د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : هجران الغذاء الروحي

د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : هجران الغذاء الروحي
د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : هجران الغذاء الروحي
 
أصبح العزوفُ عن القراءة مشكلة عامة تواجه جميع الدول بلا استثناء في ظلّ قوة وسيطرة برامج التواصل الحديثة على العقول، فيعاني منها الكثيرون، وهي عند غيرنا "أزمة"، وعند آخرين مجرد "حالة"، لكنّها في واقعنا العربي المعاصر "ظاهرة" نصطدم بها يومياً مع إيماننا بأنّ الأمة التي تستحق الاحترام والتقدم هي التي تجد في العلم والقراءة غذاءً روحياً ضرورياً لا يقلّ أهمية عن غذاء الأبدان، وهذا المسلك القويم يجب أن ينخرط في مساره كلّ طبقات المجتمع بلا استثناء، ولكلّ طبقةٍ مجالها التخصصي، وكتبها الخاصة بها.
وفي غير بلادنا العربية تروج الكتب على اختلاف مشاربها أكثر، وتنتشر انتشاراً واسعاً، ولقد شاهدت الكتب معروضة للبيع في كثير من الأماكن، فيشاهدها القارئ بصورة دائمة، حتى في أماكن بيع الخضروات والفواكه، هذا إن دل فإنما يدلّ على وعي المجتمع بأمر القراءة، والعادة أنه يقبل على هذه المنشورات كثيرون قراءة ودرساً وإمعاناً ونظراً مقارنة بالقراء العرب، فالقارئ غير العربي حريص على أمر ثقافته بخلاف القارئ العربي، هذا إن سلمنا أن نسبة القراء في العرب قد تمثل شيئاً، ومع إقبالهم على الثقافة إلا أن القائمين عليها رأوا مع ذلك ضرورة إنشاء جرائد ومجلات علمية متخصصة هدفها الأساسي تجديد بواعث المعرفة والإقبال عليها في النفوس، وإذاعة المعارف بين العامة والخاصة، ونشر أخبار العلماء وكتبهم ومؤلفاتهم، حتى يقف المجتمع كله على الجهد المبذول في نشر الثقافة.
أتيح لي زيارة إحدى "المولات" المشهورة في ماليزيا، وقد خصصت إدارته ركناً أساسياً جعلوه مكتبة للكتب، وفي تلك المكتبة شيئان استرعا نظري، الأول الجلسة المريحة التي ينعم بها القارئ، حين يجلس مع كتابه في مكان بعيد كلّ البعد عن الضوضاء والمارة، والآخر نُظمت المكتبة بطريقة تجعل من يمرّ عليها لا بدّ أن يقف ولو كان كارهاً للقراءة غير مكترث بها، فكل عيون المارة متجهة إلى الكتب الموضوعة في رفوف جميلة بطريقة ابتكارية جديدة، وإلى مشاهد عظمة القراء الجالسين على موائد وكراسي من الخشب الصلب المزخرف بأرقى أنواع الرسوم، ولا تكاد أعين القراء ترتفع عما بأيديهم من الكتب في منظر بهيج يزيد القلب بهجة وحزناً في آن واحد، أما البهجة فمن إقبال الناشئة على القراءة بهذه الجدية، وأما الحزن فمن واقعنا العربي المعاصر.
ولحرصهم على القراءة ولأن مشروعهم توعية الأشخاص فقد سمحوا باستبدال الكتب، فكتبوا على واجهة المكتبة باللغة الإنجليزية هذه العبارة المترجمة: "هذه الكتب مجانية لكلّ من يهوى القراءة. ولضمان استمرار المكتبة المجانية وتعميم الفائدة يجب على مَن يأخذ كتاباً ترك كتاب آخر مكانه". 
إنّ الإنسانَ هو وَحْده المتسبب في قلةِ وَعْيه، وَهُو وحده القادرُ على إنقاذِ نفسِه بالقراءةِ.