«القمة العربية الصينية» فى الرياض مثلت نقطة إضافية للمنحنى الصاعد فى التطورات الإقليمية والدولية؛ حيث تعكس من ناحية حالة من «الإقليمية الجديدة العربية»، التى تتحدث مع بعضها البعض بطريقة مختلفة عما كان عليه الحال قبل سنوات قليلة، ومع دول العالم من خلال منطلقات لم تكن معهودة من قبل. من ناحية أخرى، فإن القمة على هذا النحو، الذى يماثل قمة أخرى جرت قبل أشهر مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمثل إدراكًا أن العالم ربما لم يغادر «القطبية الثنائية»، التى كانت قائمة قبل انتهاء الحرب الباردة إلا لثلاثة عقود، وبعدها فإن التغيرات أسفرت عن قطبية ثنائية «أمريكية صينية» هذه المرة.
الصعود المثير للصين خلال العقدين الأخيرين يرشحها من خلال الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح أيضًا لكى تكون ممتدة فى العالم- والفضاء أيضًا- مهما كان قصيًّا أو بعيدًا. ارتفعت الصين كثيرًا، وانكمشت الولايات المتحدة وتواضعت، ولكن وصولها إلى أرجاء الكون الفسيح لا يزال مؤثرًا. القوة العظمى الروسية تراجع تأثيرها القطبى كثيرًا، اللهم إلا فى عدد محدود من الدول مثل سوريا وكوريا الشمالية وبلاد مماثلة تعانى حروبًا أهلية، أو تقف معزولة فى عالم مزدحم. المعضلة فى العظمة الروسية أنها تعتمد فقط على القوة التسليحية الجبارة، التى تحتوى على آلاف الرؤوس النووية القادرة على تدمير العالم عدة مرات. من الناحية الاقتصادية فإن النفوذ الروسى فى الأسواق العالمية لا يتعدى دورها فى سوق النفط والغاز، وهو ما يُقربها من النمط السائد بين الدول النامية، حيث يجرى الاعتماد على سلعة واحدة أو حزمة من السلع المتقاربة.
السلوك الروسى لم يكن مقنعًا لدى دول العالم الأخرى خلال الأزمة الأوكرانية أنه سلوك مسؤول وحساس لرفاهية وحالة العالم الاقتصادية. وبشكل ما فإن السعى الروسى فى مراجعته للنظام العالمى بعد انتهاء الحرب الباردة اقتصر على محاولات إعادة صورة أخرى من الاتحاد السوفيتى السابق، وهو ما ظهر فى ضم أجزاء من جورجيا وأخرى من أوكرانيا دون أيديولوجيا عالمية.
الصين، وبالطبع الولايات المتحدة، كانت لهما قدرة على الوصول إلى أرجاء العالم المختلف بسلع وبضائع وتكنولوجيات تقاوم الفقر وتتجه نحو النمو، وتقدم للعالم نموذجًا للكفاءة والإنجاز. الفارق بالنسبة للعالم العربى ودول العالم النامية أن الصين لا تحمل على أكتافها نظريات تبشيرية مثل تلك التى تحملها الولايات المتحدة عن صراع الحضارات أو «الديمقراطية فى مواجهة السلطوية»، وإنما تقدم للعالم نموذجًا لمَن يريد أن يأتى ليتعلم ويرى. تاريخيًّا، فإن الصين كانت معروفة بأنها «المملكة الوسطى»، التى يأتى إليها العالم ولا تذهب هى بالضرورة إليه، فلا يوجد فى المعروف من التاريخ الصينى شخصيات تماثل «ماركو بولو» الإيطالى أو «ابن بطوطة» الرحالة العربى. الآن، فإن الصين تخرج إلى العالم بطريقة مختلفة تتمتع بدرجة هائلة من المرونة، فلها علاقات وثيقة وعميقة مع إسرائيل فيما يتعلق بالتكنولوجيات الحديثة، وفى الوقت نفسه فإن علاقاتها مع الفلسطينيين والدول العربية قوية. ورغم علاقاتها الوثيقة مع إيران، فإن لديها علاقات لا تقل عمقًا مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج فى عمومها.
الصين لها وجهة نظر فى ضرورة مراجعة النظام الدولى، الذى ساد بعد نهاية الحرب الباردة وأدى إلى «العولمة» وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها الدولارية، وعبّرت عن ذلك فى مشاركة دولية، فى بيان خاص مع روسيا، فى ٤ فبراير الماضى؛ لكن موسكو أخذت البيان وأوصلته إلى غزو الأراضى الأوكرانية وإحداث شلل فى الاقتصاد الدولى.
هنا، فإن التعامل العربى مع الصين ينبغى أن يقوم على الخصوصية القطبية الصينية، التى لا يصدق عليها النظر من خلال البدائل التى يجرى تبديلها بين القوى العظمى؛ ولا الطرق القديمة، مثل عدم الانحياز، والتى تقوم على اللعب على حبال متناقضة. الصين تفهم جيدًا أن العالم معقد بما فيه الكفاية بأكثر ما هو الحال فى الألغاز الصينية، وأن هذا التعقيد لا يستقر دون أخذ كل حالة ومصلحة وفق مقوماتها الأساسية والعائد الذى تقدمه لأطراف تختلف فى كل شىء اللهم إلا أنها جميعًا دول لها أوضاعها «الجيوسياسية» ومصالحها «الجيواستراتيجية» وطبائعها «الجيوثقافية». المهم لدى الصين وما ينبغى أن يكون عليه العرب كذلك ألّا يكون هناك استغراق فى محاولات حل الألغاز والأحاجى، وإنما الاستعداد للتبادل فى المصالح والسلع، مع عدم افتراض أن العلاقات الوثيقة تعنى بالضرورة تحالفًا ضد أطراف ثالثة. مَن يراقب التصويت الصينى فى المحافل الدولية سوف يجده غالبًا يمتنع عن التصويت مادام لا يقترب من المصالح الصينية المباشرة.