صموئيل نبيل أديب يكتب: نبيل و أمين

صموئيل نبيل أديب يكتب: نبيل و أمين
صموئيل نبيل أديب يكتب: نبيل و أمين

سألته ذات مرّة، لو عاد بك الزمان 30 عاماً… هل كنت ستهتم بالدكك؟

كان ذلك بعد أن أجرى آخر عملية له منذ 7 سنوات . يومها كان يبيت في المستشفى.. لمحت في عينيه دموعاً.. لم أعرف هل هي بسبب آلام الجراحة أو حسرة على الزمن الماضي.. .بعدما قضى معظم سنوات عمره على السرير في المستشفيات و بين الأطباء..

الأستاذ نبيل أديب .. جيل عبد الناصر والثورة...الذي يرى أن الله سيحاسبنا بمعيار " كن أميناً حتى المنتهى" .. المعلم الذي أوكلته الوزارة بمهمة الإشراف على لجان الامتحانات.. فذهب إليها.. ليكتشف أن( دكك التلاميذ ) معظمها مكسورة.. فيعترض.. كيف سيكتب التلاميذ إجابات الأسئلة التي ستحدد مصيرهم ومستقبلهم وحياتهم على( دكة) لا يستطيعون حتى أن يجلسوا عليها..!!

ليستدعِ باقي المدرسين و الفراشين ويحاول تصليح بعضها في مهمة سستغرق ساعات .. بمسمار هنا وتعديل هناك.. يرفع مع الفراش هذه فهي مهشّمة تماماً و يحضّر أُخرى .. بينما يفعل ذلك أصدر عموده الفقري صوتاً و سرت كهرباء في كل جسده.. ليصرخ من الألم… يتحامل على نفسه يومان قبل أن يعود إلى المنزل محمولا في سيارة إسعاف.. لنعرف بعدها أنه أصيب بانزلاق غضروفي..

 عامٌ بعد عام، قضاها والدى في المستشفيات بعدما فشلت جراحة الغضروف الأولى و الثانية وجراحات أُخرى وتسببوا له بمضاعفات خطيرة أجبرته أن يمضي بقية حياته يمشي على عكاز.. و أجبره الألم على تناول أدوية المسكنات، حتى أعلن كبده إضراباً عن العمل مرات عديدة وأعلنت الكلى أنها لم تعد تحتمل، فقررت أيضا إضراباً جزئياً.. وتغيّر مزاجه فأصبح شديد العصبية…

 و كان عليَّ أن أواجه الحياة بمفردي خارج المنزل، لأنه لن يكون معي في أي مكان، بسبب عدم استطاعته أن يجلس أو يمشي لفترات طويلة.. ولا أن يخرج معنا حتى لزيارة الأقارب في الأعياد..

 سنوات عديدة مرّت أصبحت أعرف فيها كل أسماء دكاترة العظام والكلى والمخ و الأعصاب.. بينما يحفظ الأطفال اسماء الممثلين والمغنين…..

تذكّرت كل هذا وأنا جالس على الكرسي في جواره بعد أن أجرى آخر جراحة.. سألته هل لو علم وقتها أن أمانته في عمله ستسبب له ثلاثين  عاما  من السجن في المستشفيات، هل كان سيفعلها؟؟؟! .. فجريمته ( بأمانة الفعل) كلفته سجناً تجاوز مدة سجن تاجر المخدرات.. و كلفني أننى عشت لا أحمل لقب يتيم، و إنما لا أقدر أن أُمسك يديه ، حتى في حفلة التخرج من الكلية .

لم يُجبني.. لمحت الدموع في عينيه.. لم أكن أعرف هل هي دموع ألم الجراحة أم الندم على الماضي…

بينما أكلّمه كان أخي خارج الغرفه . . لم أنتبه له إلا على صوت ممرضة و هي تقول ( الهي يسترك و ما يحوجك ابدا ) . اتضّح أن أخي لاحظ أن( فيشة ) الكهرباء في الحائط لا تعمل.. فقرر أن يصلحها و يعيد إصلاح و ترتيب الأسلاك المنتشرة في أرضية طرقة المستشفى ..

فالعرق دساس.. و بالرغم من خطورة ما فعله و إنها ليست مسؤوليته إلّا أنه قرر أن يفعلها بالأدوات التي يحملها معه دائما بحكم وظيفته كمهندس شبكات ..

عندها نظرت إلى والدي.. كان نائماً.. ولكني تخيلت ابتسامته.. بينما ترن في ذهني كلمات الممرضة العجوز وفرحتها المرسومة على وجهها بسبب فيشة كهرباء قريبة من مكتبها ستوفر لها الراحة. .

 عزيزى القارئ

لا يستطيع أحد في الدنيا أن يعوض والدي، عن سنوات أفناها بين آلامه وبين إصراره على أداء رسالته المقدسة، التي خرّج فيها أجيالاً بالرغم من مرضه، أو يعوضك أنت على أمانتك في عملك .. و لكنك مثله.. تفعل ذلك من أجل هذه الدعوة .. تحرق نفسك من أجل راحة الآخرين. . بينما نثق أننا سنقف يوماً أمام الديان العادل ليجازينا ويُجزينا بوعده الذي قاله( فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ صلاحا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ )... و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

نثق في كرمه وتعويضاته .. و على كلمته نسير