محمود عابدين يكتب: قطعة آثار واحدة غيرت تاريخ أمة.. فلنحذر

محمود عابدين يكتب: قطعة آثار واحدة غيرت تاريخ أمة.. فلنحذر
محمود عابدين يكتب: قطعة آثار واحدة غيرت تاريخ أمة.. فلنحذر

كنت أنوي استكمال الكتابة عما يتعرض له الهرم الأكبر من مخاطر تحت مزاعم وادعاءات ما أنزل الله بها من سلطان، لكنى أجلتها لوقت آخر، نظرًا لأهمية السؤال الذي وجهته لي المذيعة الراقية رانيا عادل أثناء استضافتها لي بحلقة على القناة الثانية الثقافية منذ 10 أيام تقريبًا عن "كيفية تطوير السياحة" ، مضمونه: "أليس من الأفضل مكافأة المواطن الذي يعثر على قطعة آثار عندما يقوم بتسليمها للجهات المختصة بدلًا من أن يبيعها لمافيا الآثار؟"، فقلت لها:

- "قبل أن أجيبك على سؤالك، لابد من التأكيد على أهمية التوعية الأثرية لمواطنينا حتى يعرفوا خطورة التفريط في أي أثر يخص حضارتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر حجر رشيد الذي عثر عليه الفرنسيون أثناء حملتهم الاستعمارية على مصر، ثم استحوذ عليه الانجليز في يوليو 1799 بعد هزيمتهم نابليون بونابرت بموجب شروط  معاهدة الإسكندرية في عام 1801، وغيره من آثارنا التي سرقها الفرنسيون والانجليز معًا، وتملأ الآن أكبر متاحفهم، ويربحون من خلفها مئات الملايين من الدولارات ......!!، ثم تم شحن الحجر بعد ذلك إلى انجلترا فبراير 1802، وسرعان ما تم عرضه في المتحف البريطاني منذ هذا التاريخ وحتى اليوم".....!!، وأضفت:

-  "وبفضل هذا الأثر، تم فك رموز اللغة الهيروغليفية، وهى اللغة نفسها المنقوشة على جدران المعابد والآثار والبرديات الفرعونية، ولولا التوصل إلى معرفتنا بهذه اللغة ( المهمة ) لما استطعنا فك شفرات حضارتنا العظيمة في الزراعة والتقويم الشمسيّ والعلوم والكتابة التي أحدثت ثورة هائلة في العالم، ثم الهندسة المِصرية التي فاقت مثيلاتها لدى اليونان والرومان، أما أكبر مفخرة علمية للمِصريِّين، فهي في علم الطب، فلم يعرِف التاريخ طبيبًا بارعًا مثل إمحُوتِب ( إله العلم )، وإلى جانب كونه طبيبًا، كان إمحُوتِب مهندسًا.....!!، فهو من وضع تصميم هرم سقارة المدرَّج الذى ظل شاهدًا على عبقريته آلاف السنين حتى يومنا هذا، كذٰلك يعود الفضل إليه في إيجاد أبرع مهندسى التاريخ الذين شيدوا آثارًا أبَهَرت العالم، وقد اتخذه الملك زوسَر كبيرًا لمستشاريه، ويُقر العلماء أن ما حققه العالم من ثوْرات حضارية كان ملهَمًا من الحضارة المِصرية والمِصريِّين بعدما تتبعوا خطاها، وأن مِصر كانت أسبق دول العالم في كثير من جوانب الحياة.

لكل هذه الأسباب وغيرها، يُعظمنا العالم أجمع بسبب حضارتنا التي ساهمت بشكل كبير جدًا في تطور بقية حضارات البشرية بشهادة علماء الغرب المحايدين، ومنهم: عالم الآثار الأمريكي البروفيسور هنري بريستد والذي سيأتي ذكره لاحقًا، والإغريقي هيرودوت ( أبو التاريخ )، صاحب المقولة الشهيرة " مصر هبة النيل"، وهذا هو المحور الأول في الإجابة على السؤال المشار إليه".

-  "والمحور الثاني مرتبط بتوضيح سابقه، ويتلخص في أن قطعة الآثار الواحدة، يمكنها تغير تاريخ أمة بأكملها، والأمة المصرية – كما نعلم ويعلم غيرنا - ليست كأي أمة، بمعني أن أعدائها ليسوا كأي أعداء.....!!، وأسرارها ليست كأي أسرار"....!!، وتابعت:

-  "أما المحور الثالث فهو أن المواطن المصري عندما يعي الحقائق السابقة، ويتأكد من حجم المؤامرات الصهيونية التي تُحاك ضد حضارتنا قديمًا وحديثًا، أعتقد أنه لن يقبل ببيع أثره الذي يعثر عليه مهما كانت المغريات المادية، وسيقوم بتسليمه - عن طيب خاطر - للجهة الرسمية الأمينة التي ستحافظ عليه، دون أي مقابل.....!! 

انتهت إجابتي على سؤال المذيعة المحترمة بالمحاور الثلاثة السابقة، وزيادة في التوضيح، لابد أن يفهم المواطن البسيط والمثقف على السواء، أن المصري القديم حافظ على حضارته بالعمل والإبداع، وهذا ما ساعده على توحيد بلاده سياسيًّا في إقليم واحد، وتحت قيادة واحدة، لتصبح أقدم دولة في التاريخ البشرى، في هذا السياق يؤكد العالم الإنجليزي أرنولد جوزف توينبي أن "مِصر العليا والدلتا توحدتا سياسيًّا عند فجر المدنية المِصرية الفرعونية"، ويضيف:

- "وعلى الرغم من قسوة الحرب، فإن مِصر كسَبت بهذا الثمن وَحدة سياسية، ومن ثم سلامًا ونظامًا في الداخل، وهذه الهبات استمرت مدةً تَزيد على الثلاثة آلاف سنة من التاريخ المِصري الفرعوني، وقد كان هذا مظهرًا للتعاون البشرىّ الجماعي لم يسبق إليه مثيل، وهكذا ارتبط المِصري بأرضه التي عبّر عن محبته الشديدة لها في آدابه وفنونه ومعتقداته، فقد شبّهوا مِصر بالقلب لأنها دافئة ورطبة وحبيسة في الجزء الجنوبي من المعمورة، ومقيمة به كالقلب في الجانب الأيسر من جسم الإنسان، ولا عجب أن يتردد عن مِصر أنها قلب العالم، ومع المِصريِّين، بدأ التاريخ، واستمر الإبداع المِصري، في رحلة طويلة عبر الزمان.

يتبقى لي توضيح معلومات بسيطة عن حجر رشيد، لعل وعسى أن تجد حروفي هذه أهمية عند قارئي العزيز، حتى يعتز بحضارته، ويتأكد أنها الأهم والأعظم في تاريخ البشرية جمعاء، ومن ثم يحافظ عليها ويحارب أعدائها على مختلف أطيافهم.

فحجر رشيد، المصنوع من مادة البازلت، والذي يبلغ ارتفاعه 113 سنتيمترًا، وعرضه 75 سنتيمترا، وسمكه 27.5، منقوش عليه كتابة بثلاثة لغات قديمة، وهى: الهيروغليفية والديموطيقية أو القبطية واليونانية.

وقد نقشت الكتابات الثلاث على الحجر كخطاب شكر وعرفان من كهنة مدينة منف ( أسسها الملك نارمر عام 3200 ق.م، كما كانت مكانًا لعبادة الإله بتاح، وهي حاليًا مدينة البدرشين، قرية ميت رهينة بالجيزة ) للملك بطليموس الخامس على إعفائه المعابد من دفع بعض الرسوم، وقد تمت هذه الكتابة عام 196 ق.م، مع العلم أن الهيروغليفية كانت لغة الكهنة في ذلك الوقت، أما عامة الشعب فكانوا يستخدمون اللغة الديموطيقية، ولذلك تم الكتابة على الحجر بالثلاث لغات حتى يستطيع الملك وعامة الشعب قراءتها.

وحتى تتضح الحقيقة، فلابد من الإشارة إلى أن الأثري الفرنسي جون فرانسوا شامبليون، ليس هو أول من اكتشف أسرار الهيروغليفية كما يُشاع – خبثًا أو عن حُسن نية -  بل سبقه إلى ذلك العالم العربي أبو بكر أحمد بن علي بن قيس ( إبن وحشية النبطي )، الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وقد جاء ذلك في مخطوطته النادرة " كشف المستهام في معرفة رموز الأقلام "، والذي كشف فيها عن أحرف وأسرار تسع وثمانين لغة قديمة من بينها الهيروغليفية.

وإنصافًا لحق عالم بقيمة وقامة " ابن وحشية " فقد كشفت مخطوطاته النادرة أيضًا، حروف ومقاطع صوت الهيروغليفية للرموز التي كان يستخدمها الفراعنة في وصف أسماء الأشياء مثل: الكواكب، والنجوم، والمعادن، والحيوانات، والجمادات، وتجاوز كل ذلك إلى تفسير الرموز التي كانت تستخدم بعض المعاني المطلقة؛ مثل: الروح، الخير، الشر، القدرة وغير ذلك.

ودلالة ذلك تؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك - سبق "ابن وحشية" لشامبليون  وباقي علماء أوروبا بثمانية قرون على الأقل، حيث يتطابق كل ذلك مع ما وصل إليه علم المصريات فيما بعد في: الحروف والرموز الهيروغليفية بـالإنجليزية والفرنسية في كتاب " ابن وحشية " المشار إليه، والذي حققه وترجمه إلى الإنجليزية المستشرق النمساوي جوزف همر، ونشره في لندن عام 1806م، قبل ستة عشر عامًا من إعلان  شامبليون عن اكتشافه، ويُقال أن شامبليون اطلع علي مخطوطة " ابن وحشية " لا سيما وأنه كان مهتمًا بكل ما يُنشر في علم اللغات القديمة، وهذا أيضًا ما أكد د. خالد حربي ( أستاذ المخطوطات بجامعة الاسكندرية).

وتصديقًا لذك، فإن المكتبة الوطنية في باريس تمتلك مخطوطة "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"، تحت رقم  1605/131 ، وهذا ما كشفه د. يحيى مير علم ( أستاذ آداب اللغة وعلومها بكلية التربية الأساسية بالهيئة الوطنية للتعليم التطبيقي والتدريب في الكويت ) في " الندوة العلمية الثامنة لتاريخ العلوم عند العرب، الجوانب المجهولة في تاريخ العلم العربي  بمكتبة الإسكندرية 2004 م ،

وللحديث بقية.