حسني حنا يكتب : المسيحية في شبه جزيرة العرب.. رؤية تاريخية (٢)

حسني حنا يكتب : المسيحية في شبه جزيرة العرب.. رؤية تاريخية (٢)
حسني حنا يكتب : المسيحية في شبه جزيرة العرب.. رؤية تاريخية (٢)
 
 
"متى وبرتلماوس وتداوس وتوما، ذهبوا إلى شبه جزيرة العرب يحملون بشارة المسيح للعرب"
*الأب لويس شيخو
 
 
إذا نظرنا إلى الانجيل Gospel كمرجع تاريخي، نجد أنه كان هناك (عرب) في مدينة أورشليم (القدس) في يوم الخمسين (يوم العنصرة) سمعوا البشارة من القديس بطرس St.Peter تلميذ المسيح (أعمال 12: 4) بل أن الأمر بلغ أن يكون حاكم دمشق، ونائب القيصر عليها هو الحارث العربي (كورنتوس الثانية 32: 11) ولم يقتصر الأمر على هذا. بل أن بعض الباحثين يرى أن تلاميذ المسيح. قد أرسلوا بعضاً منهم لدعوة العرب الى المسيحية (لويس شيخو: النصرانية وآدابها ص 21).
وقد عرف العرب المسيحية، التي عمت أقساماً واسعة من شبه جزيرة العرب من الجنوب الى الشرق والشمال، وذلك منذ سنواتها الأولى. وآمن بها كثيرون، ونهلوا من ثقافتها. وقد اسموها (النصرانية) انظر (قاموس لسان العرب، وتاج العروس) كما شارك العرب في المجامع المسيحية الثلاث، في نيقية والقسطنطينية وأفسس.
 
 
مشاهير العرب المسيحيين قبل الاسلام
اشتهر العديد من العرب المسيحيين في شبه جزيرة العرب. فكان منهم ملوك وأمراء وشعراء وخطباء مثل (عدي بن زيد) وزير النعمان ملك المناذرة فى العراق، وعدد من شعراء المعلقات، وقد حوت أشعارهم ذكر الرموز المسيحية وخاصة (الصليب Cross) ووصفوا دورعبادتهم من كنائس وأديرة، مثل (امية بن أبي الصلت) و (امرؤ القيس) و (النابغة الذبياني) و (عمرو بن كلثوم) وغيرهم كثيرون.
ومن مشاهير العرب المسيحيين (قس بن ساعدة الآيادي) أسقف منطقة نجران شمال اليمن، المتوفى نحو عام (600م) وهو أخطب خطباء العرب قبل الاسلام، وأكبر شعرائهم و(عثمان بن الحويرث) من بني أسد من قبيلة قريش. ومنهم (ورقة بن نوفل بن أسد) مطران مدينة مكة.
وتحفل كتب الأدب والشعر العربية بالروايات والادبيات حول المسيحيين وكنائسهم واديرتهم. ومنها كتب تخصصت في ذلك مثل كتاب (مسالك الأبصار) لابن فضل الله العمري وكتاب (الديارات) لمحمد الشابشتي. وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع في محاضرة ألقيتها في جامعة البلمند في لبنان.
ومما قاله (الشاعر الأخطل) شاعر بني أمية، في حرب قومه بني تغلب ضد بني قيس، والصليب يتقدمهم:
"لما رأونا والصليب طالعا... خلوا لنا رازان والمزارعا".
ومما قاله الشاعر (عدي بن زيد):
"سعى الأعداء لايألون شراً... عليك ورب مكة والصليب".
 
المسيحية في اليمن
من المحتمل أن تكون المسيحية قد دخلت اليمن منذ منتصف القرن الثاني للميلاد. لكن من المؤكد أن المبشرين المسيحيين في جنوب شبه جزيرة العرب وغيره قد نشطوا نشاطاً كبيراً. وأن الذين نقلوا المسيحية الى اليمن كانوا في الأغلب من التجار السوريين، وذلك منذ النصف الثاني للقرن الرابع للميلاد، وغيرهم من المبشرين الذين قصدوا اليمن في أزمنة مجهولة فراراً من الاضطهاد الروماني.
وقد بنيت الكنائس والأديرة في اليمن أولاً في المدن التجارية، وكان من قام بالتبشير أصلاً هو (تيوفيلوس) من جزيرة سقطرة. التي كانت محطة تجارية بحرية هامة. وقد افلح (تيوفليوس) في انشاء بيعة (كنيسة كبيرة) في مدينة عدن، وثلاث بيع في أرض حمير (د.فيليب حتي: تاريخ العرب ص 116) كما كانت أول سفارة مسيحية الى جنوب شبه جزيرة العرب، تلك التي أوفدها الامبراطور البيزنطي قسطنطينوس حوالي عام (390م).
وتذكر بعض المراجع التاريخية، أن أهالي اليمن كانوا يعرفون اللغة الارامية (السريانية) وأن الخط الارامي قد دخل الى قبائل قحطان وحمير، وساعد في تطوير الخط العربي (كما ذكر ابن خلدون).
واشتهرت في اليمن كنيسة (القليس) من كلمة (إكليزيا) اليونانية التي تعني (كنيسة) والتي لايكاد يخلو كتاب في تاريخ العرب من ذكرها لشهرتها. وقد بنى العرب كنائس عديدة في عدن وصنعاء ومأرب وظفار.
وفي مرحلى لاحقة قاوم اليمنيون الأثيوبيين الذين احتلوا اليمن، في آواخر (القرن 6م) وأرادوا استقلالهم بقيادة (سيف بن ذي يزن) وهو مسيحي كما جاء في كتاب (أنساب العرب لابن حزم)
 
 
المسيحية في شرق شبه جزيرة العرب
وصلت المسيحية الى الشواطئ الشرقية لشبه جزيرة العرب، أو مايعرف اليوم باسم الكويت والبحرين وقطر والامارات وعمان. حيث اعتنقت المسيحية قبائل عديدة، وكان لهم اساقفة. وقد ذكر ذلك ياقوت الحموي.
وكان بنو تميم أحدى أكبر القبائل العربية المسيحية. وكان يرأسها (المنذر بن سادي) ومن مشاهير تلك الحقبة (بشير بن عمرو) و (طرفة بن العبد) كما يذكر التاريخ اعتناق قسم كبير من قبيلة امرئ القيس للمسيحية، وهم غالبية سكان الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب.
ويقول المستشرق (سوزومان) أن العرب عموماً اعتنقوا المسيحية، بجهود الكهنة والرهبان والسياح، الذين انتشروا في تلك الأصقاع. ولازالت هناك أماكن وعائلات تحتفظ باسماء مسيحية مثل عائلة (الصليبي) و (المسيح) و (شمعون) في البحرين، وعائلة (الراهب) في القطيف. وفي شرق الجزيرة العربية كشفت أعمال التنقيب الأثري مؤخراً عن عدد من الكنائس التي يعود تاريخها الى ماقبل الاسلام بنحو مائة عام.
 
المسيحية في شمال شبه جزيرة العرب
من الواضح أنه ليست هناك حدود طبيعية واضحة، بين شبه جزيرة العرب، وبين سوريا وبلاد النهرين. لكن هناك تناقض واضح بين شبه جزيرة العرب الصحراوية وبين منطقة (الهلال الخصيب The Fertile Crescent) الخصبة والوافرة المياه.
وقد ذكر العالم الفرنسي (رينيه دوسو) أن العرب قد سكنوا بعض أنحاء سوريا. قبل الاسلام بمدة طويلة. وقد شدتهم إليها خصوبة أرضها. وكانوا يأتونها على شكل موجات هجرة. ومالبثوا أن تمثلوا (الآرامية) لغة السوريين وحضارتهم وديانتهم وصار الكثير من أسمائهم آراميا.
وقد غدت سوريا بلاداً مسيحية، بعدما اعتنق الامبراطور (قسطنطين الكبير Constantine The Great) الديانة المسيحية عام (313م) وصارت الدولة البيزنطية، الراعي الرسمي للديانة المسيحية، تشجع أتباعها. وتدعم القبائل المسيحية العربية، مالياً وسياسياً وعسكرياً.
ويقول المؤرخ اليعقوبي (ت 897م) أن قبيلة قضاعة، أول من قدم الى الشام من العرب، فملكهم الروم، على ماببلاد الشام من العرب. 
ويقول المسعودي (ت 956م) أوردت قبيلة سليم للشام فتغلبت على تنوخ وتنصرت، فملكها الروم على العرب الذين بالشام.
وذكر مؤرخو المسيحية اسماء مطارنة عرب، مطلع القرن الثالث الميلادي. وقد وصل أحد العرب وهو فيليب العربي (244- 249م) من مواليد مدينة شهبا في جنوب سوريا الى الحكم في روما. ورغم أنه تصرف كامبراطور وثني الا انه كان في الواقع مسيحياً، وكذلك كانت زوجته. وقد شارك في صلاة سبت النور، على يد بطريرك أنطاكية (بابيلاس).
 
الغساسنة العرب في جنوب سوريا
الغساسنة هم عرب سوريا، بل عرب اصبحوا سوريين. وكانوا صلة وصل بين شبه جزيرة العرب والامبراطورية البيزنطية. ومن ثم أخذوا دورهم، كدولة حاجزة، من هجمات القبائل العربية. وضد الفرس في الشرق.
والغساسنة هم قبائل من اليمن، هاجرت في مطلع القرن الرابع للميلاد الى الحجاز، ثم استقرت في منطقة حوران جنوب سوريا، وجعلوا عاصمتهم مدينة بصرى. وكان بنوحفنة اشهر الغساسنة وهم أيضاً ملوكهم. وفيهم يقول الشاعر النابغة الذبياني (ت 604م):
"محلتهم ذات الاله ودينهم... قويم، فما يرجون غير العواقب".
وقد ورد عند الاب لويس شيخو، أن ملوك غسان بنو كنائس وأديرة كثيرة، منها دير هند ، ودير أيوب (النصرانية وآدابها ص 31).
وكان الحارث بن جبلة الغساني، أشهر ملوك الغساسنة وأعزهم شأناً. وقد منحه الامبراطور جستنيان لقب (بطريرك) ,أعطى الغساسنة حكماً ذاتياً، يديرون من خلاله شؤون حياتهم.
وقد لعب الأساقفة الغساسنة، دوراً هاماً في نشر المسيحية في بلاد العراب سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، أو على طريق التجارة بين بلاد الشام والحجاز. حيث بنوا الأديرة وجعلوها محطات أستراحة للقوافل التجارية.فيها الماء والطعام والشراب. وكانت بنفس الوقت مراكز لنشر المسيحية، بين رجال القوافل خلال إقامتهم. ومازالت آثار هذه الأديرة باقية الى اليوم في جنوب سوريا وشمال الحجاز، على طريق التجارة القديم. مما كان له أثر كبير في نقل الثقافة المسيحية الى شبه جزيرة العرب. كما عملت الكنيسة على إرسال أساقفة، كانوا يبشرون في بلاد العرب المجاورة.
ولقد تاقلم الغساسنة بسرعة، مع الثقافة والتقاليد السورية زصاروا سوريين من أصل عربي، ومسيحيين يتكلمون الآرامية ويكتبون بها. وكانوا ركيكي اللغة العربية (أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني). وكان الغساسنة يشجعون قدوم الشعراء من المناطق الآخرى مثل النابغة الذبياني والأعشى والمرقش وحسان بن ثابت وغيرهم يمدحونهم، ويخلدون أعمالهم وكانت لهم لهجة خاصة لهم غير لهجة قريش، التي كانت سائدة في بلاد الحجاز (أحمد أمين: فجر الاسلام).
أما عرب سوريا الآخرون، فقد كانوا منتشرين في البادية السورية، ومناطق غرب الفرات والجزيرة العليا. ومنهم قبائل مضر وربيعة، وبنو تميم ونزار وتغلب وعقيل وغيرهم.
وتذكر المراجع التاريخية، أن القديس سرجيوس أو سركيس كان شفيع بني تغلب. وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان عشرات الأديرة في أماكن سكن القبائل العربية. وقد اكتشف مؤخراً أثر مسيحي قرب حلب يعود الى عام (512م) مكتوب باليونانية والآرامية والعربية، حيث نقش عليه تذكار القديس سرجيوس (لويس شيخو 103).
ويقول المستشرق الهولندي (دوزي): "وبالإجمال كان عرب سوريا يدينون بالمسيحية. ومن المعروف أنه حتى نهاية العهد الأموي، الذي دام نحو مائة عام. كانت غالبية سكان سوريا (بلاد الشام) لاتزال تدين بالمسيحية.
 
المناذرة العرب في جنوب العراق
أقام المناذرة أو اللخميون، وهم من عرب اليمن مملكتهم في جنوب العراق، وكانت عاصمتهم مدينة (الحيرة) الواقعة عند الفرات الأوسط، وقد اعتنق هؤلاء الديتانة المسيحية. ولم يكن المناذرة وحدهم هناك، بل كان الى جانبهم قبائل عربية مسيحية عديدة منها بهراء وإياد، ووائل شيبان وبكر ومضر وتنوخ وغيرها.
وقد نشطت كنيسة الحيرة في التبشير، فأرسلت مبشرين الى شرق شبه جزيرة العرب، وقامت ببناء الكنائيس والأديرة. وأشهرها في ذلك الحين (دير هند الكبرى) و (دير هند الصغرى) وهما بالحيرة.
كان المناذرة واقعين تحت نفوذ الفرس، لذلك كانوا يقفون الى جانبهم. وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم، أثر كبير فى الأدب العربي، والحياة العقلية للعرب عامة. وقد ذكر المؤرخ (البلاذري أنه: "كان أهل ثلاث بيوتات، يتبارون في بناء (البيع) وهم أهل المنذر في الحيرة، وغسان في الشام، وبنو الحارث في نجران... وبنوا دياراتهم (أديرتهم) في المواضع النزهة، الكثية الشجر والرياض والغدران وجعلوا في جدرانها الفسيفساء (موزاييك) وفي سقوفها الذهب والصور".
 
 
هوامش
- إن علم الآثار في شبه جزيرة العرب، مازال يحبو في بداياته، ومع ذلك تم اكتشاف الكثير من الآثار المسيحية، وباقايا الكنائس والأديرة.
- كان من الأخطاء الكبرى، عدم ترجمة الأنجيل الى اللغة العربية خاصة في القرنين الرابع والخامس للميلاد. حيث كان العرب لايعرفون اللغتين الآرامية واليونانية. ولو تم ذلك مع وجود عدد كبير من القبائل العربية التي كانت تدين بالمسيحية في شبه جزيرة العرب، لكان الأمر قد تبدل كثيراً .ولكانت المسيحية  أصبحت قضية أساسية للعرب، بدلاً من ان تكون ثانوية. وربما كان الشرق الأوسط على غير الصورة التي نراه عليها اليوم.