مراد ناجح عزيز يكتب : مذكرات رجل العُزلة

مراد ناجح عزيز يكتب : مذكرات رجل العُزلة
مراد ناجح عزيز يكتب : مذكرات رجل العُزلة
 
 
يعود متأخرا , يتأبط جريدة وبعض أوراق , يمشي كالسلحفاة , لاشئ يستدعي العجلة , فلا زوجة ولا أبناء يثقلون كاهله بطلبات كل يوم , يأكل ما يريد وينام وقت ما يحب , حياة هادئة حد التوتر لكونها بهذا الهدوء الذي تتجمد بين طياته أي معني للحركة والنشاط , استسلم لتلك الحياة من زمن بعيد , تعود عليها كمن أدمن شرب السجائر رغم إلحاح الكثيرين علي الإقلاع منها , ولكنه أصر علي أن يظل يمضغ أيام عمره بأسنان الوحدة , محافظا بكل قوته علي ماهو عليه , يجلس وحيدا علي المقهى في مكان معتاد يعرفه الجميع دون أن يزاحمه احد أو يتطفّل عليه , فقط كان يقطع عليه صمت وحدته احد المارة عندما يلقي عليه التحية وكان واجباً عليه أن يرد , الجميع يعرف انه يفضل البقاء منفردا علي أن يستأنس بأحد يكدر صفو جلسته بكلمات لا يروق له سماعها , فقط كان يترك مساحة لزيارة أخته الوحيدة إليه , كان يستأنس بزيارتها ولو لساعات قليلة , تفتح فيها نافذة للحياة وتعيد إشراقها من جديد بلمسات حانية , تبدد خطايا الوقت المختبئة بين الزوايا وداخل الشقوق , وتسعده بطعام ينضح بأنفاس امرأة خبيرة بأعمال البيت , تزوجت صغيرة بعد وفاة والدها , تكفل هو بزواجها وإقامة حفل زفافها , فقط كان يطلب منها ألا تفعل شيئا داخل غرفته الخاصة وألا تبعثر الأوراق التي وضعها علي المكتب بعناية شديدة , منذ ذلك التاريخ ظل وحيداً لسنوات طويلة , يتذكرها فتدمع عيناه , حبيبة قلبه الأولي والاخيره , فتاة ذو أصول عربيه ولكنها تحمل الجنسية الفرنسية , ممشوقة القوام خمرية البشرة تتحدث العربية قليلا كما كان يصفها , أحبها كثيرا وأصبحت جزءا كبيرا من حياته , أو هي الجزء الأكبر فيها , تعوّدت أن تأكل الأطعمة المصرية نزولاً علي رغبته , كما أنها بالفعل أطعمة شهية ولها مذاق مختلف عن كل الأطعمة في كل مكان , إنها بصمة المصري التي لم ولن تتكرر , زيارات متعددة لالتقاط الصور التذكارية بجوار أبي الهول والاهرامات , زيارة للأقصر حيث يقف التاريخ شامخاً وشاهداً علي جمال وروعة المصري القديم , بدأ يتعلم هو اللغة الفرنسية , فاللغة ألام تستطيع من خلالها أن يصل كل ما تقوله بحيويته ونقاؤه وجماله , لذلك حرص هو الأخر أن تتعلم هي اللغة العربية دون كسور , كان يريد أن يستشف منها مدي تعلقها به ورغبتها في كونها زوجة له , توفي والده وكانت هي الرصاصة الطائشة التي قتلت طائراً يحلق في السماء , يحلم بعودته سالماً إلي صغاره , ويمني النفس بأيام سعيدة قادمة , ترك له والده أخته الصغرى لم تكمل بعد تعليمها الثانوي , فما كان منه ألا أن تنازل كمداً عن كل أحلامه , ويودعها الأوراق التي طالما خبّأ عن الجميع ما تحمل بين طيّاتها , إنها سنوات عمره التي قضاها يحلم بأشياء لم تتحقق .