كهوف المثالية بقلم حنان فاروق العجمي

كهوف المثالية بقلم حنان فاروق العجمي
كهوف المثالية بقلم حنان فاروق العجمي
 
أنوي اليوم السفر، والذهاب في رحلة للبحث عن كهوف المثالية فلتبحر معي عزيزي القارئ عبر سطوري لزيارة كهوف المثالية لعلنا نستفيد من هذه الرحلة
وصلت سفينتنا إلى الشاطئ ورست بأمان وأرى أمامي لافتة وسهما كُتب عليه اتجه إلى كهوف المثالية 
أشعر أنها رحلة مثيرة، ومتعبة بنفس الوقت فالعنوان وحده يصيبني بالقلق تُرى أيعيش بهذه الكهوف أشخاص مثاليون أهُم مخلوقات غير بشرية !
أرى عجوزا تبدو عليه علامات الحكمة، وقد عركته الحياة، ويظهر هذا على تعابير وجهه، لأرحب به وأسأله عن سر تلك الكهوف،  سألته بالفعل وكانت تلك إجابته:- 
إن توقع المثالية في كل شيء يجعلك تُصاب بالإحباط ،واليأس، وعدم تَحَمُّل العيش بالحياة 
قراءة، وحفظ معلومات كتاب ما مثلا، ثم تصدم بعدم تحصيلك أي معلومة منه على الإطلاق ، بالرغم ان هدفك الأساسي هو تخزينك العقلي لأكبر قدر من محتوى الكتاب لأنه قد يفيدك في دراستك الجامعية أو عمل بحث في موضوع هام تستعين به في رسالة الدكتوراه الخاصة بك، وهنا تُعانق خيبة الأمل بكل أريحية وتدخل في نوبات اكتئاب لا خروج منها، وتتساءل ما السبب، فيما قصَّرت؟
 وهل انا أقل من غيري في درجة الذكاء، أم أني قد أُصبتُ بمرض عضال لا شفاء منه
أدهشني كلام العجوز، وقلت له أكمل لنستفيد من خبرتك خاصة أنه أفاد بزيارته لكهوف المثالية وأنه يعلم عنها الكثير، وعن الشخصيات التي عاشت فيها 
أكمل حديثه فقال:-
مقابلتك شخص ما، والتعامل معه، وتعامل معك بلطف ثم فجأة تحول، وابتعد عنك بدون اسباب لم تفعل أي شيء يُذكر تجعله ينفر منك، ثم أنه كان يتحدث معك وكأنك توأمه الروحي، تبدأ في إلقاء اللوم على نفسك، وكأنك مُذنب، وأنك لا تستطيع بناء علاقات ناجحة مع الأشخاص، بل تجعلهم يهربون منك، وتظهر عليك أعراض الشخصية الهَشَّة الضعيفة التي لا تستطيع تَقَبُّل الواقع، وأيًّا كانت أسباب ابتعاد هذا الشخص عنك الحياة تستمر لا تتوقف على أحد، ورُبَّما لست سبب ابتعاده عنك على الإطلاق، رُبَّما لديه أسباب أخرى تَجَنَّب التعامُل معك بسببها أشياء تَخُصُّه وحده، قد يكون ليس الوقت المناسب له لبناء علاقات إنسانية مع الآخرين أو الدخول في علاقة زواج جادة على سبيل المثال لما يترتب على ذلك من مسئوليات تطلبها الحياة وأُسس بناء بيت سليم، وتَحَمّّل فكرة وجود شريك حياة، وأبناء، وكونه سيصبح عائلا لهم، وكثير من هذه العلاقات تنتهي لهذه الأسباب، وقد يكون هذا الإنسان اعتاد على الحرية، والعيش بمفرده لا يُحاسبه أحد، ولا يلومه أحد يعيش هكذا بدون التفكير في تكوين أسرة، ويستصعب فكرة وجود شخص آخر بحياته يَظُن أنه قد يتحكم به، ويسيطر عليه فيُفَضِّل الهروب من الآخرين  
تَقَبَّل أنك من البشر انت لست ملاك، ولست نبي حتى تستطيع عمل المعجزات، فالمعجزة هي التي يختص الله بها أحد عباده الصالحين الذين يختارهم لأداء رسالة معينة كالرُّسل، والأنبياء تقبل فكرة الفشل في تحقيق ربح كبير من مشروع ما وضَع احتمالات للخسارة مثلما وضعت احتمالات قوية للنجاح، والربح
خطط دائما أن هناك بديل حتى لا يتوقف تفكيرك عند نقطة معينة، ومن بعدها السقوط، والانهيار، كأنك صعدت جبلا وصلت إلى قمته، ولا تستطيع الحركة بعدها في أي اتجاه، وإلا سيكون مصيرك السقوط، وانتهاء حياتك، التعايش مع الواقع، وإيجاد الحلول الملائمة لكل موقف تتعرض له، يجعل منك إنسان أقوى لا يستسلم بسهولة، إن وجدت نفسك فجأة في صحراء، وقد كنت أحد مستقلي طائرة، وحدث خلل بها جعلها تسقط، وكنتَ من الناجين وقدَّر الله لك العيش، ولكنك وسط صحراء جرداء لا حياة، ولا ماء ربَّما تفكر في حفر بئر لما يستدعيه الموقف الذي وضعت فيه إما الاستسلام للعطش، والموت أو تحمل مشقة حفر بئر لإيجاد الماء الذي يجعلك تعيش، الإحباط والبكاء على اللبن المسكوب لن يُجدي نفعا، ولكن طريقة التفكير السليمة تُمَكِّنك من الحصول على ما تريد 
تلك هي الحياة ما بين صعود، وهبوط، وتأرجح، ولحظات قوة، وضعف، وحزن، وفرح هكذا هي الحياة 
لا تسير على وتيرة واحدة، وليست كلها مثالية 
 Perfectionism مصطلح يعني الكمال 
والخلو من الأخطاء والعيوب كما عرفه علم النفس ونقد الذات المستمر، وتلك صفات الشخصية التي تتوهم المثالية وتتقيد بأحكام الآخرين عليها، وتسعى جاهدة إلى وضع قواعد في شكل دائري حول نفسها حلقة تدور فيها دون توقف كالساعة التي لا تتوقف،  الشخصية التي ترغب بالمثالية في كل أمور حياتها أفعالها، وأقوالها شخصية مُتعبة لمن حولها تُصيبهم بالضجر، والخوف منها، والابتعاد عنها فلا أحد يرغب في سماع الانتقاد لتصرفاته بشكل مستمر، ولا أحد يخلو من العيوب، إذن فالشخصية التي ترى نفسها مثالية، وكاملة هي شخصية مريضة لا تتقبل عيوبها، ولا تتقبل احتمال الخطأ الصادر عنها، أو عن غيرها، والتدقيق بكل شيء، وتنميق الكلمات بشكل لا يحتمل المزاح، ووضع ضوابط، ومعايير لا تحيد عنها، والاهتمام بأدق التفاصيل في ارتداء ملابسها، أو في إعداد وجبات الطعام لنفسها، أوغيرها بمقادير محسوبة لا تقبل تعديل عليها، أو بديل لها، هذه الشخصية تريد إتمام أمورها، أو العمل المكلفة به على أكمل وجه، وإن لم تستطع إتمامه توقف هذا العمل على الفور إما تحقيق الاكتمال أو اللاشيء ، وهو النقيض تماما، وهذا أحد أخطر عيوب هذه الشخصية الذي يمكنه أن يعطل أمور حياة الشخصية المثالية كلها، وكفيل بإصابتها بالإحباط، والاكتئاب 
العلاج الأمثل لهذه الشخصيات هو تَقَبُّل وجودها، والمرونة في التعامل معها، ومع نقاط ضعفها، هي شخصية تخاف من الفشل ولايمكنها التعامل معه، يجب طمأنة مثل هذه الشخصيات، ومحاولة إقناعهم التخطيط بشكل واقعي، وليس بشكل خيالي لا يمت للواقع بصلة، والاعتراف بأن لكل إنسان قدرات لا يمكن أن يتعداها،  وعلى جانب آخر هناك شخصيات كانت عادية، ولكن فرض عليها مجتمعها أن تتحول لشخصيات مثالية، وإلا سوف تقع تحت طائلة وتهديد رفضها، وعدم قبولها بالمجتمع، كما أفادنا بذلك وتناوله بالدراسة الباحثان "توماس كوران " في جامعة باث بالولايات المتحدة،  و"أندرو بي هيل" بجامعة يورك سانت
وبعد الدراسة، والتحليل وجد الباحثان أن أسوأ أنواع المثالية والكمال هي التي يفرضها المجتمع على الأشخاص، والتي تؤدي إلى اضطراب الشخصية والهوس المرضي بالمثالية، ومشاعر القلق، والحزن الذي قد يؤدي للانتحار، وجدير بالذكر أيضا هوس الوصول إلى الوزن المثالي وأنظمة الغذاء المختلفة وتعددها التي قد يسعى البعض لتطبيقها دون استشارة طبيب لمعرفة إن كانت تناسبهم أم لا كنظام "الكيتو" أو الاعتماد على البروتينات فقط، أو الدهون فقط الذي قد يؤثر على مرضى الكوليسترول، والقلب،  ولا نغفل هنا الاتجاه الحديث لعمليات التجميل غير المبررة، ونحت الجسم وشفط الدهون المتكرر الذي قد يودي بحياة الإنسان، ويكون اللجوء لمثل هذه العمليات  للرغبة في الوصول للشكل المثالي إما هوس شخصي، أو فرض من المجتمع حتى يتم قبول الإنسان بمجتمعه، وإلا اعتباره متخلف، ولا يواكب العصر،  ومن هذا نخلص إلى أن الإنسان لم يخلقه الله ليتصف بصفات الكمال وإنما هي صفة يخص الله بها نفسه فهو فقط وحده المنزه عن كل نقص، فلا تسع للكمال، والمثالية فقط كُن إنسان طبيعي يخطئ، ويُصيب يُذنب، ويتوب، ويتقبل الله توبته فلا أحد خالي من العيوب، فلا تقعوا في فخ المثالية
هكذا انتهى حديثي مع العجوز الحكيم، واختفى فجأة، ولم أصل لكهوف المثالية!
يبدو أنها كانت أسطورة وهمية، ولا يوجد لكهوف المثالية أي أثر،  ولكني لا أنكر فضولي ورغبتي الملحة في التعرف على الأشخاص الذين عاشوا بتلك الكهوف التي حكى لي العجوز عنها للأسف اختفى، ولكنه ترك لنا العبرة، والعظة "لا تبحثوا عن المثالية فلن تجدوها".