أخبار عاجلة

مسيد المومني يكتب: هل تخيَّلت؟!

مسيد المومني يكتب: هل تخيَّلت؟!
مسيد المومني يكتب: هل تخيَّلت؟!

شذرات الضوء الصغيرة المتسربة إلى أعماق روحي بدءا من نوافذ عينيّ، تحاول بوضوحها الشفاف إشعال فتيل الحركة داخلي، حاولت مدّ يديّ عبرها علّي ألمسها، وأجذبها في عناق طويل أقتبس من خلاله الضياء.

غائصة بين وسائدي الوردية، وأغطيتي المزركشة، لا تظهر منّي إلا أصابعي المنهكة تروح وتجيء بين نترات الأشعة الملونة بأطياف قوس قزح، أحاول لمسها، أحاول جمعها في سلال كفّيّ لأوزعها بتؤدة على بقيّة جسدي المسجّى، أحاول تجفيف حبّات العرق المنصبة منه فوق ملاءات السرير، أجتهد لأبقيني على قيد الصحوة، واعية للفراغ حولي، للوحدة الإجبارية التي فرضت علي، لمعاملتي قسرا كوباء يجب تجنبه لبقائهم سالمين... هكذا بكلّ بساطة ودون أية مقدمات شخِّصتُ مصابةً بفايروس كورونا.

سأموت، نعم سأموت... فكرت بصوت عالٍ أقرب للصراخ، شعرت بروحي تقف بمواجهتي تحمل ما تسنّى لها من بقايا حياتي في حقيبة تحملها بخفّة وتهمّ بالمغادرة.

 إلى أين؟ ولماذا؟ ليس بسؤال منطقي، وليس بمحلِّه، ولا هذا وقته، ولكنك تفقد استشعارك، حواسك، تفقد ذاتك عندما تصطدم بحقيقة أنّ الموت يقف بمواجهتك دون أن تعي أو تدرك، لا يفصلك عنه إلا سدٌّ بصريٌّ بأمر الله ولطفه.

 لا أتذكّر كيف حدث وأصبتُ بالفايروس، فمهنتي كممرضة مع إجراءات السلامة التي نتخذها لا تتيح للهواء التَّسرُّب إلى رئتينا بسهولة، ولو كنت أعلم أنّني سألتقطه أثناء تسوُّقي لما اتخذت أية تدابير وقائية خلال خدمتي، وخاصة أنّ الاختناق وثقل لباس الوقاية كانا سيِّدَيَ الموقف.

في روتين يومك، في تأدية أعضاء جسدك لمهنتها بكلّ سهولة دون جهد، واستجابة لأوامرك العقلية لها، لا يمكنك تخيُّل أو توقُّع تخلِّي جسدك عنك دون مقدمات، أن تفقد سيطرتك عليه، أن تشعر بعجزك وضعفك، شعور بالقهر لا يمكنني وصفه بالكلمات.

هذا الفايروس يشعل حطب حواسِّي العصبية داخل جمجمتي، أشعر بها تنصهر فعليا، أمسك رأسي وأضمُّه بما تبقَّى لي من قوَّة بين كفَّيَّ، آخذ وضعية السجود في أغلب الأوقات، وأحيانا أظلُّ يوما كاملا علِّي أسيطر على تصاعد الحرارة المخيف داخلي، ولعلِّي أوقف ذوبان عظامي، أو أستطيع منع مسامِّي من طرح كميات العرق المخيفة التي تغمرني شلالا لا يتوقف، أو منع تيار الكهرباء من السريان داخل جسدي يلسع كل مكان يمر به.

شهر كامل من فقدان السوائل فقدت خلاله الكثير من وزني، فايروس غير مرئيٍّ جعل مني جسدا هزيلا واهنا افتقر للكثير من المعادن، لا حديد، لا فيتامينات، كل ما تفكر به أنه يمدك بالمناعة، ويساعدك على الوقوف على قدميك من جديد.

لا فرق بين ليل ونهار عندما تتمدد فوق أوجاعك، إذا ما انقلبت على جانبك الأيمن لتريح الأيسر صعقك وجع لا يمكنك تحمُّله، تعود إلى وضعيتك منقلبا على ظهرك فيشتعل فيه فتيل الآلام، لا يمكنك أن تسيطر على الهراوات التي تسحق عظامك داخل جلدك، هل لك أن تتخيل شقَّا يعصف بكل جزء من جسدك كأنما يشرخك دون مخدِّر؟!  كممرِّضة كنت أتقبَّل شكايات المرضى وأحاول مواساتهم ومساعدتهم من خلال المهدِّئات، ولكنَّني لم أكن لأتخيَّل أنهم يموتون كل لحظة دون أن يمتلكوا التعبير المناسب عن أحوالهم.

أشرب الكثير من الكمُّون، الكثير من الليمون، أية وصفة طبية بديلة عسى أن توقفه وتمنع آلامه التي تفتك بما تبقَّى من صبري، أعيش على ما صرف لي من المُسَكِّنات.

 أبصرهم من خلف زجاج باب معزلي، أجسادا تروح وتجيء بلباس أزرق كأنهم ملائكة تقوم بحراستي، هل فكرت يوما أنه من الممكن أن تراقب أكثر مخاوفك رعبا دون قدرة منك على منعها، ألم يتشبث بك، يقوم بعجنك مرارا وتكرارا، ومن ثم يكوِّرك ويقذف بك في ممرٍّ أملس طويل تجاه بقية ما كنت تظنُّها في وقت سابق مشاكل لا يمكن حلَّها؟ لتسقط دفعة واحدة، ويبقى الفايروس منتصبا أمامك؟ هل تخيَّلت؟!.