقر .. فإن الحكومات مسئولة عن حماية مواطنيها من السقوط فى شراك الفقر وفى حالة سقوطهم هى مسئولة أيضا عن حمايتهم من الموت جوعا ً ..!

والكان على المنظمين أن يضعوا نظاما مستداما لحمايته عند السقوط أما إذا كانت مرات سقوطه عزيزة أو نادرة .. كان عليهم أن يضعوا نظاما للطوارئ يستهدف حماية البهلوان من الموت عند سقوطه ..

ومن ثم  فإذا كان النظام الاقتصادي الذى تتبعه الحكومات يعمل على زيادة أعداد الفقراء بشكل مستمر .. فعلى الدول أن تتبنى سياسات " دائمة "  للحماية الاجتماعية لمنع تعرض المواطنين للسقوط فى شراك الفقر .. أما إذا كان النظام الاقتصادي يعمل باستمرار على تقليص معدل النمو فى الفقر أو انحسار أعداد الفقراء .. وأن فعلى الدولة فى هذه الحالة ان تتبنى سياسات " للطوارئ" تتلقف ضحايا السياسات الاقتصادية الطموحة..  حتى لا يتحولون إلى فقراءجدد ..!

وختاما .. يجب أن نشير إلى أن معظم البرامج الموجهة للحد من الفقر فى مصر من بداية الخمسينيات وحتى الأن هى سياسات فى مجملها تتعامل مع الفقر وكأنه قضية " طارئة "  وليس مرض مزمن، أو أزمة قومية مستدامة، تتزايد بمعدل شبه ثابت عاماً بعد الأخر  .. ومن ثم فنحن بحاجة إلى سياسة واضحة للحماية الاجتماعية ؛ تتعامل مع مشكلة الفقر  بوضعيتها المستدامة وليس الطارئة ؛ حتى نتمكن من الخلاص أو الحد منه فى فترة زمنية محددة ..!

ولقد أثرت كتابة هذ المقال فى هذا التوقيت؛ لعله يكون هاديًا للحكومة المصرية الطموحة، أو دليلاً لوزارة التضامن الاجتماعي، فى هذا التوقيت الذى تتولى فيه حقيبتها سيدة نشطة هى الأستاذة " نيفين القباج " والتى تطمح أن تُحدثوزارتها أثراً ايجابياًفعالاً فى حياة الفقراء .. فى مرحلة حرجة من تاريخ مصر .. وظروف سياسية مُحفزة، تكمُن فى إيمان القيادة السياسية للدولة المصرية  بالفكر الحِمَائي .. وإرادتها الحقيقية فى الانتقال بالبسطاء إلى وضعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية أرحب ..!

 

 د. صلاح هاشم

Sopicce2@yahoo.com