إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 19)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 19)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 19)

شحوب الموت كسى وجه رمزي ، الجوكر قال له أن حامد النجار يريد رؤيته ، يعلم أن الذهاب لحامد النجار ينطبق عليه القول .. الداخل مفقود والخارج مولود. ما أدراه أنه لن يكون واحدا من المفقودين ، ما أكثر الذين دخلوا إلى مكتب حامد ولم يخرجوا . لماذا يريد أن يراه حامد النجار ؟ أما يكفي ما ذاقه داخل الزنزانة على يد الجوكر وثيرانه ، بإشارة من يده يمكن أن يقدموه وجبة شهية لكلابه المسعورة . من المؤكد أن حامد النجار لم يطلبه إلا لينتزع اعترافاً منه عن مكان صديقه رشاد ، آه يا رشاد ، لو كنت مكاني ماذا كنت ستفعل ؟ ، فاق من أفكاره على صوت الجوكر الأجش وهو يصرخ فيه :

_ هل تسمرت في مكانك ، أم خطف عزرائيل روحك ، قلت لك حامد بك النجار يطلبك ،أذهب واصلح من شأنك لمقابلته ، وإياك أن تلفظ بحرف مما حدث معك في الزنزانة .

تنبه رمزي لجملة الجوكر الأخيرة ، لماذا يخشى الجوكر من أن يبوح لحامد النجار بالركلات والصفعات والكدمات التي تنتثر على طول جسده ؟ ، أليس الجوكر شيطان من شياطينه وينفذ أوامره ، لمحة من الذكاء برقت داخل رأسه ، نظر إلى الجوكر يسبر غوره :

_ هل اعترافي عن مكان رشاد الآن يعفيني من الذهاب إليه ؟

قال الجوكر بوجه جامد :

_ لا أريد أن أعرف مكان الزفت رشاد ولا يهمني أن أعرف ، أذهب إلى منزلك واصلح من شأنك ، ثم أحضر فوراً ولا تنسى تحذيري لك وأنت تقف أمام حامد بك .

لم يصدق رمزي أذنيه ، هل فعلا سينطلق حرا إلى منزله ، أي ملعوب يلعبه معه هذا الجوكر ، هل يظن في نفسه الذكاء ، يتركه يمضي ويدع أحد رجاله يراقبه ، ليصل إلى مكان رشاد . لكن لماذا وهو نفسه راوغه ليسبر غوره وأبدى استعداده للاعتراف بمكان رشاد ؟  وإن وافق يراوغه من جديد ، لم يقل هذا إلا لسبر غوره . إجابة الجوكر أوقعته في الحيرة ، رفض أن يعرف مكان رشاد ولم يبد اهتماما لذلك ، وها هو يتركه حرا طليقا ليذهب دون حراسة . ردد مع حيرته : لا تتعب رأسك مهما أجهدت فكرك لن يصل إلي ما يدور في رؤوس هؤلاء الشياطين .

 

*********

     دلف إلى مكتب حامد النجار ، صوت خطوته يدق كالمطرقة في رأسه ، ثلوجة أطرافه والعرق الغزير على وجهه شيئان متناقضان . يحاول ألا يبلل ثيابه ، بدلها في المنزل بعد حمامه الذي حاول أن يزيل به معاناة يومين داخل زنزانة تستضيف جميع أنواع الحشرات ، أحس بالماء يكوى الكدمات والسحجات ، تذكر عيني أمه الملتهبتان خوفا عليه ، أعجبته نظرة الفخر في عيني أبيه وهو يصفه بالرجل والصديق الوفي ، لأول مرة يرى دموع رشاد بغزارتها عندما لاقاه ، رشاد ينزل ضيفا عليهم ويرقد في حجرة نومه ، مستعدا للاختفاء في خزانة الجواهر عند الخطر . حاول مرات ومرات أن يخرج ليسلم نفسه ، لكن والد رمزي أصر على منعه قائلا : أنه متأكد من أنهم سيطلقون رمزي بعد أن  يصيبهم اليأس من انتزاع اعتراف منه ، وأن ابنه رجل وسيصمد أمامهم وليس هناك داعٍ لأن يعرض نفسه لما لا يعلمه إلا الله على أيدي هؤلاء السفاحين . لم يشأ رمزي أن يلقيهم ثانية في بحور الذعر والخوف ، لم يبح لهم بأنه على موعد مع الشيطان نفسه . ذهب وحيدا مع نفسه وأفكاره المتلاطمة مع أمواج الخوف ، واحدة تلو الأخرى ، إلى أن وجد نفسه يقف أمام النجار بشحمه ولحمه  والجوكر عن يمينه وفي عينيه نظرة مذعورة . بإشارة من رأس حامد غادر الجوكر المكتب على غير رغبة منه ، الفضول يقتله ويعرف ما في رأس سيده حامد ، انصاع وهو يجر أذيال عدم الفهم . الأفكار تفتل أعصاب رمزي وتعتصر كل حواسه . لم يصدق أذنه وهو يستمع لكلمة أجلس خارجة في رقة من بين شفتي حامد النجار ، نظر حوله لعل هناك غيره هو المعني بهذه الدعوة ، كررها حامد وزاويتي فمه تنفرجان عن ابتسامة . لم يصدق رمزي أن من كان مثل حامد النجار له ابتسامة ككل البشر ، جلس على حافة المقعد وهو يردد في داخله يكفي أن أجلس على الحافة ، هناك مثل يقول لو كان حبيبك عسل لا تلعقه بالكامل ، حامد النجار حبيبي وقال لي بأسلوب مهذب تفضل بالجلوس ، يجب أن أكون حسيسا . بالرغم من موت داخله كاد أن يضحك وهو يردد هذه الهلوسة في داخله ، الإغماء كلمة غير كافية عندما سأله أي مشروب يفضل ، هاهاها من المؤكد أنني أصبت بالحمى وما أنا فيه هلوسة ، أنه لم ينتظر حتى إجابتي وأمر بليمون مثلج ، يسمنك للذبح يا رمزي يا ابن حنا .

كوب الليمون المثلج منظره شهي ، هل يا ترى سأُكمله ، أم رشفة ثم تلهب وجهي صفعة من يد النجار عقب أول رشفة ، كما نشاهد في أفلام السينما في مثل هذه المواقف .

نظرة لينة من عين النجار وسؤال :

_ ما أسمك ؟

_ رمزي .. رمزي حنا يا سعادة الباشا .

_ هل أنت مسيحي ؟

_ نعم

_ هل تصلي ؟

_ نعم

_ هل تذهب للكنيسة

_ نعم

_ هل من وصايا الدين المسيحي عدم الكذب ؟

_ نعم

ابتسامة على وجه النجار لا هي باردة ولا هي حارة :

_ أين صديقك رشاد ؟

حفرة تحت قدمي رمزي وشعور ببداية الانزلاق وصمت .

_ أين صديقك رشاد ؟ .. سأل النجار ولا تزال نفس الابتسامة أسفل شاربه .

آه .. لقد تغير السيناريو .. في الأفلام تأتي الصفعة عقب أول رشفة من كوب الليمون وصمت المُسّتَجوبْ ، هنا تغير السيناريو يا رمزي ، ، النجار أعاد السؤال ولم أتلق الصفعة المتوقعة .

_ أين صديقك رشاد يا رمزي ؟ ، تكلم ، دينك ينهاك عن الكذب .

آه يا رمزي ، أنه بالتأكيد سيناريو فيلم أجنبي ، الأجانب أعصابهم باردة ، لا يصفعون إلا بعد ثالث مره ، لكن لا بد أن أجيب :

.. قال رمزي وهو يتأمل نقوش السجادة الثمينة أسفل قدميه :

_ سعادتك قلت بأن الدين ينهاني عن الكذب ولهذا أصمت .

_ أقدر فيك رجولتك ، وصداقتك لرشاد ، وأعدك بأنه لن يلحق به أي أذى فاطمئن.

هل تكون أخطأت يا رمزي عنوان المكتب ، هل من المعقول أن يكون هذا مكتب حامد النجار ، وهل الجالس خلفه صاحب الابتسامة وكوب الليمون المثلج هو حامد النجار ، أم أن المخرج يتلاعب بأعصاب الجمهور .

 قال رمزي وشبه دمعة في عينيه:

_ هل تظن سيادتك أنني أخطىء عندما أخاف على صديق مثل رشاد أعلم أنه التقوى تسكنه .

_ لا لم تخطىء ، وقلت لك صادقا أنني أقدر فيك رجولتك وشهامتك وأكرر ثانية ، أنت وصديقك في الأمان ، فقط أريد أن أتحدث معكما بعض الوقت ، ولكي تطمئن لن أحدد لكما موعداً لحضوركما ، يمكنكما الحضور في أي وقت يناسبكما ، إذا أحسستما بالخوف فلا داع للحضور ، لن يتعرض لكما أي مخلوق بالأذى ، فقط أرجو أن تحضرا كزائرين ويمكنك أن تنصرف الآن .

نهض رمزي وهو يشعر بعقله يتوه منه في دهاليز رأسه ، رفع يده بالتحية لحامد النجار ، لم يصدق أنه يرد على تحيته بأكثر من إيماءة من رأسه ، جاهد حتى وصل للباب والتفت ثانية وهو يرفع يده بالتحية وتلقي إجابتها ابتسامة . خرج ووجد الجوكر كالكلب الذليل أمام الباب ، لم يلتفت حتى إليه ، لم يجبه على سؤال خيل إليه أنه يسمعه خافتا من بين شفتيه ، لماذا يجيب هذا العبد وقد أصبح سيده صديقا له ، أخذ يتمتم وهو يهبط في المصعد محدقا في المرآة في وجهه كأنه يراه لأول مرة ، قصة خيالية أبدع المخرج في إخراجها ، كوب من الليمون المثلج وابتسامة في مكتب حامد النجار ، هل يعقل هذا ؟!. 

*********

       غير المتوقع والذي أصاب نادية بالدهشة ، أن تجد أخاها الضابط خالد وصديقه الضابط وائل بجانب سلم الطائرة في انتظارها ، لم تخبرهما حتى بسفرها فكيف علما بوصولها ، دفعها الفضول لأن تسأل خالد .

_ من أين علمتما بخبر قدومي اليوم ؟

أجاب وائل بتذلف :

_ هل تُخفى تحركات نجمة مشهورة كالفنانة ناديه كرم .

ضحك خالد ضحكته التي لا تحمل أي معنى وقال :

_ وهل يصح أن أترك شقيقتي الفنانة تنهي إجراءاتها ، وأخيها ضابط تُفتح أمامه الأبواب المغلقة .

كادت ناديه أن تصحح قوله وتكمله بقولها ، أن ما يُفتح أمامه الأبواب غير الشريفة فقط ، آثرت الصمت ، وخاصة أمام عادل وصديقتها ميرفت وأسرتها واكتفت بابتسامة باهتة . افترق عادل وأسرته بعد انتزاع وعد مؤكد من ناديه بزيارة قريبة . أحست ناديه وهي عائدة بالسيارة الحكومية التي يقودها خالد بنفسه ، بنظرات صديقه وائل الذي يجلس خلفها تنفذ من منتصف ظهرها وتحاول الخروج من بين نهديها ، تجاهلته وسألت خالد عن أخبار أسرتها ، هز كتفيه دون مبالاة قائلا.. كما هي ، لا جديد ، أمك كالعادة في معركة مع الأيام للبقاء في مرحلة الصبا ، وأبوك لا يزال يعبث بشاربه المستقيم ، أما علي فلا يمر يوم إلا وأجد نفسي متورطاً في ستر فضيحة من فضائحه التي لا تنتهي ، صمت خالد بعدها ، بادرته ناديه بالسؤال.

_ ورشاد ؟

نظر إليها خالد متعجبا وقال :

_ رشاد ؟ أنا الذي يجب أن أسألك عن رشاد ، تمرد علينا وجلس بجانبك ، لا يهتم حتى بالسؤال عنا بالهاتف .

اطمأنت ناديه بعض الشيء ، لو حدث لرشاد مكروه كان خالد سيعلم به ، وهو الآن إما أنه لا يزال مختبئاً عند صديقه رمزي أو بإذن الله ستلتقي به الآن في المنزل .

حاول وائل أن يثرثر في الطريق ، وأن يطلق ظرفه ، صمت عندما وجد الصمت على لسان ناديه ، لم تعر وجوده اهتماما  . لم تصدق عيناها عندما شاهدت رشاد وصديقه رمزي ينتظرانها بالمنزل  ، نظرت إلى رشاد لائمة وقالت :

_ ألا تأتي لانتظار اختك بالمطار .

لاحت في عيني رشاد نظرة متهكمة وهو ينظر ناحية خالد وصديقه وائل قائلاً:

_ لست أنا أو رمزي من كبار رجالات الدولة حتى نعلم بأخبار وصولك .

نظر خالد إليه بغيظ لنبرة التهكم البادية في صوته وقال :

_ عليه أولاً أن يسأل عن أبيه وأمه وإخوته قبل أن ينتظرك بالمطار ، اردف في محاولة للتودد ، ولو كان حتى سأل بالهاتف علينا لأخبرته بميعاد وصولك واصطحبته معي .

استأذن خالد ووائل في الانصراف لترك ناديه تستريح وقال خالد مستظرفا :

_ سنعود ثانية بعد أن تنالي قسط من الراحة ، لن نترك حقنا فيما أحضرت من الهدايا .

قال وائل وابتسامة زيفاء :

_ أنني سأحضر ليس من أجل الهدية ولكن للاطمئنان عليك .

شيعتهما ناديه بعلامة استفهام مرسومة فوق وجهها ، نظرت إلى أخيها ورمزي وقالت ولم تزل علامة الاستفهام في موقعها :

_ ماذا تظنان وراء هذه المظاهرة الكاذبة ، هل لحامد النجار إصبعاً فيها ؟

_ لا نظن.. قالها رمزي ورشاد في فم واحد .

قالت ناديه وعلامة استفهام أخرى وقفت إلى جانب الأولى :

_ ومن أين أتيتما بهذه الثقة في عدم الظن بحامد النجار ؟ تلعثم رشاد ورمزي وهما يتبادلان النظرات ، بادر رمزي بالإجابة مراوغا :

_ لو حامد النجار وراء هذا لحضر بنفسه ، أو على الأقل أرسل الجوكر نيابة عنه .

هزت ناديه رأسها ، إحساسها يقول  بأن هناك شيئا لم تفهمه حتى الآن ، ثم نظرت إلى رشاد وقالت:

_ لم تخبرني حتى الآن عن سبب بحث الشرطة عنك ، وهل لم يكن حامد النجار وراء هذه أيضا ؟

أجاب رشاد بثقة شديدة :

_ بالفعل لم يكن حامد النجار ، لم يعدو سوء فهم من الشرطة في أن أكون متطرفا دينيا لأنني أطلق لحيتي .

نفضت ناديه رأسها وقالت مبتسمة :

_ دعونا من هذا كله الآن وتعاليا أريكما الهدايا التي أحضرتها لأخي العزيز وصديقه المخلص ، واستمتع بشعور العودة للمنزل .

قال رشاد وهو يغمز بعينه :

_ أليس هناك هدايا لشخص آخر عزيز؟

قالت ناديه عالمة بما يلمح إليه أخوها:

_ وهل هناك من هو أعز منكما؟

أجاب رمزي ضاحكا :

_ نعم .. هناك من ينتظر عودتك على أحر من الجمر .

قالت نادية ضاحكة :

_ ولماذا تراوغا أيها الماكران ، ولما لا تقولان أنه سليم .

 

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************