"المقامة المنامية" بقلم حمادة عبد الونيس

"المقامة المنامية" بقلم حمادة عبد الونيس
"المقامة المنامية" بقلم حمادة عبد الونيس
حدثنا ابن عبد الونيس الذى لا يشك فى صدقه صديق أو أنيس قال :
بينما أنا نائم ،وفى أحلامي هائم  إذ زارني شيخ هرم  فى المنام ، فألقى علي السلام ،واستأذن فى الكلام ،فقلت على الرحب والسعة، وهيأت نفسي لأسمعه ،فوجدته شد مئزره، واستل خنجره ،فأوجست منه خيفة وراعني أمره،وقلت فى نفسي ما هذه السحنة المخيفة ؟! فانثنى عطفا علي ،وقال لا تخف يا بني ،كنا سكان البوادي نرعى إبلا لنا وأغناما نتتبع بها الشعاب والسهول ، نقرأ الورد ونصلي على الرسول ،نكرم الضيف ولا يخشى من جاورنا الحيف، إذا قلنا عدلنا وإذا تكلمنا أبنا،  ما نزل بحمانا نازل إلا أكرمناه وما بغي علينا باغ إلا دمرناه ،وما تفاصح علينا متفاصح إلا ألزمنا لسانه فاه،وخرج من مرابعنا يجر أذيال الخيبة ناسيا أمه وأباه ،  ننشد الأشعار ونغازل الأطيار ،نزرع النخيل ونغني للشمس وقت الأصيل ،نأكل التمر ونوقد النار بالفهر  ونشوي اللحوم على الجمر، لنا السيادة فى الشعر والريادة فى النثر ،أينما حللنا تتبعنا رايات النصر  ، ثم توقف فجأة والدموع منهمرات من عينيه كنهر الفرات، فأشفقت عليه ،وقبلت رأسه ويديه، وههمت منكبا على رجليه فقال: كفاك يا بني، لا تثقل الذنب علي، أراني قضضت مضجعك، لكني والله ما كنت مضيعك ،وما جئت لأوجعك، إنما أردت أن أرفعك ،ومن قصص الآباء أشبعك ،علها يوما تنفعك  فقلت زدني يا جدي  ولا تتركني غريبا هنا وحدي !
فشحذ ذاكرته ، وقص علي سيرته ،عشنا على الشعير والإقط وما ذللنا لأحد قط، حتى نزل الخنازير ديارنا،  ووجدوا فى بلادنا النفط ،فراحوا يمنوننا بالأماني، وشغلونا عن القرآن بالأغاني ،وسلطوا علينا الغانيات من الشقراوات وبنوا لنا البارات وشيدوا المزارات والخمارات  فسال لعابنا ولهثنا خلفهم لا نتبين شيئا من أمرنا ،فمكناهم من أراضينا وتحكموا فينا فطمسوا معالمنا، ولعنا على أيديهم ماضينا، وبكت اشتياقا لبهرج حضارتهم مآقينا ،ومازالوا يمنوننا حتى فتنونا، فهب المصلحون يبينون لنا مخاطر التبعية ، وأنها الموتة الأبدية ،فقام الشباب الأهوج مترنما بمحاسن الغرب وبجميل صنعهم يلهج ،فشقوا عصا الطاعة وكسروا كلمة الجماعة وحلقوا رؤوسهم من الجوانب وزججوا الحواجب ولبسوا المرقع والمقطع ، مشغولين  بكأس وغانية،مغرورين فى هذه الفانية ، حتى باعوا الأرض وفرطوا فى العرض، وعاشوا على القرض ،وكلما قام من بينهم نذير زجروه ،فإن لم يرعو قتلوه !
ورسم لهم الأسياد الخطط،  وحذروهم من الشطط ،وقالوا  لهم إن أردتم السلامة كونوا معنا كالقطط ،حاربوا العربية وعيشوا عيشة غربية، وتخلوا عن التربية؛ فهى تنمر والتنمر فى دساتيرنا محرم مجرم ،وقد أنشأنا من أجلكم الجامعات فى بلادكم ،نعلم فيها أبناءكم على نهجنا، نخرج أجيالا تلهج بذكرنا ،كل هذا يا بني وقومي مفتنون ،خرس لا ينطقون !
سبحان ربي !يا جدي أنت مخزن الأسرار ،هات، زدني حتى يطلع النهار ،فقال يا ولدي أوصيك وصية جامعة والأطيار فى أوكارها هاجعة، إذا أردت السلامة فتعلم قبل أن تتكلم  ولن تحقق مجدا حتى تشقى وتتألم !
واعلم أن بقاء الأمم مشروط بالوعي وعلو الهمم ،وإياك والاغترار بالرمم، فهى تطفو على السطح كالعدم !
ثم هم بالانصراف فتشبثت بتلابيبه ،إلى أين ؟!إنني أخاف ،فقال قد بينت لك معالم الطريق فعليك أن تفيق ولا تكن كالغريق، زماني ليس هذا فاستفق  فليس الخردل كالفستق واعرف الحق ونحوه انطلق فقبلته مودعا،  لأنينه  سامعا فقلت متى اللقاء ؟ فقال: لا تشغل بالك واحفظ دينك ومالك ،فإن لم نلتق هنا ثانية ، فبجنة رب السماء .