عبد المنعم سعيد يكتب: الثورة الخضراء!

عبد المنعم سعيد يكتب: الثورة الخضراء!
عبد المنعم سعيد يكتب: الثورة الخضراء!

من تابع أزمة السفينة «إيفر جيفين- Ever Given» فى قناة السويس سوف يجد اسمها هكذا على الخط الأعلى منها يمينا ويسارا بينما يوجد على جانبها لافتة كبيرة تقول «إيفر جرين Ever Green»، وسبب ذلك خلطًا لدى كثيرين حول أى منهما يمثل اسم السفينة. المؤكد أن الأول هو الاسم التى تعرف به الحاملة الهائلة لمئات الأطنان من البضائع، ومعناه «المعطى الدائم» بينما الشعار الثانى يعنى «الأخضر دائما». كلا العنوانين يعنيان العطاء الذى يأتى من الأرض ويقدم غذاء عضويا يغذى البشرية ويجعلها أكثر صحة وعافية.

كلاهما يعنى قدرا من الثورة على تراث بشرى جعل الصناعة على ضرورتها فى تحسين أحوال البشر كانت لها نتائج خطيرة الآثار على كوكب الأرض بما ولدته من ملوثات عرضت الإنسان لأمراض عدة؛ وما سببته من «احتباس حرارى» مازلنا لا نعلم المدى الذى سوف يأخذه فى دمار الكوكب. لا أدرى بالطبع عما إذا كانت السفينة فيما تحمله من بضائع مخلصة لذلك القدر من العطاء الذى ترفع اسمه ولا فتته، وإنما المؤكد أنها تدعو له فيما بات نوعا من الدعوة العالمية للعودة مرة أخرى إلى نوع جديدة من الثورة الزراعية التى تعيد المحاصيل إلى بكارتها الأولى وخلاصها من الكيماويات والملوثات الأخرى التى قد تعطى محصولا أوفر، ولكنها تهدد صحة الإنسان بأمراض متعددة.

وربما لم يكن فى الأمر مصادفة عندما أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى مبادرة كبرى لإنشاء «الدلتا الجديدة» التى تقع غرب الدلتا القديمة وممتدة على وجنوب الساحل الشمالى على محور الضبعة، ومساحتها مليون فدان يضاف إلى الرقعة الزراعية المصرية، كما يجتمع مع مليون ونصف المليون فدان جرى العمل فيها خلال السنوات الخمس الماضية فى سيناء ومحافظة المنيا ومناطق متفرقة بين الوادى القديم والآخر الجديد. «الثورة الخضراء» الجديدة لا تشمل فقط استصلاحا لأراض جديدة، وإنما تضم أيضا استغلالا أمثل لأراض قديمة من خلال الاستخدام المتقدم لتكنولوجيا الصوبات الزراعية، وتكنولوجيات الاستخدام الأمثل للمياه سواء كانت تلك الجديدة أو التى جرى استخدامها من قبل وتمت عمليات تنقيتها وتحليتها حتى تكون صالحة للاستهلاك الآدمى والتنمية الزراعية.

الإعلان عن المبادرة جرى أثناء إدارة أزمة السفينة، وكان فيها إشارة لمن هم داخل مصر وخارجها أن السفن فى مياه البحار والممرات المائية قد تجنح، ولكن ما تعتزمه مصر بشأن مستقبلها غير قابل للجنوح، وهناك ما يكفى من العزيمة والإصرار لاستمراره. على أى الأحوال فقد خرجت السفينة من جنوحها، وبات الآن واجبا رصد هذه الإضافة الجديدة إلى الثروة المصرية، وما تفتحه إدارتها من فرص للعمل، وموارد تضاف إلى الموارد القومية نقدا أجنبيا عند التصدير، ومحليا عند الاستهلاك. ما سوف يخرج عنها من فرص للتصنيع الزراعى والتحديث ضمن مبادرة «حياة كريمة» تضيف دفعا آخر لإدخال الريف المصرى، والفلاح المصرى، والإنسان المصرى، إلى نوعية جديدة من الحياة الحديثة لم نألفها من قبل. عدم الألفة هذه كثيرة ما تدفع بنا إلى أنواع من الحيرة والبلبلة عرفنا بعضا منها منذ بدأت المسيرة المصرية الحالية فى أعقاب ثورة يونيو ٢٠١٣.

فعندما بدأ بناء شبكات الطرق الجديدة كان التنويه دائما عما هو واجب من إصلاح الطرق القديمة؛ وعندما بدأت محطات الكهرباء الجديدة فى البناء كان الحديث عما إذا كان حكيما أن نبدأ بإصلاح وتوسيع عمل المحطات القديمة، وجرى المنطق على حاله عند المدن الجديدة وخاصة العاصمة الإدارية، فكان التساؤل كيف نبنى الجديد بينما القديم يتهالك، والقاهرة «التراثية» تترك لمصيرها المحتوم. لم يفلت بدء تصفية مصنع للحديد والصلب، أو تحديث مصر الجديدة، أو بناء قواعد لبناء القطار السريع أو «المونوريل» من إثارة قضية الأولويات وكيف أن جوازها غير متاح طالما أن القديم بقى على حاله أو أن الفقير لم يعد غنيا بعد.

ما تحتاجه الدول «البازغة» فى التنمية والتقدم والتحديث هو أن تقوم بكل هذه العمليات مكتملة وفى فترة زمنية قصيرة من خلال معدلات نمو عالية؛ وإذا ما اعترضتها فى الطريق أزمات للكورونا أو جنوح سفن أو صدام قطارات أو انهيار مبان فهى لا تتراجع فيما هو جديد بينما تسعى لتحديث ما هو قديم، مسترشدة فى ذلك بآخر مراحل العلم والتطور والتقدم. المعادلة صعبة بالتأكيد، ولكن من قال وفقا للتاريخ إن التقدم والتحديث من لطائف الأمور البسيطة التى تمر سهلة بلا ألم ولا وجيعة. «الثورة الخضراء» هى مكمل رئيسى للعمليات الجارية فى التصنيع والبنية الأساسية والعمران عامة أو حتى التحضير للحظة ترفع فيها غمة الوباء وتكون السياحة فى مصر ممكنة وبعشرات الملايين هذه المرة.

والحقيقة هى أن فكرة الثورة الخضراء كما رأينا فى حالة السفينة ليست حالة عالمية فقط، وإنما هى أيضا حالة إقليمية. وبينما أعلن الرئيس السيسى الثورة فى مصر، فإن ولى العهد محمد بن سلمان أعلنها فى المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط كله من خلال زراعة ١٠ مليارات شجرة فى بلاده، والسعى بالتعاون مع دول المنطقة لزراعة ٤٠ مليار شجرة إضافية. فى الحالتين المصرية والسعودية يوجد هدف توسيع المعمور، ومقاومة التصحر، وزيادة توليد الأكسجين والتقليل من ثانى أكسيد الكربون. الفكرة السعودية جديدة فى اتساعها، ولكن الحقيقة هى أن مصر بدأتها بملايين أشجار النخيل المنتجة للتمور فى الوادى الجديد ومناطق أخرى.

النظرة فى منطقة الشرق الأوسط كلها تقول بوجود قوى متعارضة ومتشاكسة واحدة منها تدور حول الصراع بكل أنواعه من نزاعات وحروب إقليمية وأهلية؛ فى مقابل السعى نحو السلام والتعاون وبناء الأمن الإقليمى القائم على دول وطنية تعرف السلام والوئام داخلها. والأخرى تقوم بين حالات للتشبث بالماضى وما فيه من تراث ورموز وشعوذة؛ وحالات أخرى ساعية للتقدم والوصول إلى مستقبل واعد بالعلم والتفوق ووصلته دول وشعوب وأقاليم قبلنا. وفى كلا الحالتين فإن الخيارات ليست سهلة أو بسيطة، وهى فى كل الأحوال صعبة ومعقدة، وما حاولته دول جنوب شرق وشرق آسيا على سبيل المثال هو المضى قدما فيما هو صعب ومعقد. الأمثلة معروفة فى الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام والهند وباقى النمور والفهود الآسيوية وهى الدول التى تملأ منتجاتها الأسواق الأوروبية والأمريكية.

فى كل هذه الدول كانت الخيارات مولدة لطاقات هائلة، ورغم كل ما يقال عن «الحرب الباردة» بين الصين والولايات المتحدة فإن شحنات الأولى للأخيرة أكبر سبع مرات من أى دولة أخرى، وتمثل ٤١٪ من كل شىء يأتى إلى الولايات المتحدة عن طريق السفن، وإذا أضيف للصين تايوان وفيتنام فإن أكثر من نصف ما يأتى إلى أمريكا يكون عن طريق الدول الثلاث. هذه الدول لم تدر الفقر، ولم تختر البقاء عند أطلال ما سبق، ولا تشبثت بشركات خاسرة، ولم تترك مجالا للثروة إلا وذهبت إليه.