التجارب الإنسانية تراث مشترك لجميع الأمم بقلم: بهجت العبيدي

التجارب الإنسانية تراث مشترك لجميع الأمم بقلم: بهجت العبيدي
التجارب الإنسانية تراث مشترك لجميع الأمم بقلم: بهجت العبيدي
 
 
إن التجارب الإنسانية هي رصيد وتراث مشترك للناس جميعا، وتلك التجارب الإنسانية مهما كان اختلاف الظروف والبيئات الجغرافية التي أنتجتها، فإن الإنسان البصير يمكنه أن يقرأها بوعي ويتأملها بعمق ويستفيد منها في بيئة أخرى وظروف مغايرة، هذا الذي لا يعني بكل تأكيد استنشاخ هذه التجربة أو تلك لهذه الجماعة البشرية أو تلك، بل يعني أن هناك قواسم مشتركة بين الناس جميعا في كل زمان ومكان ومن هنا فإن الاستفادة واردة من كافة التجارب التي لا يجب أن تستغرقنا بقدر ما يجب أن نستوعبها - نحن الدارسين - لها المتأملين فيها. 
يظل بناء الإنسان هو الشغل الشاغل لكل صاحب فكر، ويظل تشكيل وعي الإنسان هو ذلك الهدف الذي يسعى لتحقيقه كل مفكر، ويبقى الوصول بالإنسان لحالة الإدراك المتيقظة هو ما يجب أن تعمل على تحقيقه المؤسسات المعنية بالنهوض بالفرد ومن ثم المجتمع، ومن بعد ذلك الأمة، هذا الإدراك وذلك الوعي اللذان يضمنان بناء قويا لإنسان يستطيع أن يطّلع بمهامه ومسؤولياته: الشخصية والعامة.
لقد استطاعت الدول الأوربية، بعدما مرت بفترة من الصراع والتناحر والحروب المهلكة، أن تصل إلى صيغ تضمن لأهلها والمقيمين فيها حياة كريمة، آمنة، لأنهم تعلموا، ليس من تجاربهم فحسب، بل من تجارب الآخرين، فبعدما بلووا بالحروب، وتجَرَّعوا مرارتها، وخلَّفت ملايين القتلى وملايين الجرحى، وتركت البلاد خرابا يبابا، نظر هؤلاء القوم العقلاء! ليجدوا بعد أن تلوثت أياديهم بالدماء، نفوسهم وقد ملأتها الحسرة والحزن والألم على ذلك، وأيقنوا أنه لابد من اتخاذ طريقا جديدة، فاتخذوا قرارا لا رجعة فيه بتطليق الاستبداد طلاقا بائنا، والعمل من أجل الحياة، ونبذ العنف، وقهر الموت.
إن أهم شيء لجأ الأوربيون له هو العقل، فعلموا، يقينا، أن ما يملأ ذهن الإنسان من أفكار وقناعات وإيمان هو الذي يحركه، ويدفعه للفعل، بهدف الوصول إلى ما يفكر فيه، وتحقيق ما يؤمن به، وتنفيذ ما يقتنع به، فإذا آمن العقل بفكرة التعايش المشترك، فإنه يسعى ويعمل على الحفاظ على القواسم المشتركة التي تجمعه بأخيه الإنسان، وهو ما احتاج الأوربيون أن يغرسوه في نفوس أبنائهم، فاهتموا بصناعة الإنسان بمفهومه الأشمل، الذي يصطبغ بالصفات الإنسانية، فحرَّم المجتمع الأوربي النظرة العنصرية، التي كانت سببا فيما تمر به الولايات المتحدة الأمريكية اليوم من أحداث وتخريب، نتيجة لمقتل جورج فلويد "أسود البشرة" على يد شرطي أبيض، وهو ما ثار له كل الشرفاء في العالم،  كما كرَّه المجتمع الأوروبي النظرة الطائفية، وجرَّم كل ما من شأنه أن يفرِّق بين أبناء مجتمعه على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية أو جنسية، تلك الفروقات التي تشحن المجتمع بالبغضاء، وتصبغ البلاد بالتعصب، وتملأ القلوب بالغل والحقد، فتُذْهِبُ منه الطمأنينة والسلام والمحبة.
كان التعليم هو السبيل الأول لكي يعيش المجتمع الأوربي في سلام وأمن، حيث عمل التعليم، في أوربا، على تحرير العقل من قيود ضيقة مازال يدور فيها في مجتمعات أخرى على رأسها وفي قمتها مجتمعاتنا العربية، حيث مازال الإنسان يُقيَّم حسب عقيدته مرة، وطائفته اخرى، ومكانته الاجتماعية ثالثة، وبيئته رابعة، ولونه خامسة، وكل ذلك يخلق حالة صراع تودي بالمجتمعات ذاتها، قبل أن تودي بحياة البشر منها.
لا يمكن أن تجد التعليم الأوربي، النمسا مثالا، متضمنا نظرة مُسْتَعْلِية، ولا يمكن أن تقرأ في أحد الكتب الدراسية ما يصب في خانة العنصرية، ولا تجد موضوعات منتقاة بحيث تُمَجِّد عنصرا وتُحَقِّر آخر، لا من نفس أبناء المجتمع، ولا من الأجناس الأخرى في العالم، لقد استطاعوا أن ينتصروا للعقل وأن يعلوا المنطق، فاستقام الفهم، واستقامت معه الحياة التي تُعْلِي القيم الإنسانية، وتنبذ كل أنواع التعصب والطائفية، فانْتَفَتْ بالتبعية الصراعات، التي مازالت تعاني منها تلك الدول التي أهملت المفاهيم الصحيحة لقيم التعايش، وخلت برامج تعليمها من السمو بالعقل البشري الذي لن يحدث إلا بإعلاء تلك القيم.
هذا الإهمال الذي جعل منطقة كمنطقة الشرق الأوسط بتاريخها العريق تكون سببا بأن تصبح الأقل سلاما والأكثر، في ظل الصراعات المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، وأزمة تدفق اللاجئين، والهجمات الإرهابية التي تطال بقاع الأرض المختلفة، حسب مؤشر السلام العالمي Global Peace Index، وفقا للتقاريره السنوية، وتظل الدول العربية في ذيل القائمة.
وعلى الجانب الآخر المشرق فالذي عمل من أجل التعايش والسلام لأبناء وطنه، لم يذهب عمله سدىً، بل أحيى صانعيه في سلام وأمن وهذا ما يؤكده مؤشر السلام العالمي حيث يضع دول مثل آيسلندا والدنمارك والنمسا ونيوزيلندا والبرتغال الأكثر أمنا.
كما يؤكد المؤشر أن أوروبا تعد واحدة من أكثر بقاع الأرض أمنًا في العالم، حيث تحتل دولها دوما قائمة أكثر الدول أمنا في العالم من أصل 10 دول. وما كان ذلك ليحدث ما لم تقم الدول الأوربية على أهم صناعة في العالم وهي صناعة الإنسان.