إدوارد فيلبس جرجس يكتب: الهروب الكبير

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: الهروب الكبير
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: الهروب الكبير

أن تكسر القيود التي حجرت علي حريتك لمدة تقرب من العامين ، هو انتصار ، أو هروب من هزيمة نفسية . نعم هو الهروب الكبير بالفعل ، وقد يكون أكبر مما حدث في فيلم الهروب الكبير ومحاولات هروب الأسرى للهروب من الأسر خلال الأنفاق التي حُفرت بأيديهم  ، الهروب من صعوبات مرئية يحسب حسابها قد يكون أقل مخاطرة  من الهروب من وجه فيروس لا يُرى ولا يرحم ، رحلتي إلى مصر في هذا الوقت تعتبر هروبا كبيرا مع محاولات لكسر القيد الذي ظل يأسرني منذ بداية كورونا  ، قيد كورونا ومحاولات الذهاب إلى الوطن .. إلى مصر ..  مرتان حجزت فيهما تذكرة  الطائرة ، وفي كل مرة تلغى ، الأولى كانت في الخامس من أغسطس 2020 والثانية في العشرين من فبراير 2021 ، وبين توقف الرحلات  بين مصر وأمريكا ووقوف الأسرة في وجهي وتوسلاتهم أن لا أرمي نفسي في التهلكة كما يسمونها عندما عاد الطيران أحسست بمرارة الأسر  ، نعم فالرحلة أمام ما يسمعونه ويرونه بل ويشاهدونه تعتبر رحلة الذهاب إلى التهلكة أو المجهول ، نعم سأقول أن عاطفتي أمامهم أرغمتني عن التنازل عن السفر ولن أتحدث عن الغرامة الثقيلة التي فرضتها شركة الطيران المصرية عند إلغاء التذكرة في كل مرة والتي أصبحت مبالغا فيها بكل المقاييس وكأنها تعوض خسارتها أو تزيد من أرباحها بهذه الصورة غير المقبولة والمرفوضة تماما والتي يجب أن تراجعها شركة الطيران وتفرض غرامة مناسبة ومعقولة . في المرة الثالثة قررت أن يكون الأمر مفاجأة للجميع حتى لا تكون إلغاءً ثالثا بعده أشعر بأنني لم أعد أنا وأن قرارتي أصبحت في مهب الريح ، فوجئ الجميع بموعد سفري قبلها بعدة أيام وبالرغم من أنني حصلت على التطعيمات بدأت المناوشات بأن مصر ارتفعت فيها الإصابات الآن بشكل كبير بل وتسربت أشاعات بأن الفيروس الهندي المحور قد وصل إلى مصر وبدأ شغله ، لكن هذه المرة وضعت حاجزا حديديا بيني وبين مناوشاتهم ، وجعلت من أذناى واحدة من طين والأخرى من عجين كما يقولون في الأمثال ، رضخوا أمام اصراري وكم كنت سعيدا وأنا في مطار جون كينيدي بنيويورك وأحسست بأن إرادتي لم تهرب مني بعد  !!، ولأنها الرحلة الأولى بعد ما نشر فيروس كورونا رعبه على الجميع بل وعلى جميع العالم بلا استثناء قررت أن أسرد تفاصيلها بدقة وإسهاب . لا شك أن الإرهاب وكورونا حولوا رحلة السفر إلى شئ متعب ومجهد وممل ، الإجراءات الأمنية ثقيلة خوفا من وجود إرهابي داخل الطائرة ليقوم بعمل من أعمالهم البربرية الوحشية بعد إقلاعها وقد يتكرر الحادي عشر من سبتمبر مرة أخرى ولذا نعطي بعض الحق أو الحق كله في الخطوات الأمنية التي يواجهها المسافر كنوع من المحافظة على النفس أولا ثم سلامة الركاب جميعا أو سلامة أي بلد قد يعن للإرهاب  ضرب منشآتها كم حدث في أبراج نيويورك ، وجاءت كورونا لتزيد المتاعب والإجراءات ، فلا بد أن يكون المسافر حاملا لشهادة ال P C R  أو خلوه من كورونا  حتى لو كان حصل على جرعتي التطعيم ، ولو أن هذه أصبح مشكوكا فيها لأن سلطات المطار في القاهرة اكتشفت أكثر من راكب يحملها وهو مصاب بالكورونا ، أما الطامة الكبرى ففي هذا الشئ الغبي الذي يسمونه الكمامة والتي تذكرني بتلك الكمامة التي كانت توضع على وجه ثور الدراس ، يمكن تحملها لبعض الوقت عند قيام الإنسان بالتسوق وخلافه ، أما أن تُطبق على الأنفاس لمدة تزيد عن 15 ساعة بين مطار القيام والطائرة ومطار الوصول فهو شئ فوق الاحتمال وحتى الوقت الذي كان يستطيع الإنسان أن يغفو فيه قليلا أثناء الرحلة أصبح صعبا وهذه الكمامة تقبع فوق الوجه ثقيلة وقد يضطر المسافر إلى بقائها ليس كتعليمات فقط لكن خوفا من أن يكون بين المسافرين من يحمل الفيروس وهذا وارد فغياب الضمير قد يدفع البعض إلى تزوير شهادة خلوه من الفيروس كما حدث مع هذا الهندي الذي ضبط بعد أن وصل إلى مطار القاهره وهذا يعني أنه طوال الرحلة كان مخالطا  للمسافرين معه على نفس الرحلة وليس ببعيد أن يكون نقل العدوى إلى الكثيرين  واعتقد أن هذه الواقعة حدثت أكثر من مرة . الحديث عن الطائرة يجب أن ينال من الاهتمام الكثير ليس نقدا بل يمكن أن يكون وجهة نظر مسافر ينقلها إلى شركة الطيران كنوع من الملاحظة لصالحها أو لصالح المسافر . من المعروف أن شركة الطيران أنقصت عدد رحلاتها الأسبوعية منذ عودة الطيران بعد انتهاء الحظر فأصبحت ثلاث أو أربع رحلات في الأسبوع لست متأكدا بعد أن كانت بواقع رحلة كل يوم ، قد نلتمس لها العذر أو لا نلتمس ، أيضا أقول لتقليل الخسارة أو لزيادة الربح مما أدى إلى امتلاء الطائرة عن آخرها بدرجاتها الثلاث أي أصبح العدد كاملا ولا يوجد بها أي مقاعد خالية   ، لأن البعض أو الأغلبية يفضلون الرحلة المباشرة ولا يميلون لرحلات الترانزيت ، التي تتوقف فيها الطائرة مرة أوأكثر وذلك تفاديا لضياع الوقت أو ملل الانتظار في المطارات أو خوفا على ضياع حقائبهم ، ومع نقص عدد الرحلات والإضطرار للسفر سواء كتمضية عطلة مع الأهل بمصر أو للعمل ،  أصبحت الطائرة ممتلئة تماما ، وللأسف مع هذا الامتلاء وبصورة قطعية انتفى شرط التباعد الاجتماعي وقد تلاصق المسافرون بجوار بعضهم وأصبحت الكمامة " شئ لزوم الشئ " أو كشكلية لا بد منها ، فهي تُرفع عند تناول الوجبات أو المشروبات وأعتقد أن الفيروس لا يحمل الكياسة وينتظر في حالة سكون مراعاة للذوقيات أثناء هذه الفترة ومع احتمال وجود واحد أو أكثر ولأي سبب من الأسباب يحمل الفيروس وهذا وارد تصبح العدوى واردة أيضا ، لكن ما يثير الضحكة الساخرة هي مجموعة التعليمات التي تنطق بها المضيفة أو تظهر على الشاشة الرئيسية أو الموجودة بظهر كل مقعد والتي أسميتها الوصايا العشرة ، من ضمنها وصيتان إحداهما تطالب المسافرين بمراعاة البعد الاجتماعي عند الذهاب إلى دورات المياه والثانية بمراعاة البعد الاجتماعي عند الخروج من الطائرة ، سألت ولم أجد إجابة عن البعد الاجتماعي خلال الرحلة والمسافر يكاد يلتصق بالمسافر الذي بجانبه مع وجود فترات نزع الكمامة أثناء تناول الوجبات أو المشروبات أو احتمالية انزلاق الكمامة من فوق الأنف لو استطاع المسافر أن يغمض عينه ، في الحقيقة اعتبرتها  تعليمات  فقط من أجل جلب الابتسامة أو بالنسبة لي للسخرية ، ولا مانع من أن أكرر أنها مضحكة ، لكن  الأكثر إضحاكا عندما أعلن المضيف من خلال مكبر الصوت عند قرب نهاية الرحلة وبدأ هبوط الطائرة أنهم سيقومون بتبخير الطائرة بمادة لا تؤذي الإنسان بعدها شاهدت مضيفا في كل ممر يقطع الطائرة بطولها وكلا منهما يحمل قنينتين يرفعهما فوق رأسه تنبعث منهما أبخرة ولم أعرف هل هذا لتبخير الطائرة أم الركاب وما جداوه !! ، هذا مالم أعلمه  فالمفروض أن الطائرة ستجرى لها عملية تنظيف كاملة بعد هبوطها وقبل قيامها برحلة أخرى أما لو كانت للركاب فهي من المؤكد مزحة وربما تكون من أجل إيحاء باطل بأن كل شئ على مايرام بالنسبة للوقاية ، هذه ملحوظات بالنسبة للطائرة لكن لا يفوتني أن أقدم الشكر على المجهود المبذول ، لكن يبقى موضوع التباعد الاجتماعي بالنسبة للمقاعد كملحوظة وخاصة في هذه الفترة التي لم يتم فيها تطعيم الجميع مع بقاء الفيروس على قوته وندعو الله لسلامة الجميع . في مطار القاهرة يجب تقديم كل الشكر، مجهودات كبيرة تُبذل في صالة الوصول لراحة الجميع . تبقى لحظة الوصول إلى أرض الوطن ولقاء الأحباء بعد غيبة طويلة فرضتها كورونا رغم أنف الجميع ، أيام ثقيلة نرجو الله ألا يعيدها ، وأن يبسط رحمته وينهي هذا الفيروس لتعود الحياة إلى طبيعتها . قررت فور وصولي أن أعزل نفسي لمدة أسبوع بالرغم من أني حصلت على التطعيمات ، ليس خوفا على نفسي لكن الخوف على الآخرين فربما أكون حملت عدوى من الطائرة أو في المطار ومر الأسبوع على خير وبدأت أول جولة في شوارع القاهرة ، بعدها أقسمت أن هذا الشعب يسير بقدرة الله ، قرأت كثيرا عن الحملات التفتيشية بالنسبة للكمامة والبعد الاجتماعي والحذر والحيطة قبل حضورى من خلال وسائل الإعلام لكني اكتشفت أن وسائل الإعلام لا تزال تعمل من خلال ميكروفونات مزيفة ، الكمامة لم أرها سوى على وجوه تدرك معنى الإصابة بكورونا أما الأغلبية في الشوارع بالرغم من ازدحامها كعادة القاهرة ومحلات البيع والشراء المزدحمة أيضا ، أو بعض المؤسسات الحكومية أو الخاصة أصبحت تنظر إلى الكمامة على أنها الفساد بعينه ووقانا الله من شره ولا يجب حتى تقريبها من الوجه أما البعض الآخر أشكره لأنه أضحكني أ وهو يضعها كموضة فهو ينزلها حتى مستوى ذقنه ، أي كالتي رقصت على السلم لا اللي فوق شافوها ولا اللي تحت شافوها أما البعض الذي حتى الآن لم يوضح له أحد طبيعة وقوة الفيروس فبالرغم من أنه  يضع كمامة من النوع الرخيص التي يجب أن تبدل كل مرة إلا أن شكلها يدل على أنها استعملت منذ فترة طويلة وقد تغير لونها نتيجة الغبار والأتربة ، الحقيقة أن الناس تقمصت اللامبالاة بشكل مخيف ، وعلى سبيل  المثال اضطررت إلى استدعاء عامل لإصلاح بعض الصنابير غير المحكمة نتيجة عدم استعمالها لفترة طويلة وفوجئت بأن العامل لا يستخدم كمامة ولم يفكر حتى بخلع الحذاء عند الباب لأني أعلم أن الحذاء من أكبر الوسائل التي تنقل العدوى  ، سألته عن الكمامة ضحك ضحكة ساذجة قائلا : أنا معرفش اشتغل وأنا لابس الكمامة ،  أوقفته عند الباب وأعطيته كمامة من  التي أحضرتها معي وأمرته بخلع الحذاء وإلا فليذهب إلى حال سبيلة واستدعي عاملا آخرا ربما يكون ملتزما ، اضطر صاغرا أن يضع الكمامة على وجهه وأن يخلع الحذاء وسكبت على يديه بعض الكحول قبل أن يلمس أي شئ ، راقبت نظراته وكأنه ينظر إلى إنسان وصل لتوه من كوكب المريخ ، ويبدو أنه اعتبر هذا تعنتا مني أو معاملة ظالمة فبالغ في الأجر ، المضحك أنه عند الباب خلع الكمامة لكي يرجعها لي فقلت له إما أن يأخذها لنفسه أو يلقيها في صندوق القمامة فقال وكأنه يهرب من السجن أنه لم ولن يستعملها في أي منزل يذهب إليه ، واحد من البشر لا يدرك أنه هو وأمثاله السبب في كثير من الضحايا التي لم يعلن عن أعدادهم الحقيقية للأسف . حقيقة أصبحت أتوجس كلما فكرت في الخروج والتعامل مع بشر حتى الآن لا يدركون أو لا يفكرون أن إصابة واحدة يمكن أن تؤدي إلى إصابة المئات وأطالب بتشديد الرقابة أكثر من ذلك وأن تكون بجدية أكثر فلقد سمعت عن الكثيرين الذين غابوا عن الحياة نتيجة هذا الإهمال ، أعذر الدولة التي تبذل قصاري جهدها لتفادي الإصابات أو علاج من أصيب لكن أمام استخفاف الناس وعدم تقديرهم للمسئولية تتسع رقعة الإصابات ويزداد الضحايا . نقطة عجيبة أن بعض الناس وللأسف الكثير من المتعلمين لا يزالوا يشككون في اللقاحات ويرفضونها ولله الأمر من قبل ومن بعد . حفظ الله مصر وحفظ شعبها ، لكن لا يزال يلزمنا الكثير في مجال توعية المواطن ليس من أجل كورونا فقط لكن في الكثير من أوجه الحياة الأخرى ، فليس من المعقول أن الدولة تحاول البناء والبعض لا يزال يهدم إما بجهل أو عدم الانتماء ، ولذا أكرر أن بناء الإنسان يجب أن يكون أولا .

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

********************