عماد أبو زيد لـ«صوت بلادي» : أرى أن كل فن بإمكانه التعبير عن صياغة آلام البشر

عماد أبو زيد لـ«صوت بلادي» : أرى أن كل فن بإمكانه التعبير عن صياغة آلام البشر
عماد أبو زيد لـ«صوت بلادي» : أرى أن كل فن بإمكانه التعبير عن صياغة آلام البشر

عماد أبو زيد: أرى أن كل فن بإمكانه التعبير عن صياغة آلام البشر  

أبو زيد: اللغة السلسة هي نتاج تراكم خبرات ومعارف 

أبو زيد: أنا غير متفق تمامًا مع شكل ومواصفات القصة الكلاسيكية 

حوار أجراه: خالد ديريك 

 

 

لم تكن لطفولته ومراحل الأولى للشباب حيز كبير للنعيم والابتسامات بل رافقه الشجن وتشتت الفكر وإحساس بالفقد في أغلب الأوقات والأيام، رغم ذلك لم يتمكن منه اليأس وقسوة الحياة، فقد اتخذ من الصبر طاقةً، القناعة عنوانًا ثم الإيمان بأن القادم سيكون أفضل، جرب عدة مجالات الإبداعية وقد نجح فعلًا في أحد أعظم المجالات بالجهد والمحاولة والمثابرة الممزوجة بالموهبة والإبداع وهو الآن كاتب وقاص وله مؤلفات عديدة. نصوصه محفزة وهادفة ويشد القارئ إليه، لا يكتب من العبث بل يصنع بحب وشغف لوحات أدبية مزركشة ناتجة عن يراع وفكر نير.  

صدر له ثمان مجموعات قصصية: وخز ـ محاولة للانفلات ـ نصل ـ وتر هارب ـ رخصة قتل ـ مدينة آمنة ـ مسألة حياة ـ نثار كئوس. نشرت كتاباته القصصية في العديد من الصحف والدوريات المصرية والعربية، إلى جانب كتابته للمقال. له مجموعة من الأعمال الإبداعية، قيد النشر.  

عماد أبو زيد كاتب وقاص مصري، عضو في اتحاد كتاب مصر والعرب. 

نص الحوار ... 

 

 

بداية، يسترسل الكاتب والقاص (أبو زيد) عميقًا في ثنايا عالمه الخاص منذ الطفولة إلى الآن، ويكشف لنا بعض التفاصيل من الواقع والأمنيات بنبرة من الألم:  

كما لفصل الربيع أيام تتميز عن غيرها بالنسيم العليل، وانتشار شذى بتلات أشجار البرتقال والليمون، وأيام تشتد فيها رياح الخماسين، وتتطاير الأتربة، وتلفح الوجوه الهبات الساخنة، جاءت أيام طفولتي مزيجًا بين النعيم والشقاء، وفي معظمها مثل سائر أقراني في الشارع والمدرسة بلا لون، بلا طعم، بلا مذاق. ربما كان الفقر قادرًا على أن يصبغ معظم أيامنا وملابسنا بلونه، ويزرع في صدورنا حزنًا. كانت مصر مازالت خارجة من عدة حروب متوالية، كان آخرها حرب أكتوبر 1973، والاقتصاد في الحضيض، وكل المواد التموينية والسلع الضرورية تصرف بالكوبونات. كانت الناس متشابهة في جل الأشياء، لا أحد يتميز عن الآخر، وليس للرفاهية والدعة موضع بينهم. المرايل التي كنا نرتديها في المرحلة الابتدائية بالمدارس الحكومية كانت من نسيج التيل، وكنت أبغضه للونه الأصفر، كما كنت أبغض أشياء كثيرة أخرى. كانت الأحوال الاجتماعية الصعبة تسلب منا طفولتنا. وكان النعيم يتمثل في استقرار الأسرة، وشيوع قيم الحب والتسامح والحق وفضائل القناعة والرضا والصبر بين الناس. ومن هنا كان يزداد إيماننا بالله، ويقيننا بأن القادم أفضل. كنا نحلم، ونحلق بخيالنا مع أثير ألف ليلة وليلة بالإذاعة المصرية، وكنا نحلم مع رفرفة أسراب الطيور التي تحلق في السماء. كان في صدورنا بذرة حلم أيضًا. وتتوالى الأيام بحلوها ومرها، عابرة بنا من مرحلة عمرية إلى أخرى، لكنها علمتني كيف لي أن أتحلي بالصبر؟، وكيف لي ألا أتخلى عن شعور بالمسؤولية يرافقني، وأن العمر قصير، وما عليّ إلا أن أسعى دومًا لصنع بهجتي بنفسي. 

 

 

دفعه القسوة والفقد لاكتشاف ذاته،  جرب عدة المواهب/ المجالات، فكانت في الكتابة الظفر: 

شيء ما  كان بداخلي، يدفعني كي أكون شخصًا مختلفًا، أسهم في ذلك إحساس بشجن رافقني منذ بواكير أيامي، إحساس بيتم تربع في صدري، إحساس بفقد، وها آنذا اكتشفه الآن، وأنا في معرض إجابتي عن سؤالكم، وأظن أن الأيام قد اغتالت ابتسامتي في بواكير أيامي بافتقادي لشقيق أصغر، إضافة إلى صرامة تلك الأيام وقسوتها، وتجهم الآباء والمعلمين، وهذا ما جعلني أبحث عن رفقة جديدة أو أن أتلمس طريقًا آخر للسعادة، ومن ثم وضعت نفسي على أكثر من المسلك " تراك"، بينها الموسيقا، وتعلم الخط العربي، وكرة القدم، والرسم، إلا إنني وجدت ضالتي في القراءة والكتابة، والتعبير عما تجيش به نفسي بطرائق مختلفة، وربما اكتشفت ذلك في مرحلة المراهقة، وقد تأكد لي أن ثمة موهبة، وهبني الله إياها، حين كتبت في موضوعات تتجاوز دائرة ذاتي، وأنا في الصف الأول الثانوي. 

 

 

 

يغور عميقًا في بنية القصص ليصنع بخياله وخبرته مختلف الأشكال من وحي عناصر القصة: 

أنا غير متفق تمامًا مع شكل ومواصفات القصة الكلاسيكية. وقد تتباين طريقة كتابة القصة عندي من واحدة إلى أخرى؛ فهناك قصص أعتمد فيها على رسم بورتريه، ومن خلاله أسرد ما أود البوح به. وهناك قصة يتقدم فيها الحدث عن غيره من عناصر القصة. وهناك قصة أعتمد فيها على بلاغة الحذف والتكثيف. وهناك قصة تتجمع فيها عناصر وتقنيات عدة. وتتراوح بعض المجموعات عندي بين الطول والقصر. 

 

 

 

تولد القصص من فكره وبين يديه ناجحة، ناصعة من خلال الخيال الجامع والواقع المحيط:  

الخيال الجامح يصنع السيناريو المناسب للنص، يلهم الكاتب اختيار التقنيات الملائمة، واللغة والأساليب التي تمكنه من صناعة قصة جيدة. أما الواقع المحيط فهو بمثابة المادة الخام، كيس بودرة الشوكولا، وما الكاتب إلا حلواني يصنع منها قطعة شوكولا ذات مذاق عالٍ، وله أن يضيف إليها ما يشاء من مكسرات وروائح، شريطة أن تكون ضرورية لها، وليست عبئًا عليها، وشريطة أن تعطي لها قيمة مضافة.   

 

لذلك يمر بمراحل عديدة حيث مسودات وتقمص الشخصيات إلى حين ينتهي مشروع القصة بأبهى ما يكون:  

بالطبع كل قصة تكتب نفسها بطريقتها، وأذكر إنني أحيانًا أتقمص أدوار شخصيات القصص، مرتديًا أثوابهم، واضعًا نفسي في مواضعهم، وقد أنزلت نفسي منازلهم، ومن بعد أقوم بأداء تعبيري حركي، وقد نطق لساني بما يودون الإفصاح عنه. وإذا كانت القصة تبدأ لدي بانفعال تجاه فكرة ما، فإنها تمر بمراحل كثيرة، يتخللها هجر وغياب عن النص، ثم عودة إليه، وبين هذا وذاك مسودات عدة، تتناثر قصاصاتها حولي، حتى أصل إلى النسخة الأخيرة من النص. 

 

 

ليس شرطًا أن يعتمد محور القصة على كائن حي فقط بل قد يتجاوزه إلى الجماد وغيره، وذلك حسب...:  

في المقام الأول يرتكز محور القصة لدي في شخص ما، لكن إذا استدعى الأمر استخدام الترميز أو الإسقاط أو استخدام الأقنعة، فإننا نجد الجماد كأنما هو كائن يحيا، ومن أهم خصائصه الإحساس. وأحيانا نكون بصدد أنسنة الجمادات والكائنات لتتناغم مع إيقاع النص، وتكون جزءًا من الحدث، ومن مكونات النص.  

 

 

 

عن رأيه بالغموض والوضوح بين السطور وفي النصوص، يوضح ما يلي:  

بعض الكتابات تحتاج إلى الغموض مع الرمزية؛ ليتشارك القارئ مع المؤلف في بناء النص، حين يبذل قدرًا من الجهد، ويتكشف المسكوت عنه بين السطور، وفي ذلك تتحقق متعة القراءة. أما السهل السلس بمعنى تلك الكتابة المجانية، فأنا لستُ من أنصارها. وقد يظن البعض أنه حين تكون اللغة طوع بنان الكاتب؛ فهي إذن تكون يسيرة وسهلة، وأن الكاتب لم يأت بجديد؛ وهذا كلام مغلوط بالطبع. ولذا حين كنا نجهل ذلك في بواكير حياتنا الأدبية، كنا نتمسك باستخدام كلمات مقعرة، ظنًا منا أنها تكسب النص أهمية، وتعطي لصاحبها قدرًا من الإجلال. اللغة السلسة هي نتاج تراكم خبرات ومعارف، ويتحتم أن تكون ذات أبعاد وظلال، ولها فلسفة، ويحكمها منطق. وقديمًا قال بيكاسو أنه حين يتمكن الفنان من ريشته يرسم بروح طفل. 

 

 

 

يعتقد أن الأدوات اللغوية ليس مهمة للكاتب بل الثقافة والإبداع أولًا:  

لا أعتقد أن العمل الإبداعي الجيد في حاجة إلى التلاعب باللغة أو إلى زخرفة لغوية. الكاتب الحاذق عليه أولًا أن يلتقط الفكرة الممتازة؛ فليس كل ما هو ملقى أمامه يلتقطه، وعليه أن يصنع غموضًا ودهشة، ويحتفظ بتوتر النص وحيويته حتى النهاية. والحبر الذي يسيله على الورق إذا لمس فيه البرودة؛ فتقتضي أمانته حينئذ للعمل الإبداعي أن يسارع بالتخلص منه فورًا، فربما سطر واحد يغني عن صفحات. 

 

 

العوامل الفنية هي التي تتحكم في طول القصة من قصرها: 

هناك عوامل فنية تقتضي أن يكون النص قصيرًا معتمدًا على التكثيف، وقد لخص الفنان بابلو بيكاسو أثار الخراب والدمار للحرب الأهلية الإسبانية، وقصف طائرة حربية ألمانيا لمدينة غرنيكا في عام 1937م في لوحة جدارية واحدة. 

 

 

أنما هو، يميل إلى كتابة النصوص القصيرة الحجم لهذه الأسباب:  

أنا صراحة أميل إلى القصر، ربما لعوامل نفسية أثرت في تكويني، إضافة إلى إنني أكره الثرثرة، وتلك الكتابة المجانية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن المسلم به أن أقصر طريق بين نقطتين، هو الخط المستقيم. أنا لا أفعل كما يفعل صاحب التاكسي حين يكتشف جهل الراكب بالمكان فيدور به كثيرًا، وربما كان الموضع الذي سأله فيه الرجل/ الراكب، سائق التاكسي هو العنوان نفسه الذي ينشده. أنا لا أستحل وقت القارئ وثقته بي، كما أستحل السائق مال الرجل.  

يستطرد قائلًا: على الرغم من ميلي إلى كتابة النص القصير، فإنه لدي قصص طويلة، كما في مجموعتي: وخز، رخصة قتل، وعمل آخر قيد النشر، وكانت الضرورة تقتضي أن يكون النص طويلًا. 

 

 

 

 له مخطوطتين للرواية رغم ذلك متمسك بالقصة القصيرة كأولوية كتابية:  

قديمًا قالوا عن الشعر أنه ديوان العرب، ومنذ فترة أطلق د. جابر عصفور مقولة "الرواية ديوان العرب"، وأنا أرى أن كل فن بإمكانه التعبير عن صياغة آلام البشر؛ ففي يوم ما كانت السيرة الشعبية والمعلقات فنًا كبيرًا لدى العرب، بينما كانت الميثولوجيا فنًا عظيمًا عند الإغريق والرومان، وكانت للملاحم مكانًا أدبيًا رفيعًا في كل الثقافات. وأتفق معكم تمامًا في أن الرواية تتبوأ مكانًا مهمًا بين الأجناس الأدبية كافة حاليًا. ومع ذلك أنا كتبت روايتين لكنني لم أدفع بهما إلى النشر، وإلى الآن ما زلت أرى أن لدي الكثير؛ لأقدمه للقصة القصيرة. 

 

يرى في العناوين أهمية كبيرة، وأن تكون انعكاسًا للمحتوى: 

أرى أن عنوان النص أو الكتاب بمثابة العتبة الأولى للولوج إليه، ولذا أتوقف عنده كثيرًا كثيرًا. وأعتقد أن كل عنوان كتاب لابد أن يعبر عن مضامين قصصه أو يعطي إشارة للمشي باتجاه عالم ما. 

 

 

 

يعرف الناقد الأدبي على نحو التالي: 

لا أزعم أني ناقد، فقط أنا متذوق للفن والكتابة كما إنني متذوقًا للحياة. ولن أسترسل في هذه النقطة طويلًا، فأحيانًا يقولون إن الناقد مبدع جانبه النجاح في إبداعه، لكن الذي لا خلاف عليه أن الناقد الأكاديمي النابه بإمكانه أن يأخذ النص إلى عالم أوسع وأرحب. كما أن هناك مبدعًا يجمع بين ملكتي الإبداع والنقد، ومن ثم يضيف أيضًا للنص حين يتناوله بقلمه. 

 أما مستوى النقد حاليًا في نظره: مشكلة الحالية للنقد فهي تتمثل في قلة النقاد مقارنة بحركة الإبداع والنشر. 

 

 

 

معجب بهؤلاء الأدباء:  

 نجيب محفوظ، زكريا تامر، يوسف أبو راية، كمال إبراهيم، ناصر الحلواني، صابر رشدي، مكاوي سعيد، إبراهيم أصلان، سهير المصادفة، عبد النبي فرج، حسين منصور، وحسين عبد الرحيم، زهير كريم، عائد الصباك، مجدي جعفر 

 

 

 

مواهب أخرى:  

أحب التنزه والخروج إلى الطبيعة والبحر، ومشاهدة مباريات كرة القدم والتنس، وفي بعض الأحيان الذهاب للسينما والمسرح وحضور المعارض الفنية. 

 

 

 

في الختام ليسمح لي الأستاذ خالد ديريك، بأن أختار قصة "المحطة القديمة"، لتكون هديتي للأصدقاء كافة في نهاية هذا اللقاء الطيب بكم. المحطة ُ القديمة ُ/ عماد أبوزيد 

   المحطة القديمة يرمقها القطار ولا يتوقف. ثلة من الذكور يلعبون بأوراق الكوتشينة، على الجزء المتبقي من رصيفها، المعبد بمستطيلات صغيرة من البازلت. تُذكّرني ببقايا حي قديم، كنت أسير فيه برفقة أبي، نشتم فيه عبق الماضي، مرة سألته عن هذه الحجارة السوداء، التي تفترش طرقاته، فقال: 

- إن الفضل يعود إلى السجناء؛ حيث يخرجون بهم إلى الجبل في منطقة أبي زعبل؛ فيقتطعونها مِنهُ. 

تمتد أياديهم بجنيهات، يضعونها فوق إحدى الأوراق المقلوبة أمامهم. تتبادل سحناتهم العبوس والابتسام، وسط دخان غزير، يطلقونه من أنوفهم. من بعيد أقف مُحدِقًا إليهم، لا أرى سوى غبار يتصاعد، تتلاشى معهُ أجسادهم. 

أمضي إلى حال سبيلي، ولا يبقى في أنفي سوى رائحة غريبة، وصورة بنت ممزقة، طريحة الأرض، أثناء عودتي من المكان عينه بعد انتصاف الليل.