إدوارد فيلبس جرجس يكتب: فليكن عبور اكتوبر الهاماً للعبور إلى الأفضل

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: فليكن عبور اكتوبر الهاماً للعبور إلى الأفضل
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: فليكن عبور اكتوبر الهاماً للعبور إلى الأفضل

 

قبل أن أخوض في عبور اكتوبر وقد خضنا فيه كثيرا وسنستمر في الخوض طالما نحن أحياء ، سنخوض فيه كلما حلت ذكرى ذلك اليوم الذي لولاه ومشيئة الله لأصبحنا سخرية أمام العالم كله ، وسخرية أكبر أمام أنفسنا . لكن دعونا الأول نوضح ذلك العنوان الذي قد يبدو غامضا أمام البعض ، ما هو العبور الأفضل الذي أقصده ؟! ، من المعروف أن العبور المائي هو العبور من شط إلى شط ، وهو ما حدث في عبور اكتوبر حيث عبرنا من القنطرة غرب إلى القنطرة شرق هذا بالنسبة لقطاع الجيش الذي كنت أخدم فيه ، وبالنسبة للجميع فهو العبور من شط القناة الغربي إلى شط القناة الشرقي لاختراق خط بارليف وهذا وحده يمكن أن تكتب فيه الأساطير ، أما العبور إلى الأفضل ، أقصد به عبورنا الذي يجب أن نعبره أو نجتازه الآن ،  العبور من مرحلة إلى مرحلة ، فما تم حتى الآن من انجازات يعتبر قليلا بالنسبة للأمل الذي لا يجب أن ندعه أن يتركنا في عبور أكبر وأفضل بالنسبة لمزيد من الإنجازات وعبور لحياة كريمة لكل فرد من الشعب ومرحلة أكبر من الحرية وديمقراطية الحكم ، ولماذا لا نبلغ هذا كله ونحن أقدم تاريخا وحضارة من أمريكا التي بلغت هذا المقدار من الرقي وقد أصبحت سيدة العالم في فترة قد لا تذكر بالنسبة لتاريخنا ؟!، نعم فترة لا تذكر ، لكنها سبقتنا بألاف السنين تقدما وحضارة وانسانية وديمقراطية وحرية ، ولا أحد يستطيع أن ينكر أننا لا زلنا ننتظر المعونة منها !! ، فلماذا لا نعبر للأفضل ما دمنا قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق الصحيح ؟! ، لماذا لا نمضي للأمام في خطوات محسوبة من كل جانب ، للانجازات وحياة كريمة لكل طبقات الشعب ؟! . يجب أن نضع أمامنا أخطاء الأنظمة الحاكمة السابقة ، أنظمة تردت في أخطاء معظمها كان فادحا وأثرت بالسلب ، نتيجة لأفكار سياسية واجتماعية وثقافية كلها كانت خاطئة حساباتا وتنفيذا ، لا ننكر بعض الانجازات لبعضها ، لكنها أبدا لم تكن على المستوى الذي يجعلنا نتقدم خطوة واحدة !، بل بمنتهى الصراحة أقول أن الخطوة التي كنا نتقدمها كنا نعود بعدها خطوات إلى الخلف . ولذا أرجو وكلي رجاء  أن نكون الآن قد تعلمنا من كل الأخطاء السابقة ونتقدم للعبور للأفضل بخطوات تقدمية دائمة لا تعود للخلف بخطوات أسرع كما كان يحدث ، وقد يكون الدافع الأكبر لنا أن نسترجع ذكريات اكتوبر وروحه ، وكيف كان الشعب وأكرر قولي الشعب ، لأن الروح المعنوية المرتفعة للشعوب هي الدافعة دائما للتقدم وبدونها لا يمكن أن نخطو خطوة واحدة مهما حاولت القيادة السياسية أو نظام الحكم ، دعونا بالفعل نستلهم من عبور اكتوبر العبور للأفضل ، وهذا ما قصدته من العنوان وأستكمله مع سياق الحديث التالي ، ولهذا وللتوضيح أكثر دعونا نعود ثانية إلى انتصار اكتوبر المجيد ونستكمل الحديث عنه وإن كان سيظل ناقصا دائما بالنسبة لحجمه الضخم . ضحكت كثيرا عندما اكتشفت وكأنه كان غائبا عن البال أننا نحتفل الآن بنصر اكتوبر 73 في ذكراه ال 46 أي ما يقارب نصف قرن ، في ذلك الوقت كنت شابا صغيراً اخدم بالقوات المسلحة كضابط احتياط ، تملأ رأسه أحلاما كثيرة ، أولها حلم الانتصار وعودة الكرامة لمصر ، وثانيها أن أترك الخدمة في القوات المسلحة لأعود لحياتي المدنية بكل أمالها وأحلامها ، فلقد كنا نعلم جيدا إننا لن نتخلى عن مواقعنا القتالية إلا بعد الانتصار ، ما يزيد عن ست سنوات ونحن نحلم بالنصر وبالعودة إلى ديارنا بعزة وكرامة لنبدأ مشوار الحياة ، كل ضابط وكل جندي من الألاف التي جندت بعد هزيمة 67 يسير في اتجاه أحلامه التي كانت تتأرجح بين التحقيق من عدمه فأمامنا حرب وفي الحرب لا أحد يستطيع أن يخمن إن كان سيعود أم ستكون رمال الصحراء مأواه ، عدنا وتركنا خلفنا الألاف من الزملاء سواء كانوا ضباطا أو جنودا كتبوا بدمائهم راية الاستشهاد وعزة النصر ، رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته .  وإذا تحدثنا عن هذه الذكرى الخالدة ، أقول أنه حقيقي وقد أكون كتبتها في إحدى السنوات السابقة أنه حتى الآن لم تستوف كل التفاصيل عنها ، بل أؤكد أن ما ذُكر حتى الآن فيه الكثير من الاستقطاب والمجادلات التي لونت الحكاية بألوان ممسوخة فيها تشويها للتاريخ ، لعبت فيها الأهواء الشخصية والخلافات السياسية دورا في تقديم وجه آخر مرتبك ، لا يعود لخلاف في وجهات النظر أو في تفاصيل الروايات لكنه يمتد إلى اختلافات تامة في رواية ما حدث ، سواء في سنوات ما قبل الحرب أو بعدها . تفاصيل مهمة يجب أن تُعرض بكل أمانة ودقة لأنها ستضع النقاط فوق الحروف بكامل هيئتها للأدوار التاريخية والعسكرية . المحوران الرئيسيان في هذا الموضوع اللذان كانا لهما أكبر أثر على مصر من جميع الزوايا وخاصة الاقتصادية ، هما هزيمة يونيو 67 وانتصار اكتوبر 73 ، والتفاصيل الدقيقة لهما لا يمكن أن تُأخذُ سوى من أفواه الجنود والضباط وهي أصدق تفاصيل في الغالب والتي بالأخص تبرز الصورة الإنسانية وللأسف فلقد رحل العدد الكبيرمنهم سواء بالاستشهاد أوبالموت ، قد تكون روايات قصيرة لكن لها أهميتها الخاصة لو جمعت بأيدي أمينة في ملحمة  متكاملة ،  ففي كل شارع وحارة بمصر هناك شهيد أو عائد بطل ، لديه ما يرويه . حكايات وأساطير لا تختلف وربما تتفوق على قصص سجلتها أفلام ووثائقيات الحرب العالمية . لقد كان أعظم ما خلفه انتصار اكتوبر وأقصد بالأكثر الاستعداد في فترة ما قبل المعركة ، هذه الروح التي خلقت أجواء من المحبة بين جموع الشعب المصري ، وساهمت في زيادة التلاحم الشعبي بين الشعب ومؤسسات الدولة ، الروح الوطنية كانت هي السمة الغالبة ، فلا حديث أو كلمات أو نقاش في أي موضوع يعلو وقتها فوق الحديث عن النصر وأجواء الاستعداد والأمل ثم الانتصار ، في كل مكان النغمة واحدة ، في المقاهي والمنازل وفي والشوارع ، ومن المدهش أن " روح أكتوبر " كان لها تأثير السحر على الجميع حتى أن المجرمين  توقفوا عن جرائمهم ، فلم تسجل محاضر الشرطة ودفاتر القيد أي بلاغات حيث سجلت الجرائم وقتها الرقم "صفر" ، فلا مكان للجريمة وقتها ، فالكل في صف واحد وداخل خندق واحد . " روح أكتوبر"  جعلت جهاز الشرطة يسجل ملاحم بطولية جديدة ، من خلال حماية الجبهة الداخلية ، والتلاحم مع الشعب ، حيث جرى تعاون كبير بين الشرطة وأبناء الشعب المصرى فى واحدة من الملاحم الضخمة ، فكان الشغل الشاغل للجميع مواجهة العدو، وكانت الروح الوطنية تسيطر على الجميع ، فأمنت الشرطة الحدود الشرقية للقاهرة من ناحية السويس ، وكانت هناك تمركزات أمنية لا سيما إبان أحداث الثغرة ، وتلقى رجال الشرطة تدريبات خاصة ، لا سيما القوات النظامية والأمن المركزى والقوات الخاص ، على أعمال التأمين والتعامل مع كافة الأمور، فضلاً عن تأمين كافة المنشآت الحيوية للبلاد من سفارات ومطارات ومبانى هامة ، بجانب تأمين الأجانب الذين كانوا متواجدين فى البلاد أثناء وقوع الحرب . السؤال الذي أسأله لنفسي  دائماً  مع الشعور بالألم ، كيف ضاعت " روح اكتوبر " ؟! كيف ضاعت فرحة الانتصار ؟! ، كيف سار السادات الذي لقب ببطل الحرب والسلام على نفس خطي النظام السابق في إنهاء فرحة 23 يوليو 52 بالهزيمة المرة في يونيو 67 ، لأنه ترك البلد للذين احتموا تحت لقب الضباط الاحرار ، ليفسدوا كل مبادئ الثورة ، ويطبقوها بنظام يخدمهم وليس لخدمة الشعب ، فإذا كان النظام السابق ضيع مصر في هزيمة منكرة قصمت ظهرها من جميع الاتجاهات فإن السادات سار على نفس النظام ، لكن بطريقة أخرى ، نجح في وأد " روح اكتوبر "  التي جمعت كل المصريين على قلب رجل واحد ، لقد ذهب إلى إسرائيل بحثا على السلام ، بالنسبة للمنطقة ، واستطاع أن يحققه  لمصر ولا إنكار أنها كانت خطوة مهمة حتى لو  رفضتها الدول العربية النائمة أو الغارقة في بحور الوهم ، لكن للأسف لم يستطع أن يحقق السلام داخل مصر ، أطفأ " روح اكتوبر "  التي كانت هي الدافع الأكبر أو الدفعة الهائلة للأتيان بالنصر ، صال وجال تحت لقب أوهم نفسه به " الرئيس المؤمن " ، وتحت هذا اللقب الذي لم يعرف كيف يستثمره لصالح البلد والشعب ، أشعل نار الفتنة ودفع البلد إلى الطائفية البغيضة التي عانينا منها سنوات وسنوات ولا تزال أثارها حتى الآن ، ولا إنكار في ذلك ، يحاول البعض أن يشعلها من جديد ، نجح  في اطفاء روح اكتوبر بكل ما تحمله الكلمة من معنى وجاءت النتيجة كأسوأ ما يكون باغتياله في احتفالية الانتصار بذكر ملحمة انتصار السادس من اكتوبر وترك البلد في حالة غليان من العنصرية والتطرف الذي ظهرت شديدة بعد ذلك في عهد الرئيس الذي أتى بعد منه ، وإن كانت بذلت المحاولات للقضاء على الإرهاب ، لكن جذوة التطرف لم تخمد لتشتعل بين الوقت والآخر معلنة بكل أسف أن " روح اكتوبر " الجميلة لم يعد لها وجود . كان يمكن أن تستمر روح اكتوبر التي  خلقت أجواءً من المحبة بين الناس ، والتوحد في الفكر ، وإعلاء مصالح البلاد ، لولا انحراف السادت الحاد في سياسته الداخلية . ما أحوجنا الآن أن تعود " روح اكتوبر "  ونحن نخوض حروب جديدة ، نعم.. نخوض حروب جديدة ، العدو فيها يحاول النيل من وطننا ، وللأسف لا نواجه أكثر من عدو ، بل أعداء كثيرون، ما بين "عدو داخلي وخارجي"، وما بين قيادات إرهابية هاربة للخارج توفر لها بعض الدول الملاذ الآمن ، تجلس في فنادقها وتخطط للتخريب والتدمير، وعناصر داخلية سلبوا فكرهم وإرادتهم ، يحركونهم كقطع الدمى وينفذون أجندات خارجية تستهدف أمن واستقرار البلاد .                        

" روح أكتوبر" ، ما أحوجنا إليها الآن ، ونحن نعيش أجواء النصر والاحتفالات ، فما أحوجنا للالتفاف خلف قيادتنا السياسية ، ودعم مؤسسات بلادنا ، في حربها على الإرهاب ، واستكمال المشروعات الوطنية والتنموية ، فالحرب لم تنته بعد ، فالأعداء خلف أسوار الوطن يتربصون بنا، فاستعيدوا "روح أكتوبر" ودعموا بلادكم ، حتى يكون النصر حليفن ، وتعيش بلادنا من "نصر لنصر"، ولو كره الحاقدون . نعم الآن نحتاج إلى " روح اكتوبر "   ، ولتكن إلهاما لنا في هذه الخطوات للوصول إلى العبور الكبير لمصر ، ننفض هموم الماضي ومشاكله ، ونقول أن مصر بدأت مع ثورة يونيو ، وأن الشعب عاد إلى روحه الرائعة التي أتت بنصر اكتوبر ، وأن الشعب اتحد جميعه مرة ثانية على قلب رجل واحد ، اتحدت القيادة السياسية والشعبية لتخرج مصر من لقب العالم الثالث إلى العالم الأول وتسبقه ، وهذا لن يتأتى إلأ إذا حدث الاندماج الكامل بين القيادة السياسية والشعب ،  وعندما يجد الشعب نفسه وقد توفرت له كل أسباب العيش الكريم لن يسمح بوجود أي منتهز للفرص للنيل من مصر سواء في الداخل أو الخارج ، نعم يجب أن يكون نصر اكتوبر وروح اكتوبر التي أتت بالنصر هي الإلهام الأكبر لتعود مصر إلى مصر في أبهة تسبق الحضارة القديمة التي نستدعيها حتى الآن لتكون فخرا لنا ، بل تكون حضارتنا الجديدة هي الفخر كله .

 

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

********************