حين احتل البريطانيون مصر تصوروا أن الأقباط هم نقطة ضعف المصريين، أو خاصرة مصر الضعيفة، واحتاج لورد «كرومر» سنوات طويلة ليتأكد أنه لا فارق فى مصر بين المسلم والقبطى، ويعلن فى كتابه بعد رحيله عن مصر أن المصريين يتعايشون بلا تمييز أو حساسية، وأن أحدهما يذهب صباحاً إلى المسجد والآخر يدخل الكنيسة، غير أن الذين جاءوا بعد «كرومر» لم يستوعبوا تجربته ودرسه، فعادوا إلى المربع صفر، وحاولوا العبث بهذا الملف، «فرّق.. تسد»، وكانت ثورة 1919 رداً صارماً عليهم، كانوا هم بحاجة إلى هذا الرد، لكننا كنا نعرفه جيداً، يذكر التاريخ أنه حين تعرضت شواطئ مصر وسواحلها الشمالية، عند دمياط، لغزو الفرنجة «الصليبيين»، هبّ المصريون للدفاع عن وطنهم، وكان هناك عدد من الأقباط المصريين هبوا ضمن من تطوعوا للدفاع عن بلدهم، وللدفاع عن السيد المسيح، وعن المسيحية التى حوّلها هؤلاء الفرنجة المتعصبون إلى سياسة بغيضة تهدف إلى احتلال مصر، ولذا فإن «صلاح الدين الأيوبى» أسقط الجزية عن أقباط مصر، وهذا ضمن أسباب أخرى عديدة، ضمنت له التقدير الإيجابى فى الذاكرة الإنسانية.
ولما جاء «محمد على» فى العصر الحديث، وبدأ سنة 1811 فى تكوين الجيش المصرى، تأسس هذا الجيش ليكون جيشاً وطنياً، ليس جيش طائفة ولا مجموعة بعينها، بل جيش كل المصريين، واتخذ الوالى «محمد سعيد» قراره بتجنيد كل أبناء المصريين، بلا استثناء، وبلا تمييز، وهكذا جُند الأقباط، وصارت «المواطنة» قاعدة التعامل فى مصر بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، وما زالت قاعدة «المواطنة» سارية إلى اليوم.
ولم يكن غريباً أن يأتى المتأسلمون ويسيروا على درب صنّاعهم، رجال الاحتلال البريطانى، فيقيموا أفكارهم وسياستهم على أن أقباط مصر هم نقطة ضعفها، وأنهم بالإساءة المتعمدة إلى الأقباط سوف يُحرجون الحكومة والنظام السياسى، وأنه يمكنهم إرهاب المجتمع كله باستهداف الأقباط، وهكذا وجدنا جماعة الإخوان، وهى من اختراع الاحتلال البريطانى فى الإسماعيلية، تستهدف كنيسة بالإحراق فى السويس، وأخرى فى الزقازيق، مما دفع القمص «سرجيوس» أن يتهم بشكل مباشر وبالاسم «حسن البنا» بأنه هو الذى أمر بإحراق كنيسة الزقازيق، أعقب ذلك كتابة عبارات بذيئة على أبواب بيوت بعض الأقباط فى شبرا، نهاية الأربعينات، وثبت تورط تلك الجماعة فى هذه العمليات، وكانت سبقتها بجرائم إحراق عدد من محلات اليهود المصريين، استغلالاً للغضب العام من قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، ثم حرب 1948، هذه ليست وقائع وحكايات فى ذمة التاريخ، نتذكرها للتسلية، لكنها صارت منهجاً لتيار بأكمله من الإرهابيين، يسيرون عليه جميعاً، ولأن المجموعات الإرهابية كلها توالدت من جماعة الإخوان، ونشأت فى أحضانها وعلى حوافها، فإنها جميعاً تسير على خطاها، فى سنوات الإرهاب، أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، من القرن الماضى، استهدفوا ممتلكات الأقباط ومحلاتهم، بنظرية «الاستحلال»، ولك أن تتخيل جماعة تضع نظرية تبيح السرقة والاعتداء على ممتلكات وأموال بعض المواطنين، وتأخذ هذه الأموال تمول بها عملياتها الإرهابية، ثم اتجهوا إلى الاعتداء المباشر على دور العبادة المسيحية وعلى حياة عدد من المواطنين الأقباط، فى بعض مناطق الصعيد وفى الفيوم.
وعلى هذا النحو يسلك دواعش سيناء، أو تنظيم بيت المقدس، وإن شئت قل إنهم فرع جماعة الإخوان الإرهابية، وإنما تتغير الأسماء على طريقتهم فى الخلايا والتنظيمات العنقودية، لنتذكر مجدداً تهديد محمد البلتاجى فى منصة «رابعة العدوية»، صيف سنة 2013؛ وقبلها تهديد خيرت الشاطر، بأن سيناء سوف تصبح مرتعاً لإخوة لهم من كل بلاد الدنيا، إذا لم تظل جماعتهم جاثمة بالتزوير على أنفاس المصريين، فى مقولتهم البغيضة «نحكمكم أو نقتلكم».
من يومها ونحن نخوض «حرب الاستنزاف الثانية»، فى حرب الاستنزاف الأولى كنا نواجه جيشاً نظامياً لدولة دخلنا معها فى سجال عسكرى أوله وآخره معروف، لكننا هذه المرة نواجه تنظيماً دولياً، له أذرع فى أكثر من ستين دولة، وله خلايا نائمة بيننا، يتم تحريكها بالريموت كنترول، وله أيضاً كتائب إلكترونية، تعبث فى العالم الافتراضى، وتهدد أمننا وسلامنا الاجتماعى.
ولأننا فى حرب، بالمعنى الكامل للكلمة، فإننا نعى أن هناك شهداء منا سوف يسقطون أو يُجرحون، لكن لدينا إصراراً على دحر هذا الإرهاب، خاصة أن العالم بدأ يستفيق ويدرك أن الحرب تطال الجميع، وأن الإرهابيين أرادوها حرباً مفتوحة معنا ومع الإنسانية كلها، صحيح أن مصر نبهت مبكراً إلى خطورة تلك الحرب، ولم يأخذ العالم التنبيه بجدية، لكنهم انتبهوا أخيراً، خاصة بعد العمليات الإرهابية التى جرت فى أوروبا، فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وبعد صعود الإدارة الأمريكية الجديدة التى امتلك رئيسها «دونالد ترامب» جسارة أن يفصح بالمسكوت عنه، وهو أن جماعة الإخوان «جماعة إرهابية».
استهداف أقباط العريش يعنى أن الإرهابيين وصلوا إلى جنونهم الأخير، استهدفوا جنود وضباط الجيش، ولم يفلحوا، وكذلك ضباط ورجال الأمن، حاولوا يوم الأربعاء 1 يوليو 2015 احتلال مقر لهم فى منطقة الشيخ زويد، ودكهم أفراد كمين «الرفاعى» من رجال قواتنا المسلحة ببسالة ليست غريبة عليهم، آخر ما فى جعبتهم تلك هم الذئاب المنفردة، يهاجمون بعض المواطنين الأقباط، ويقتلونهم، عن تصور أنهم بذلك ينتقمون منا جميعاً، وأنهم سوف يرهبوننا؛ لقد واجه المصريون، من قبل، ما هو أنكى، وأمكن لنا الانتصار، واجه المصريون جميعاً، مسلمين وأقباطاً.. رجالاً ونساء، فى ثورة 1919، بريطانيا العظمى، التى لم تكن الشمس تغيب عنها، وكانت لتوها خرجت من الحرب العالمية الأولى منتصرة، واجهنا قوة بريطانيا العظمى، كما واجهنا نظريتها «فرّق.. تسد»، التى يحاول عملاؤها وصنائعها منذ حسن البنا العمل بمقتضاها إلى يومنا هذا.
سوف يذهب هؤلاء حيث ذهب لورد كرومر وكتشنر وحسن البنا وسيد قطب وشكرى مصطفى وغيرهم، سوف يذهبون، ويبقى المصريون، مسلمين وأقباطاً.
نقلا عن صحيفة الوطن