أيمن السميري يكتب: مسافة بين اليابان ومصر

أيمن السميري يكتب: مسافة بين اليابان ومصر
أيمن السميري يكتب: مسافة بين اليابان ومصر

في المدخل الرئيسي لدار السفارة المصرية بالعاصمة اليابانية طوكيو، تحتل صورة فوتوغرافية كبيرة بالأبيض والأسود صدر حائط البهو المؤدي إلى صالة الاستقبال. الصورة التي تحول لونها قليلا إلى لون يميل إلى الحمرة القانية بفعل الزمن، التقطت في نهايات القرن التاسع عشر وتحديدا فى عام 1862 ليابانيين ومن خلفهم تمثال أبي الهول.

الصورة الفريدة تصور البعثة اليابانية، التي تكوّنت من نخبة الساموراي وعددهم 34 فردا، الذين وفدوا إلى مصر بأوامر من الإمبراطور ميجي شخصيا للتعلم واستلهام تجربة محمد علي في بناء نهضة مصر الحديثة. عُرف عن الإمبراطور الانفتاحي ميجي أنه كان معجبا أيما إعجاب بالقائد العسكري محمد علي وبتجربته المبهرة في إنهاض مصر وإخراجها من ظلمات وخرافة العصور الوسطى إلى رحابة التمدن والعصرنة.

الصورة محفوظة مع يوميات زيارة البعثة بمكتبة البرلمان اليابانيالدايت، حيث تسجل اليوميات أشياء طريفة، مثل حالة الانبهار التي اعترت أفراد البعثة لركوبهم القطار للمرة الأولى في حياتهم، ودهشتهم لسرعته في المسافة من السويس إلى القاهرة، والصدمة الحضارية للبعثة، عندما علموا أن في مصر خدمة تسمى التيلجرام أو التلغراف، يمكن من خلالها أن يقوم شخص بإرسال رسالة موجزة بشكل لحظي إلى شخص آخر في مدينة بعيدة، عبر الساموراي عن إعجباهم بنظافة الحمامات العمومية في القاهرة وجمال وتنسيق شوارع منطقة وسط البلد.

بدا الأمر بالنسبة لي كمصري باعثًا على التفاخر، وأنا أتحدث إلى دبلوماسي ياباني عاشق لمصر وقضى بها أكثر من عشرة أعوام خلال ثمانينات القرن الماضي، وأنا أتقمص دور المرشد الثقافي وأحكي له قصة بعثة الساموراي، الذين تعلموا من تجربتنا واستلهموا مقومات نجاحها. كان الدبلوماسي يشارك في احتفال أقامته السفارة المصرية بمناسبة وصول عدد الذين زاروا معرض توت عنخ أمون الزائر لليابان إلى مليون زيارة.

علق على حماسي المفرط وتفاخري بما كان عليه وطني من رقي وتحضر بالإقرار بتلك الحقيقة، بل وأضاف أن ما وصلت إليه اليابان من تقدم كان في كثير منه استلهاما لحضارة مصر وحضارات آسيا القديمة، ولكن هناك الكثير الذي يتعين على مصر عمله لاستعادة مسار الصعود، ونفض تراب التخلف عن وجهها، وأهم شيء ينبغي عمله هو العمل في صمت وإصلاح التعليم ومهارات الأفراد.

سرد الدبلوماسي قصة إشرافه على مراحل بناء دار الأوبرا المصرية بمنحة من حكومة اليابان، وكيف أنه لمس عن قرب طبيعة الشخصية المصرية من خلال قربه من العمال، وما خبره عن طبائع البشر في مصر من ميل إلى الاستسهال والتواكل وأحيانا الكسل، وأن التحدي الأكبر لأي قائد يريد النهوض بمصر، هو استنهاض روح مصر الغائبة منذ مئات السنين، تلك الروح المبدعة التي ابتكرت للعالم نظم الري والزراعة والمعمار، وأنه لا بديل عن نظام تعليمي ثوري، يحتفي بالإبداع والمهارات، وليس بالحفظ والاستظهار والنجاح والرسوب، والأهم أن يكون هذا النظام مستجيبا لحاجات التنمية التي تحتاجها البلاد.

راح الرجل يعدد مشاكل مصر ويقدم وصفات الإصلاح وكأنه يعيش في مصر ويعرف دقائق عثراتها وقال إن هيئة التعاون الدولي اليابانية جايكا قدمت لمصر خططا للتعامل مع أغلب مشاكل مصر بدعم فني ومادي من اليابان وبعض هذه الخطط ذهبت أدراج الرياح وأدراج المكاتب أيضا.

بعد وقت نسيت موضوع صورة بعثة الساموراي التي زارت مصر لتتعلم، وأنا أنصت كالتلميذ للدبلوماسي الياباني المتمصر والخبير في الشأن المصري، قبل أن أتحرك للمشاركة في حدث ترويجي سياحي لمصر بمدينة كيوتو الأثرية اليابانية، التي وصلت إليها من طوكيو العاصمة، مستخدما القطار الطلقة فائق السرعة المعروف في اليابان بإسم شين كانسن.

بدا الأمر لي وكأني انتقلت إلى كوكب آخر والقطار يطوي في أقل من ساعتين مسافة مدتها ست ساعات بالقطار السريع العادي، كنت منبهرا بشكل القطار والأهم تحضر ورقي الركاب اليابانيين وأنا أسترجع كلمات الدبلوماسي الياباني عن مصر، وأستعيد مشاهد الصدمة الحضارية لبعثة الساموراي، وهم يركبون قطار السويس القاهرة لأول مرة عام 1862 ويحضرون بيانا عمليا لإرسال برقية تلغرافية من القاهرة الإسكندرية، قبل أن يعودوا إلى بلادهم محملين بالدهشة والانبهار.

ما بين اليابان ومصر قصة لا تخلو من مفارقة ولكنها أيضا لا تخلو من دروس التاريخ، دروس عن العمل والعلم والإصرار على النجاح والأهم الإصرار على إعادة اكتشاف الذات اليابانية المحاربة، المتحدية لظروف العزلة ونقص الموارد الطبيعية فكان رهانها الوحيد هو الإنسان الذي صنع المعجزة، وانتقل بها من قطار السويس القاهرة إلى قطار شين كانسن الطلقة الذي وصل إلى المدينة التاريخية الأثرية كيوتو ليخبر الأجداد اليابانيين أن الأبناء على خطاهم سائرين.