سأل الغريب مبتسماً:
- كيف تسيرين في مهمتك
- على ما يرام.. أجابت سيلفيا.
- أراك مستمتعة بها.
- للغاية.
دهشة أفصحت عنها عينا الغريب وقال:
- كنت ترفضينها بشدة ومتخوفة جداً!!
- والآن كما قلت مستمتعة جداً.
- هل تودين الاحتفاظ بوظيفة عزرائيل بصفة دائمة؟!
- ولم لا.. وظيفة شيقة ليس بها روتين الوظائف التي اعتدنا عليها.
ازدادت دهشة الغريب: وسأل:
- وضحي.. كيف ترينها كذلك!
- مثلاً.. اعتدت أن أحافظ على انضباط مواعيدي سابقاً.. وبعد أن تسلمت وظيفة عزرائيل ازددت تمسكاً بانضباط المواعيد، لأنك أوصيتني أن أتقيد بالميعاد الذي أمام كل واحد بالقائمة، ولكي أضمن هذا الانضباط، أذهب قبل الميعاد بنصف ساعة. في إحدى المرات كان الدور على من يدعى " "داني "، ذهبت إلى منزله وبالطبع لم يرني لأن عصا الرحيل تخفيني كما أخبرتني سابقاً، فوجئت بشجار هائل بينه وبين زوجته، هو يتهمها بالخيانة، وهي تتهمه بالبخل والشح، وأنه يحرمُ أولاده من النقود ليبعثرها على الخمر والحانات. تطور الشجار وارتفعت أصواتهما، عندما أعاد إلى سمعها مرة ثانية انها بخيانتها له لن تزيد عن كونها باغية، قذفته بما تبقى في كأسه من خمر ، انتثر فوق وجهه وثيابه ، أطلق من حنجرته خواراً كخوار الثور ، نهض ولهيب النار يقفز من عينيه . ( نظرت في الساعة ) ، الباقي له في الحياة ثمانية دقائق وأربعون ثانية ، نظر حوله ووقعت عينه على السكين التي يلمع نصلها كالمرآة موضوعة فوق منضدة صغيرة ، هرول نحوها وقدميه تلعب بهما الخمر ، تحولت النظرة داخل عينيه إلى نظرة شيطانية ، فهمت ما يجول بخاطره ، طعنة للزوجة التي أفسدت عليه مزاجه ، خطت قدماه المهزوزتان نحوها ، بدأت هي في التراجع للخلف ، باب الغرفة خلفه وليس هناك سبيل لأن تفر من أمامه ، نظرت في الساعة ثانية الباقي له أربع دقائق وخمسة وعشرون ثانية ، دفعت المقعد القريب مني بقدمي ، طار وسقط أمامه ، تعرقل به وانكفأ ، زاد خوار الثور المنطلق من حنجرته ، انتهزتها الزوجة فرصة لتندفع نحو الباب ، الماكر تعلق بذيل ثوبها وهو لا يزال ممداً فوق الأرض ويده الأخرى تحاول الوصول إلى السكين التي طارت من يده . المشهد غريب جداً ، هي تحاول التملص من يده التي تقبض بقوة على طرف ثوبها ، تقسم بدموعها أنها لم تخنه أبداً وأن شيطان الخمر التي يعبها هو الذي يوسوس له وهو يجاهد للوصول للسكين ، لم يبق سوى خمسة وخمسون ثانية ، دفعت السكين بقدمي لتبتعد عن متناول يده ، ضاع الأمل من عينيه للوصول إلى السكين ، جذبها بشدة من ذيل فستانها ، انكفأت إلى جواره ، امتطاها ونظرة النصر تطل من داخل عينيه السكرى ، اتجهت يداه لتطوق عنقها لتزهق روحها خنقاً ، هي تحاول التملص من أسفله ، دفعت بيدي بعض الأكواب الزجاجية فسقطت على الأرض لتتهشم محدثة فرقعة شديدة ، اتجه نظره نحوها مندهشاً ، انقضت الثواني الباقية ، أشرت نحوه بالعصا ، أطلق زفرة عميقة ، مال إلى جانبه وتمدد إلى جوار زوجته . نهضت الزوجة واطلقت ساقاها نحو باب الغرفة ، توقفت على بابها ، نظرت نحو زوجها وهي واقفة مكانها ، لم يبد حراكاً ، تقدمت نحوه بحذر ، دققت النظر في وجهه وهي متأهبة للهرب إذا لزم الأمر ، عيناه لا تنطقان بشيء ، ركعت إلى جانبه تهزه بشدة ، اكتشفت أنه رحل عن الحياة ، رأيت ما أدهشني من قمة رأسي لأخمص قدمي ، دفنت وجهها في صدره تصرخ ملتاعة ، ترجوه ألا يتركها لأنها تحبه رغم كل اتهاماته لها وأعماله السيئة وأنها لا تستطيع العيش بدونه ، وبالرغم من أنني إمراه مثلها رددت في داخلي " ما أغرب النساء " ، انسحبت عائدة وأنا أفكر هل كان يحبها أيضاً؟ ، وأنه كان يهددها فقط بالسكين ولم يكن ينوي قتلها !! . أجاب الغريب:
- في الحقيقة لو تمكن منها كان سيقتلها.
- أي كل ما فعلته من أجل عرقلته من الوصول إليها كان لصالحها.
- نعم.. وهذا تصرف ذكي منك، لأن ساعتها هي لم تأت بعد وأيضاً يوضح لك رحمة السيد ، اختار له هذا الوقت للرحيل قبل أن يتورط في جريمة قتل يحاسب عليها في الدنيا والآخرة . ضحك الغريب وأردف. أرى أنك تقضين وقتاً مسلياً مع هذه الوظيفة.
ضحكت سيلفيا بدورها قائلة:
- قل أوقاتاً مسلية، الأغرب من هذه قصة الزاهد الذي يقيم في الجبل، دعني أحدثك بقصته:
وصلت إلى الجبل الموحش الذي يقيم به الزاهد ، قبل الموعد المحدد لرحيله بحوالي ساعة ، وجدته يسكن مغارة منحوتة داخل الصخر ، لا يستر مدخلها سوى أعواد من حطب الجبل مربوطة إلى جانب بعضها ، تُظهر ما بداخلها أكثر مما تُخفي ، في الداخل رأيت شبح إنسان ، تستر عظامه اسمالاً بالية ، صعدت عيناي إلى وجهه ، كأن الوجه ليس وجهه ، لا يتناسب مطلقاً مع جسده الذي لا يخفي داخله سوى طبقة رقيقة من الجلد الذي لفحته شمس الجبل ، النور الذي يشع من وجهه يضيء داخل المغارة المعتمة ، يجلس فوق الأرض تنفذان من بين الحطبات التي تستر الباب كأن شعاعاً يربط بينها وبين وجه السماء . ينساب من بين شفتيه صوت شاب لا يتناسب مطلقاً مع سنوات عمره التي تبدو واضحة من شعر رأسه ولحيته المختلطان، نهايتهما تقترب من وجه الأرض كقطعة من صوف غنمة ناصعة البياض. بكلمات بسيطة يناجي الله وكأنه يتحدث مع إنسان امامه، تارة يبتسم وتارة تهطل دموعه ، تبدو مضيئة ببريقها الذي يشبه حبات الماس . فجأة توقف ونظر إلى الأرض، همس ببضع كلمات لم أسمعها، ارتفع نظره وانساب من بين حطبات الباب ، نادى صوته الشاب :
- تفضلي يا ابنتي، لماذا تقفين بالخارج؟!
رعدة سرت في جسد، المفروض أن العصا الخضراء تخفيني عن عينيه ، ظننته يتحدث إلى إنسانة أخرى فالتفت إلى الخلف ، لكن لم يكن سواي .
انطلق صوته مرة أخرى مصحوباً بضحكة صافية:
- اقتربي يا ابنتي لا تخافي، أعلم سبب زيارتك.
توترت أعصابي ولم أعد احتمل الوقوف، المفروض أنه لا يراني، عصا الرحيل وهي في يدي تحجبني تماماً، هذا ما أكدته أنت لي . تغلبت على ساقي المرتعشتين، تقدمت نحو المغارة، طوقتني الدهشة تماما وأنا أتخطى الباب وكأنه لا وجود للحطبات، مد يده وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه، تذكرت المهمة الذاهبة من أجلها ووجدت دموعي كصنبور تالف يزُف مياهه دون توقف. ربت فوق يدي وضحكته الصافية تكشف عن قلب في نقاء الثلج وقال:
- كنت أنتظرك، لكن لم أتوقع أن أرى عزرائيل بهذا الجمال، والشيء الثاني لم أتوقع أن يحضر قبل الموعد بساعة كاملة، عادة يحضر قبل الموعد بلحظة واحدة.. ازدادت ضحكته الشابة وأكمل.. يبدو أن العمل قليل اليوم.
شعرت بثقل في لساني، حاولت ونجحت في المحاولة أن أُزيح ثقله وسألته لأغير من وجهة الحديث:
- منذ متى وأنت تقيم وحيداً في هذا الجبل؟
- منذ خمسة وتسعون عاماً، أتيت إلى هنا وأنا في الخامسة والعشرين، واليوم أتم المائة والعشرون وهو موعد رحيلي.
نظرت حولي مندهشة، وقبل أن أسأله كيف أحصى هذه السنوات، وهو لا يملك لا ورقة ولا قلم ، قال والابتسامة الجميلة لا تفارق ضياء وجهه :
- ليس هناك صعوبة في حساب هذه الأعوام الطويلة ، هل تشاهدين الثلاثة الأوعية الطينية التي بجوار بعضها ، لو نظرت بداخل الأول ستجديه فارغاً ، وأيضاً الثاني ، ولو أحصيت عدد العصيات الطويلة نوعاً في الوعاء الثالث ستجدينها مائة وعشرين عصية ، ضحك عندما شاهد عدم الفهم فوق وجهي وأكمل : كما قلت لك الأمر ليس به صعوبة ، عندما أتيت إلى هذا المكان في الخامسة والعشرين ، صنعت هذه الأوعية الثلاثة من الطين وأطلقت عليها أوعية العمر ، الوعاء الأول هو وعاء الأيام ، والثاني هو وعاء الشهور ، أما الثالث فهو وعاء الأعوام . ألقيت في ذلك اليوم داخل الوعاء الثالث خمسة وعشرون عصية كبيرة بعض الشيء تمثل سنوات عمري في ذلك الوقت ، ووضعت في الوعاء الأول عصية صغيرة تمثل اليوم الأول من الشهر الأول للعام السادس والعشرين ، وهكذا ألقي كل يوم عصية جديدة في الوعاء الأول حتى تكتمل عدد أيام الشهر ، فأضع في الوعاء الثاني عصية أكبر من الأولى تمثل الشهر الأول ، وعندما تكتمل في الوعاء الثاني أشهر العام ، أضع في الوعاء الثالث عصا طويلة تمثل عام جديد ، وهكذا دائماً أفرغ الوعاء الأول بعد انتهاء أيام الشهر والثاني بعد اكتمال أشهر السنة وأبدأ الكرة من جديد ، واليوم لست في حاجة لأن أبدأ يوماً جديداً مع الوعاء الأول ، لأن ساعة الرحيل قد دنت .
قالت سيلفيا بفضول:
- اسئلة كثيرة تزاحمت على طرف لساني فهل من حقي السؤال؟
- بالتأكيد يا بنيتي لا يزال أمامنا الوقت.
- وهل ستجيبني؟
- من حق السائل أن يسأل ومن حق المجيب ألا يجيب سوى على ما يراه قابل للإجابة.
- ما الذي دعاك للحضور إلى هنا، وخاصة أنك كنت لا تزال في بداية أعوام الشباب؟!
- كانت أمامي دعوة من جهتين، دعوة لما أنا فيه من ثراء وشباب وقتها، ودعوة لا تقبل بي إلا كما ولدتني أمي
، وفي ليلة حلمت بأمي التي كانت قد رحلت عن الحياة ، كان حلماً غريباً ، كأنها ولدتني في التو واللحظة ، ووقفت أمامها وأنا أشعر بالحياء وأنا شاب في الخامسة والعشرين وأقف أمامها عارياً ، سألتها أي الدعوتين ألبي ، شعرت بيدها تربت على قلبي ، وقالت : اذهب إلى الذي يقبلك ويرحب بك كما أنت الآن ، لأنه لا يريد منك سوى هذا وازدادت يدها ربتاً فوق قلبي . لم أتردد في تنفيذ وصيتها، والآن أعلم أني ربحت ما لا يقاس بكنوز العالم كله
- كيف علمت بأن ميعاد رحيلك اليوم ولم يبق لي سوى هذه الدقائق؟!
ابتسم الزاهد وقال:
- اتفقنا على أن السائل من حقه أن يسأل والمجيب لا يجيب سوى ما يريد الإجابة عنه.
- فهمت، لكن ألا تخشى الموت؟!
- كيف أخشاه وأنا انتظره، الموت بالنسبة لي هو ثمرة هذه السنوات الطويلة التي قضيتها بالا يفصل بيني وبين الله سوى هذا الفضاء.
- ما الذي استفذته من تزهدك وحيداً طوال هذه السنوات؟