حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية.. بين الجغرافيا والتاريخ (2)

حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية.. بين الجغرافيا والتاريخ (2)
حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية.. بين الجغرافيا والتاريخ (2)
 
"لم تغلق سوريا أبوابها تجاه الغرباء، بل امتزجت بهم دماً وطباعاً"
*Pliny
 
 
ربما تكون الجغرافيا صماء، ولكن ما أكثر ماكان التاريخ لسانها، فالتاريخ ظل الانسان على الأرض، كما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان.
سكان سوريا القدماء، هم سكان أصيلون في أرضهم، لم يهاجروا إليها من أي مكان آخر، مثلهم مثل سكان مصر القدماء، وسكان بلاد فارس واليونان وغيرهم.
 
السومريون والأكاديون
إن أول الشعوب التي استوطنت في سوريا القديمة، هم (السومريون) الذين وضعوا اسس الحضارة في بلاد النهرين، وذلك حوالي عام (3200 ق.م) واتخذوا من مدينة (أور Ur) عاصمة لهم، وهم أول من بنى القرى والمدن، وطور الزراعة وبناء المساكن، وأوجد الكتابة المسمارية، وأقام الشرائع والقوانين.
بعد السومريون ظهر (الأكاديون) وعاصمتهم مدينة (أكاد) وقد ازدهرت حضارتهم، بين عامي (2400- 2200 ق.م) ووصلت إلى ذروتها، في عهد الملك سرجون الأكادي (ت 2279 ق.م) الذي كان حاكماً للسومريين والأكاديين معاً. وقد بسط الأكاديون نفوذهم على منطقة الهلال الخصيب (The Fertile Crescent) وأجزاء واسعة من بلاد الأناضول. وقد كان من اشهر ملوك الأكاديين الملك نارام سين (2254- 2218 ق.م) أحد أحفاد الملك سرجون، وهو أول من لقب باسم (ملك أركان الدنيا الأربعة).
 
الآموريون
بعد الأكاديين جاء (الآموريون) وهي تسمية سومرية تعنى (الغربيون) الذين كانت عاصمتهم مدينة (ماري Mari) الواقعة جنوب مصب نهر الخابور في نهر الفرات، التي اكتشف فيها أكبر قصر، وأعظم مكتبة في التاريخ القديم. وقد توسع مدلول أسم (الآموريين) الذي صار يشمل سوريا كلها. وصار البحر المتوسط يعرف باسم (بحر أمورو العظيم).
وتظهر أول اشارة الى أرض الآموريين، منذ عهد الملك (سرجون الأكادي) ولم يقتصر وجود الآموريين في سوريا الداخلية، وإنما في الساحل السوري ايضاً. وفي اسم (عمريت Amrit) ما يخلد اسم الآموريين، واسم حمورابي (نحو 1700 ق.م) يعني (أبو الآموريين) وقد ازدهرت بلاد الآموريين، نتيجة تطور الزراعة المعتمدة على الري. وفي هذه الأثناء بدأت مصر توسعها. وجعلت قسماً كبيراً من سوريا تحت سيطرتها، بفضل قوة الملك تحوتمس الأول (ت 1495 ق.م) وقد اصطدمت مصر بالحثيين الطامعين بالأرض السورية القادمين من الشمال وبعد معركة قادش (1224 ق.م) غير الحاسمة بين الطرفين تقاسم المصريون والحتيون سوريا فيما بينهم..
 
الآشوريين والكلدانيون
استوطن (الآشوريون) في شمال بلاد النهرين، وكانت عاصمتهم مدينة (نينوى Nineveh) وقامت آشور بمحاولتها الاولى لأجل الظهور كدولة عظمى في عهد الملك (تغلات فلاصر الأول) الذي توسع في سوريا (1094 ق.م) واعلن نفسه حاكم بلاد آمورو بكاملها.
وبعد أن أجتاز جبال طوروس، الى بلاد الحثيين، سيطر على الممالك الكنعانية على الساحل السوري. ثم قام أحد خلفائه آشور ناصربال (484- 859 ق.م) بالسيطرة على كامل سوريا، من جهة بلاد النهرين.
وفي عهد ابنه ووريثه شلمنصر الثالث (859- 864 ق.م) أصبحت آشور سيدة آسيا الغربية. وقد استطاع الملك شلمنصر الثالث، الانتصار على تحالف الممالك الآرامية، في معركة (قرقر) شمال مدينة حماه عام (853 ق.م) ولما حاول ملك صور فرض سلطته، طرده الملك سنحاريب الى قبرص وحين قامت صيدا ضد (أسرحدون) ابن سنحاريب. أخضعها وهدم أسوارها. وفي عهد أسرحدون، وخليفه (آشور بانيبال (668- 631 ق.م) دخل الآشوريون مصر، ووصلت الامبراطورية الاشورية بذلك الى أقصى حدودها، وقد اشتهر آشور بانيبال بأنه أوجد أكبر مكتبة في العالم في زمنه.
 تمكن (الكلدانيون) بالتحالف مع الميديين، من إسقاط الامبراطورية الآشورية. ودخول عاصمتها (نينوى) في عام (612 ق.م) وكانت عاصمة الكلدانيين مدينة (بابل Babilon) وقد ورثوا الامبراطورية الآشورية، وسط تمرد المدن الكنعانية على الساحل السوري. وفي عام (587 ق.م) ظهرملك الكلدانيين (نبوخذ نصر) بنفسه في شمال سوريا، ثم اتجه غرباً لإخضاع المدن الكنعانية وفلسطين. وأخضع مدينة (صور Tyre) في عام (572 ق.م) ثم حارب في سوريا الداخلية.
اشتهر الملك (نبوخذ نصر) ببناء الحدائق المعلقة في مدينة بابل، التي كانت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم.
كانت المستعمرة اليونانية في هذه الفترة، قد حلت محل المستعمرات الكنعانية، وورثت نشاطها البحري، ونشاط المدن الكنعانية الأصلية. وبذلك انتهى العالم الكنعاني، الذي اشتهر بنشاطه وعلمه وحيويته. ولكن الشعب الكنعاني حافظ على شخصيته، حتى دخول الاسكندر المكدوني إلى سوريا (333 ق.م) ولم يكن العبرانيون والفلسطينيون، الذين أتوا حديثاً ليحدثوا تأثيراً كبيراً على هذه الشخصية..
 
العبرانيون
يحيط الغموض بوجود (العبرانيين) في سوريا. وكان العبرانيون من الشعوب التي سكنت سوريا بعد الآموريين والآراميين والكنعانيين، وكان مركز الثقل في عهد الآموريين في الشمال السوري، وانتقل في زمن الكنعانيين الى الساحل. وكان في زمن الآراميين في الداخل، ثم كان هناك شأن هام للجنوب السوري في عهد العبرانيين.
وكان أول من استوطن سوريا الجنوبية الغربية، المعروفة اليوم باسم فلسطين هم (الكنعانيون/ الفينيقيون) وكان دخول العبرانيين الى هذه المنطقة، نتيجة هجرات غير محددة بالضبط، وكانت قد بدأت من بلاد النهرين، حوالي القرن (18 ق.م) ثم الهجرة التي أتت من مصر بقيادة موسى (أواخر القرن 13 ق.م) وكان الكنعانيون يشكلون غالبية السكان في الساحل السوري (الساحل الشرقي للبحر المتوسط بكامله) عندما جاء أسلاف العبرانيين، وكانت مدينة يبوس (القدس) إحدى أهم المدن الكنعانية، التي سقطت بيد النبي داود، في حدود سنة (1010 ق.م) ولم يكن فيها أحد من العبرانيين (سفر القضاة 13: 11-19).
وتقول المرويات العبرانية بشكل مختصر جداً . أن (ابراهيم) (الجد الأكبر للعبرايين) أتى مع عدد من عشائر العبرانيين، من مدينة (آور Ur) في بلاد النهرين بطريق حران في شمال سوريا. وترك وريثه (إسحق) ابناً اسمه (يعقوب) وقد تمكن العبرانيون من السيطرة على أجزاء من سوريا الجنوبية، عن طريق الفتح والتوسع التدريجي..
امتصت سوريا العبرانيين، الذين كانوا من البدو الرحل ونصف الرحل، الذين إستقروا فيما بعد، حيث تعلموا من الكنعانيين حرث الأرض، وأهم من ذلك القراءة والكتابة. وما اللغة العبرية إلا لهجة كنعانية، أطلقت عليها التوراة أسم (شفة كنعان) كما اتبع العبرانيون في البداية العبادات والعادات الكنعانية، ومنها عبادة (إيل El) إله الكنعانيين.
وبنى العبرانيون المعابد على النمط الكنعاني، ومنها (هيكل سليمان) الشهير، في عهد الملك سليمان (971- 923 ق.م) وهو من بناء المعماريين والعمال الكنعانيين من صور. وقد استخدم فى بنائه خشب الأرز من لبنان، حتى أن كلمة (هيكل) هي من اصل كنعاني.
 
 
الفلسطينيون
كان (الفلسطينيون) القدامى أقوى المنافسين، الذين كان على العبرانيين أن يقاتلوهم لأمتلاك البلاد، وكان اولئك الفلسطينيون من المجموعات الخمس لشعوب البحر، الذين أتوا من جزر بحر إيجه، وخاصة من جزيرة كريت. وبعد أن احتل العبرانيون المرتفعات الوسطى بقليل. سيطر الفلسطينيون على المنطقة الساحلية الجنوبية من أرض كنعان.
وكانت شعوب البحر تلك، هي التي قوضت مملكة ( أوغاريت Ugarit) على الساحل السوري الشمالي نحو سنة (1177 ق.م) قد وصلت إلى سواحل مصر حوالي سنة (1191 ق.م) وهناك تمت هزيمتها براً وبحراً، على يد فرعون مصر رمسيس الثالث (1186- 1155 ق.م) لكنه سمح لها أن تنزل بصورة دائمة في ساحل سوريا الجنوبي، الذي صار يسمى (فلستيا Philistia) وبعد ذلك (فلسطين).
زكانت حملات الفراعنة المتتابعة على سوريا، وفرض مختلف المطالب عليها، قد أفقرتها وأضعفت مقاومتها، أمام هجمات قبائل البادية، وقراصنة البحار. وما كان بإستطاعتة الفلسطينيين ولا العبرانيين، أن ينجحوا في تثبيت أقدامهم في البلاد، لو أن مصر كانت قادرة على السيطرة التامة عليها.
وتدل الاثار الباقية على الأصل الأوروبي للفلسطينيين القدماء. ومنها الرسوم والنقوش، التي تعود إلى عصر رعمسيس الثالث، وخاصة لباسهم وخوذات الجنود المزينة في أعلاها بالريش، وسيوفهم القصيرة المستقيمة، ودروعهم المستديرة.
وكانت ذروة قوة الفلسطينيين، في النصف الثاني للقرن (11 ق.م) حيث كانت لهم اليد العليا بالنسبة للعبرانيين. وقد عرف الفلسطينيون القدماء عملية صهر الحديد المعقدة، وهكذا رفعوا الحضارة السورية، من مرحلة البرونز الى مرحلة الحديد. وتفوق الكنعانيون، الذين تعلموا من الفلسطينيين استخدام المركبات الحديدية، تفوقاً حاسماً على العبرانيين الدخلاء، وكأن هذا أهم فضل لهم، لكنهم خضعوا أخيراً لسلطة الملك داود (ت نحو 963 ق.م) ويمكن الاعتقاد هنا، أن الفلسطينيين قد أعطوا جيرانهم الكنعانييون (الفينيقيين) ميلاً للأسفار البحرية البعيدة. كان من نتائجه اكتشاف شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر، وشرقي المحيط الأطلنطي.
لم يكن للفلسطينيين القدماء كجماعة أجنبية، دخلت أرض كنعان السورية، سوى تجديد عددهم عن طريق الهجرة. وهذا كان مستحيلاً في تلك الظروف. ومع الزمن تأثر الفلسطينييون بالساميين واندمجوا بهم.
وعندما كتب (نحميا) سفره في التوراة (منتصف القرن 5 ق.م) لم يأت على ذكرهم. أما عن أبنية ومعابد الفلسطينيين القدماء، فإننا لانعرف عنها اليوم شيئاً!.
إن ما أتيت على ذكره أعلاه بشأن الفلسطينيين، ليست له أية علاقة بالفلسطينيين اليوم، وهذا هو موضوع آخر.