إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 32 )

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 32 )
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 32 )
هبطت الطائرة  ، نقلة شديدة من مصر إلى أمريكا ، دبر كل شيء ، اتخذ طريقه نحو منزل أسرة زوجته المغلق منذ أمد طويل ، كانت مفاتيحه معه ، ذهب إلى هناك عندما سافر في زيارة لأخيه . عندما قرر الفرار ، أراد أن يكون فرارا بعيد المدى في مكان لا يعرفه فيه أحد ، حتى أخيه لن يُعلمه بوجوده في أمريكا ، عليه أن يعيش ويموت في الخفاء . سيقضي أيامه وحيدا دون أنيس أو رفيق ، يحمل بين جنبيه قسوة الحياة كلها ، المرض والفرار ممن أحبهم وانتظار الموت وحيدا . قد لا تُكتشف جثته إلا بعد أن تُصبح هيكلا عظميا ، سنوات طويلة والبيت مغلق ، قد تمر سنوات وسنوات ولا يفكر أحد دخوله ، ما يشغله كيفية الاطمئنان على أحبابه دون أن يكتشفوا مكانه ، لا بد أنه سيجد وسيلة . سيعيش يحتسي المر ، سيكون أشد حلاوة من المر الذي كان سيحتسيه لو ظل بجانبهم ، وهم يعلمون أنه يحمل مرضاً مشبوها فتاكاً ، أو لا يعلمون ويقرأ الحزن في عيني حبيبته على هجره لفراشها . الشك لن يجعل عينيه تغمضان ، خوفا أن ينتقل لهم المرض بأي وسيلة من الوسائل ، هذا المرض اللعين لم تكتشف كل جوانبه بعد ، الأفضل أن يظل بعيداً كالكلب الأجرب . وجد المنزل كما هو ، لم يتغير به شيء ، الورقة كما هي التي تحمل عنوانه في القاهرة التي تركها في زيارته السابقة ، على أمل أن تأتي ماري خالة ميرفت وتجدها وتتصل بهم . كان يأمل أن تحدث المعجزة ويعرف أخباراً عن والدة ميرفت ، ليخبرها بالحقيقة التي تركها له ناجي عنايت ، رحل وهي تظنه أباها. من كان يفكر بأن هذا المنزل الذي كانت تحيا فيه أم حبيبته وأبوها سيكون قبرا له ، يعيش داخله منتظرا نهايته بمرض مشبوه . فتح غرفة أبيها وأمها ، دقق النظر في الصورة التي تجمعهما معا ، ميرفت تحمل شبها كبيرا لأمها ، نزع الصورة واحتضنها ، وضع وجهه عليها وغسلتها دموعه ، قرر أن يتشبث ببعض القوة ، لتعينه على أيام لا يعلم كيف سيقضيها وحيدا مع الغربة ، وذكريات لا تنسى ، وحاضر متوثب كوحش ضاري .   
 
********
       لم يكن سهلا على ميرفت مجابهة الواقع بكل قسوته ، لم تكد تنجو من مرضها الخطير حتى لطمتها مصيبة أشد من قسوة المرض ، مقتنعة تماما بأن ما حدث بين ناديه وعادل لم يكن خيانة، لم يكن سوى لحظات من الضعف حاصرتهما فانزلقا دون وعي، لم يبيتا النية لأي شيء من هذا القبيل ، عادل زوجها وتوأم روحها ، وناديه صديقة بمثابة الأخت . لو كان الأمر اقتصر على تلك الليلة لهان الأمر وسامحتهما من كل قلبها . لكن الكارثة نتيجة هذا اللقاء الذي كان شديد الوطأة على الجميع . اختفى عادل من حياتها للأبد غير مصدقة أنها يمكن أن تعيش بدونه وانتحرت ناديه . شعرت بالأسف الشديد نحوها ، تخيلت قسوة العذاب الذي عاشت وماتت فيه ، ناديه رحلت واستراحت من عذابها ، لكن هي ستبدأ رحلة العذاب . بماذا ستخبر ابنها وابنتها عندما يسألان عن اختفاء أبيهما؟! ، كيف ستواجه أمه وأباه بهذا الخبر . يجب أن تبقى صورة عادل نظيفة أمام الجميع ، يجب أن تكتم سرها بين ضلوعها ، عليها أن تختلق أكذوبة كبيرة ، أكذوبة لا تثير الشك وعلامات الاستفهام حولها . كل شيء سهل ويمكن أن تدبره ، لكن المستحيل أن تعيش وهى لا تعلم إذا كان عادل على قيد الحياة أم غادرها ، أبدا لن تدينه على ليلته مع ناديه لكنها تدينه بشدة على هربه . تمنت لو لم يخبرها وعاش معها كزوج لينتقل إليها المرض ويفارقان الحياة سويا ، كما عاشا أيام الحب والسعادة سويا . قررت ألا تستسلم ،  ستكرس نفسها ووقتها للوصول إلى عادل ، اشتاقت أن تأخذه في حضنها وتهمس بدموعها في أذنه ، إن كان كُتب عليك الموت فلتمت على صدري أفضل من أن تموت غريبا ، كنت لا أنام وأظل مستيقظة حتى حضورك ليلا ، لأطمئن عليك وأراك وأنت تغمض عينيك والسعادة تملأ وجهك ، وأنت تنهل من نبع حبي ، تعالى حتى أطمئن عليك في إغماضة عينك الأخيرة ، كي أعرف أين ترقد ، وتصبح زيارتك هي تعزيتي الوحيدة حتى ألقاك. لم أكن أعلم أنك قاسيا ، قاسمتني قلبك وكل مشاعرك وحياتك ، فلماذا لا تقاسمني أحزانك وأكون لك اليد الحانية التي تمسح عنك ألمك لآخر لحظة في حياتك ، أنت تعلم أن جنية بحور الشعر لا تطيق فراقك ، عد أيها الحبيب لأني أقسمت ألا تغفل عيناي إلا بعد أن أجدك .
*********
       على الجانب الآخر ، في أمريكا ، كان هناك أيضا قلب يحترق ، وقسوة لا تعرف الهوادة ، لا تفرق بين ليل أو نهار ، تشد سياطها على ظهره ولا تتركه إلا بعد أن تنهك قواه . تضمد جراحه ليس رحمة به لكن لكي تعيده للوعي ثانية لتشد سياطها من جديد . الدموع والآهات والألم شيء لا يعبر عن عذابه بدقة ، حبيس بين الجدران لا يغادرها إلا للضرورة القصوى . لم يحاول عادل أن يتصل حتى بأخيه سامي خوفا من أن تدفعه رقة مشاعره لأن يفشي بمكانه لميرفت . فكر أكثر من مرة للذهاب إلى مستشفى متخصص ولكنه يعلم كطبيب أن هذا المرض لم يكتشف له علاج حتى الآن ، هل يذهب من أجل بعض عقاقير قد تطيل من عمره ، ولماذا إطالة العمر ، قصره أفضل من إطالته ، ففي القِصر راحة وفي الإطالة عذاب . تساوت كل الأفكار وتجمعت في فكرة واحدة ، كيف أنتم الآن يا أحبابي ؟ ، كيف أنت يا جنية بحور الشعر ، فكرة واحدة وسؤال واحد يسيطر على رأسه مع كل دقة من دقات قلبه .
     كان غارقا في فكرته عندما سمع دقات على الباب ، فزع كلص تناهى لسمعه صوت قدم رجل الشرطة تدب خلفه . من الذي يمكن أن يدق بابه في مكان لا أهل ولا معارف ولا حتى جيران . المنزل منعزل تحيط به الأشجار من كل جهة ، أقرب جار يبعد عنه بما لا يقل عن نصف ميل . الساعة تجاوزت الخامسة بعد الظهر ، هل يكون أحدهم لاحظ النور في المنزل بعد طول انطفاء ، عليه أن يفتح حتى لا يثير الشبهات . تقدم نحو الباب وهو يزحف وخوف مفاجئ تملكه . مفاجأة مذهلة ، لم يتوقع أن تكون  الدقات لأخيه سامي ، كاد أن يلقي بنفسه داخل حضنه لكنه تراجع للخلف والأسى على وجهه ، تقدم سامي منه وجذبه نحو حضنه يقبله وهو يقول .
_ كيف تكون طبيبا ولا تعلم أن هذا المرض لا ينتقل من شخص لآخر لمجرد التلامس الخارجي. 
قال عادل والمرارة تسيل من فمه :
_ أعلم هذا ولكن العلم شيء والشعور شيء آخر يا أخي ، الشعور الذي يتملكني هو أنني أصبحت كلبا مسعورا سأعقر كل من يقترب مني .
_ هون عليك ، ليست الأمور بهذا السوء ، أنت حتى الآن لا تعلم شيئا ،  اعتقد أنك حتى لم تقم بالفحوصات الواجبة في مثل هذه الأحوال .
_ أنت على حق فالصدمة كانت شديدة على نفسي ، بتر عادل حديثه وحدق في وجه أخيه ، قال وكأنه لم يفق بوجوده إلا في التو واللحظة .. ولكن كيف علمت بمكاني ومن الذي أخبرك بمرضي ؟
_ إهدأ يا عادل ولا تدع العصبية تسيطر عليك وسأوضح لك كل شيء .. كان من الطبيعي أن تتصل بي زوجتك لتستنجد بي في نكبتها المزدوجة ، مرضك واختفائك ، كانت المسكينة تتحدث معي كثكلى فقدت وليدها . أخبرتني بما تركته لها في خطابك ، انهارت عبر الهاتف وهي تقول بأنها مستعدة أن تفتديك بعمرها ، وعدتها بأني سأسافر إليها . لكن بعد لحظات من انتهاء حديثي الهاتفي معها وأنا أقلب الأفكار في رأسي عن أي مكان تكون قد اختفيت به ، وخاصة أن ميرفت أخبرتني بأنها بحثت عنك حتى في جحور النمل ، لست أعلم ما الذي دفع داخل رأسي بهذا المنزل الذي رافقتك لاستكشافه عند زيارتك السابقة ، كانت برفقتنا ناديه إن كنت تذكر ، من باب الأمل قررت أن آتي إلى هنا ولن أخسر شيئا ، والآن أحمد الله الذي ألهمني بهذا الخاطر .
 تقدم منه عادل ، تشبث بذراعه وهو يستحلفه ألا يخبر ميرفت عن مكانه ، وخاصة أنها لا تعلم شيئا عن الموضوع برمته ، فهي تظن حتى الآن أنها ابنة ناجي عنايت. هز سامي رأسه موافقا وقال:
_لن أخبرها بشيء لو انصعت لنصيحتي وأتيت معي لإجراء الفحوصات اللازمة لنرى ما يمكن عمله ، الوضع لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل .
قال عادل بصوت يأسه :
_ أنت تعلم جيدا أنه لا فائدة من كل هذا ، الأبحاث حتى الآن تقول بأن الذي يصيبه هذا المرض مقضي عليه لا محالة . 
قال سامي مشجعا :
_ نحن لا نستطيع أن نقرر أي شيء بدون الفحص أولا ، كما أنك تعلم أن الطب في تقدم مستمر والذي ليس له علاج اليوم سيكون له علاج في الغد فعلام كل هذا اليأس . 
قال عادل بكلمات مبتلة :
_هذا لو ترك المرض من ابتلى به حتى الغد ، وعموما ولو أني أعلم مقدما بأنه تحصيل حاصل سأرضخ لإرادتك ، لكن بعد أن تتعهد لي  بأنك لن تخبر ميرفت بأي شيء حتى لو رحلتُ عن الحياة فهذا أفضل . شربت كأس الحزن مترعا عند اختفائي ، لا أريد لها أن تتجرعه مرة ثانية ، يكفي ما قاسته هذه المسكينة. .. لكني أحملك نفس الأمانة التي حملني إياها عمها ناجي عنايت التي كبرت وهي تظنه أباها ، بأن تخبرها بالحقيقة ، وعلى العموم سأوفر عليك هذا الجهد ، فقط أخبرها بمكان المذكرات التي تركها ناجي عنايت التي ييوضح فيها كل شيء بالتفصيل . ومعها بعض التوضيحات بخط يدي التي تركتها بمكان أمين في منزلي ،  الآن أعتمد عليك أنت بعد أن توصلت لمكاني 
 ابتسم سامي ابتسامة غامضة وقال :
_ ومن قال لك بأن هذه المسكينة سيتوقف حزنها ، صوتها الملهوف عليك ينطق بأنها تموت كل يوم أربعة وعشرين مرة ، أخبرتني أنها لن تهدأ ولن يغمض لها جفن حتى تعثر عليك ، يكفيها منك أن تراك وتسمع صوتك .. هز رأسه ثم أردف .. بأي قلب يا أخي تبتعد عن امرأة تحبك هذا الحب العظيم. 
قال عادل متألما :
_ لأني أحبها فعلت هذا ، أنا أخطأت في حقها ويعلم الله أنه خطأ غير مقصود البتة  ،وما زاد الأمر تعقيدا ، بل بمعنى أدق أغلق كل المنافذ أمامي ، هو خطاب ناديه الذي تعترف فيه بإصابتها بهذا المرض اللعين ، كان الخيار الوحيد أمامي هو الهرب ، حتى لا أُحمل أعظم حب بالنسبة لي عذابا جديدا ، يكفي ما تحملته المسكينة أثناء فترة مرضها . 
قال سامي وهو يعانقه وفي داخله ألم يخشى الإفصاح عنه :   
_لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا عادل ، فهذا هو قدرك ، نحن لا نستطيع أن نأمر الأقدار لتسير طوع بناننا ، غدا سنذهب إلى المستشفى ، تفاءل خيرا وكن قويا كما عودتنا يا رجل ..
 
وإلى اللقاء مع الحلقة الآخيرة ؛