أخبار عاجلة
رمضان في كتب المؤرخين.. كيف ذكره ابن الجوزى؟ -

حسنى حنا يكتب: عمر أبو ريشة.. شاعر الوطن والحرية

حسنى حنا يكتب: عمر أبو ريشة.. شاعر الوطن والحرية
حسنى حنا يكتب: عمر أبو ريشة.. شاعر الوطن والحرية

"إننا لانودع سفيراً ما.. إننا نودع في هذا الرجل القيم العظيمة للأنسان".

Jwaharlal Nehru*

 

الكلام اعلاه قاله زعيم الهند (نهرو) في وداع الشاعر عمر أبو ريشة حين ترك سفارة بلاده سوريا فى الهند.

وحين يرحل النسر تنحني قمم الجبال بخشوع لوداعه وحين ينكسر السنديان تسري رعشة في أوصال الأشجار والعصافير.

أجل.. نحن في صدد شاعر وديع المظهرـ لكنه بركاني الجوهر. هو الطفل المسن، الذي يعيدنا الى البدايات، والى البراءة المقدسة، في الزمن الضمني، جبل لانهاية له من الكبرياء وعزة النفس. لم يبدل وجهه أو حنجرته طوال حياته. في الزمن الذي يقتني فيه الكثيرون أطقماً من الأقنعة والمواقف.

والحديث عن الشاعر عمر أبو ريشة مسؤولية كبيرة، لاسيما وأنه من القلائل الذين يشعرون بالظلم الفادح، الذي يوشح عباراته عندما يحكي عن غربته الطويلة، وغيابه الطوعي أو القسري عن الساحة الأدبية في البلدان العربية، لأكثر من ربع قرن.

 

ولادته ونشأته

ولد الشاعر عمر أبو ريشة في مدينة منبج السورية عام (1911) ومنبج هي بلدة الشاعر أبو فراس الحمداني وقد تلقى دراسته الابتدائية في مدينة حلب، وأتم دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت حيث حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم. ثم تايع دراسته بعد ذلك في انكلترا منذ عام (1930)

وعمر أبو ريشة من كبار أدباء وشعراء العصر الحديث وهو الانسان الشاعر الأديب والدبلوماسي، الذي حمل في عقله وقلبه، الحب للوطن والأنسان وتاريخ سوريا. وقد عبر  بأعماله وشعره بأرقى وأبدع الصور، والكلمات والمعاني.

وقد شغل الشاعر عمر أبو ريشة وظائف متعددة منها:

مدير دار الكتب الوطنية بحلب، عضوية المجمع العلمي العربي بدمشق، وملحق ثقافي في جامعة الدول العربية كما كان سفير في البرازيل والأرجنتين وتشيلي والهند والولايات المتحدة الأمريكية.

                    

عمر أبو ريشة الشاعر

لايعترف الشاعر عمر أبو ريشة، بتقسيم الشعراء والمبدعين وتصنيفهم مثلما تقسم المدرسة التلاميذ على الشعب، فهو شاعر رومانسي الطبيعة وثوري النزعة،وكلاسيكي المظهر، إنه بحق مظهر خاص في الشعر العربي.

وعندما سئل عن رأيه في شعر المناسبات قال: الحياة كلها من مناسبات.. هناك شعر.. وعمر يقصد الحياة لحظات متغيرة، متواصلة. وكل لحظة هي مناسبة بحد ذاتها، وهو الصياد الذي يصطاد (المناسبة المناسبة) وذات مرة تركب بجانبه في الطائرة صبية اسبانية جميلة. دارت بينهما أحاديث وكانت هذه القصيدة:

"كل حرف ذل عن مرشفها..... نثر الطيب يميناً وشمالاً

قلت ياحسناء من أنت ومن..... أي دوح أفرع الغصن وطالا

فأجابت أنا من أندلس..... جنة الدنيا عبيراً وظلالاً"

والتأمل عند عمر أبو ريشة له فضاء فسيح جميل، حيث يسرج خياله في كل مناسبة، فيأتي بصيد ثمين. والشاعر أبو ريشة يسيطر عليه قلق دائم جراء الوضع العربي المتداعي، الذي يجعله دائماً جريح الكبرياء والشعور. يضاف الى ذلك اليتم والقهر، الذي رافق حياته والغربة التي رافقت ايضاً الكثير من أمثاله، كالروائي (حنا مينة) والشاعر (نزار قباني) وغيرهما الكثير الكثير. وكل هذا لم يثنه عن تخصيص مساحة كبيرة للتأمل في الطبيعة وفي الوجود والحكمة من وجود الإنسان ورغم الظلم والاستبداد. الذي يعم العديد من بلدان العالم. فقد أحب عمر هذا الكوكب لأنه اجمل الكواكب بنظره. وكان دائماً يدعو للسلام والمحبة، والمحافظة على الأرض.

قال من قصيدة أرسلها إلى حبيبته:

تصفين أغنيتي رفات أجنحة     مامسها في ليالي شوقه قمر

ما أحزن الورد لم يعرف له عبق     وأضيع الغصن لم يقطف له ثمر

وعمر يمارس لعبة بريئة على القارئ، فهو يملك البراعة في الاستهلال والإدهاش عند الختام، ولنسمعه يقول:

معاذ خلال الكبر، ماكنت حاقداً     ولاغاضباً إن عاب مسراي عائب

فكم جبل يغفو على النجم خده     وأيامه للسائمات ملاعب

نظرت الى الدنيا، فلم ألف عندها     صغيراً أداري. أو كبيراً أعاتب

الشاعر والصورة الشعرية

الصورة الشعرية عند الشاعر عمر أبو ريشة، مجنحة شفافة محلقة، تحمل القارئ على جناحيها، الى عوالم من الدفء والضوء والندى. وفي قصيدة بعنوان (عام جديد) يقول الشاعر:

"وحدي هنا في حجرتي     والليل والعام الوليد

وحدي..وأشباح السنين     العشر ماثلة الوعيد

كم حطمت مني ومن زهوي     ومن مجدي التليد

من صيحة الوطن الطعين     ورقدة الوطن الشهيد

وتململ الأحرار في أغلال حكام عبيد

وحدي هنا في حجرتي     والجرح، والفجر الجديد

ورسائل شتى تقول     جميعها: عام سعيد".

وكان من الطبيعي أن يحب عمر شعراء المرحلة الرومانسية في انكلترا، التي عاش فيها زمناً مثل: (وردز وورث كيتس، شللي وبايرون) الذين يعتبرون بحق أروع مجموعة مرت على الشعر الإنكليزي، ويقول (وردز ورث): "في القديم كان الانسان ينظر حيث يشاء.. يلاحظ وكأن الأرض مغطتة بطبقة من النور السماوي الشفاف. أما الآن فإن الإنسان ينظر حيث يشاء، لايجد شيئاً من هذا، وكأن مجداً ما، قد ولى من الأرض."

 

شاعر الموقف السياسي

كان عمر صرخة في الزمن العربي الأخرس، وكان جحيماً على المستبدين. كما كان نعيماً على القلوب الساعية وراء الدفء والندى في الزمن الذي يوضح فيه الانسان العربي تحت الرقابة، وهو في رحم أمه.. الحلم يمر على الرقابة والرقابة تمر على الرقابة.. كان عمر بذاته مظاهرة صاخبة، تحمل لافته مكتوباً عليها: (أطلقوا سراح الوطن والشعب) ومات عمر وظلت اللافته مرفوعة في شعره الخالد.

وقصيدة (أمتي) تشكل سابقة في الشعر العربي والعالمي.. المتنبي لم يهج كافوراً، إلا بعد أن غادر مصر. أما عمر فقد كان شاعر الموقف.. كان إنساناً فوق كل اعتبار، وهو القائل: "إذا لم تستطع أن تكون إلهاً، فكن نبياً، فإن لم تستطع فكن انساناً". وكان أيضاً مخلصاً لحزنه، وللجراح التي وشحت روحه وأرضه وشعبه.

"أمتي هل لك بين الأمم     منبر للسيف او للعلم

أتلقاك وطرفي مطرق     خجلاً من أمسك المنصرم

أمتي.. كم صنم مجدته     لم يكن يحمل طهر الصنم".

وكان عمر يحب اصدقاءه وهو القائل: "الأصدقاء أوطان صغيرة" وهو يقف في رثاء صديقه الشاعر (بشارة الخوري) يلقي قصيدته المشهورة، ويعرج على الزعماء العرب ويقول:

"إت حدثوا كذبوا، أوطولبوا غضبوا. أوحاربوا هربوا، أو صوحبوا غدروا"

وفي الواقع مازال الحكام الطغاة المستبدون، الأحياء منهم والأموات يعيشون بيننا دون شعور بالمسئولية أمام الله وأمام الشعوب، حتى الأموات منهم مازالوا يحكموننا من قبورهم وهو يقول: "قد عاشوا وماشعروا، وماتوا وماقبروا"!

لقد كان عمر شاعر الموقف. ولابد هنا من ذكر موقف تاريخي له. وهو أنه كان ينتقد الوطني (سعد الله الجابري) رئيس الوزراء السوري في أواخر الأربعينات من القرن الماضي. وحين مات الجابري، وقف عمر وقال قصيدته المعروفة ومنها:

"أنا ياسعد ماطويت على اللؤم     جناحي، ولا جرحت اعتقادي

يشهد الله ما انتقدك إلا                  طمعاً أن اراك فوق انتقادي

وكفي المرء رفعة أن يعادى           في ميادين مجده، ويعادي".

ونذكر هنا بيتاً من قصيدة الشاعر (بدوى الجبل) يذكر فيها رئيس الجمهورية السورية السابق (شكري القوتلي ) والزعيمين الوطنين (سعد الله الجابرى وفارس الخوري) في العهد الذهبي لسوريا , قبل أن تعصف بها رياح الديكتاتوريات والاستبداد والشعارات الزائفة , حيث يقول :

" فحلق إذن شكري ولا تجزع الردي    جناحاك في التحليق سعد وفارس"

 

شاعر الأناشيد الوطنية:-

من الصعب أن نجد شاعراً عريقاً , يعطي إمارة الشعر حقها من المجد , مثل الشاعر عمر أبو ريشة والشاعر الحق هو امبراطور , لا يصعد إلي منصة التتويج علي ظهور الدبابات وقد كان عمر يؤمن بالناس ويؤمنون به .. وهكذا كان الشعراء ( لوركا , إيلوار , بوشكين , أراغون , بابلو نيرودا) وغيرهم .

ولنسمعه يقول :-

ياعروس المجد تيهي واسحبي    في مغانينا ذيول الشهب

كم لنا من ميسلون نفضت     عن جناحيها غبار التعب

شرف الوثبة أن ترضي العلا     غلب الواثب أم لم يغلب

وفي هذه القصيدة، يختصر الشاعر عمر أبو ريشة الكثير:

رب..طوقت مغانينا جمالاً وجلالاً

كيف نمشي في رباها الخضر تيهاً واختيالاً

وجراح الذل نخفيها عن العز احتيالاً

ردها قفراء إن شئت وموجها رمالاً

نحن نهواها علي الجدب إذا أعطت رجالاً "

 

المرأة في شعر عمر أبو ريشة :-

ما أجمل أن يكون مسك الختام , أو ختام المسك مع المرأة 

فبقدر ما كانت روح الشاعر متعطشة للوطن الامن الجميل العادل الحر العزيز كانت روحه متعطشة للمرأة الأم الحبيبة التي يأوى إاليها من الزمهرير والاشباح والعواصف والغربة لكل هذا كانت المرأة عند عمر شيئاً سامياً مقدساً وهو يقول

" أعتز بأنني لم أجرح شعور المرأة بكل أشعاري وهوفي أشعاره يرقي بالحب إلى درجة التصوف وفي أحدي قصائده يقول :

" قفي لا تخجلي مني         فما أشقاك أشقاني

كلانا مر بالنعمي           مرور المتعب الواني

وغادرها كومض الشوق    في أحداق سكران

فبعد اليوم لن أسال عن كأسي وندماني

لنطو الامس ولنسدل        عليه ذيل نسيان

فإن أبصرتني ابتسمي       وحييني بتحنان

وسيري سير حالمة         وقولي كان يهواني "

وكان عمر صاحب كبرياء في التعامل مع المرأة إذ لم يسمع لعاطفته أن تذله ويقول في ختام قصة حب عاشها مع إحداهن :

" حكاية حبنا ختمت         فما أشجي وما أقسي

وما أحسن أن تنسي         وما أجمل أن أنسي "

وتمر معه حادثة في (نيبال) وفيها أجمل ما يتجسد الكبرياء حيث يزور حبيبته متأخراً عن الموعد فتعبس في وجهه , وتكون هذه القصيدة :-

" قالت مللتك إذهب لست نادمة    علي فراقك إن الحب ليس لنا

قالت وقالت ولم اهمس بمسمعها   ماثار من غصص حري وما سكنا

تركت حجرتها والدفء منسرباً    والعطر منسكباً والعمر مرتهنا

وسرت في وحشتي والليل ملتحف    بالزمهرير وما في الافق ومض سنا

ولم أكد أجتلي دربي علي حدسً     وأستلين عليه المركب الخشنا

حتي تراءي ورائي رجع زفرتها    حتي لمست حيالي قدها اللدنا

نسيت ما بي , هزتني فجاءتها       وفجرت من حناني كل ما كمنا

وصحت يا  فتنتي ما تفعلين هنا         البرد يؤذيك عودي لن أعود أنا "

 

بعد هذا العرض هل تراني استطعت إلقاء الضوء المناسب علي شخصية عمر وشعره

لقد جاءت هذه المقالة محاولة بسيطة للحديث عن شاعر كبير تأثرت به أنساناً وطنياً يصح أن يكون مثلاً أعلي وأيقونة تحفظ الانسان وتمنعه من السير في الطريق التي لا تؤدي إلي الوطن أو إلي الانسان

ذهب عنا الشاعر عمر أبو ريشة بعد وفاته في مدينة الرياض عام (1990) بعيداً عن وطنه وكانت ثروته الكلمة و(22) عاماً قضاها في مشارق الارض ومغاربها وهو القائل :-

" بم التعلل لا اهل ولا وطن      ولا نديم ولا كأس ولا سكن "

وسيبقى عمر نخلة شامخة على ضفاف الوطن يفيء بظلها كل عشاق الوطن والشعر والحرية وسيبقى نبعاً يروي مساحات اليباس في صدورنا وأرواحنا وسيظل دائماً يوقظ المشاعر والضمائر ويدفعها نحو ما يجب أن يكون.