مدحت بشاي يكتب : من فرج فودة إلى أهل الحوار الوطني

مدحت بشاي يكتب : من فرج فودة إلى أهل الحوار الوطني
مدحت بشاي يكتب : من فرج فودة إلى أهل الحوار الوطني
 
أتصور أن يتصدر المشهد الحواري الذي دعا إلى تفعيله بين أبناء الوطن الرئيس عبد الفتاح السيسي وأن يكون في مقدمته المفكر الوطني النبيل د. فرج فودة صاحب أهم الرؤى الاستشرافية الحية والباقية في اتجاه تفعيل منظومة إصلاح في مجال الفكر الديني والسياسي ، فهو من حرص على تبيان أن أى سلوك سلبى يصدر عن أصحاب أى دين لا يعنى أن الدين غير صحيح أو يشوبه أى شىء نستغفر الله ، ولكن الدين مقدس والبشر غير معصومين من الخطأ، ، لذلك كان " فودة " حريصًا على أن يضع كل في موضعه وخانته حفاظًا على مكانة الدين المقدسة والفصل بينها وبين أى سلوك بشرى غير معصوم بالطبع ..
" إلى زملاء ولدى الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقًا لمقولة آبائهم عنى.. إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أننى دافعت عنهم وعن مستقبلهم وأن ما فعلوه كان أقسى علىّ من رصاص جيل آبائهم "..كان هذا هو الإهداء الذى كتبه الراحل العظيم فرج فودة "١٩٤٥- ١٩٩٢" فى كتابه " نكون أو لا نكون " الصادر فى عام ١٩٩٠ قبل اغتياله بعامين.
نعود إلى قاعة " الحوار الوطني " .. سيذكركم " فودة " يا من تشاركون في جلسات الحوار أنه كان أول من عرض بالتفصيل سيناريو وصول الإخوان إلى السلطة، وماذا سيفعلون؟ وكيف سيخرجون من القصور؟..وحدث ما توقعه بالضبط تقريبًا...وعليه ، ينبه " فودة " على المشاركين في فعاليات الحوار وهم يناقشون سبل الإصلاح للخطاب الديني والسعي لتحقيق أسس بناء دولة مدنية أن يدركوا أن الإخوان ومن شابههم قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهًا بكره ، ولفظوه فحق له أن يلفظهم ، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن ، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم ، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون ، ووضعوا أنفسهم في موضع الأوصياء على الجميع ، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم ..
وعليه أيضًا ، سيحذركم "فودة " من أهل الشر ويؤكد لكم أنهم سيزدادون عتوًا، وستزداد الكثرة لهم عداءً وكرهًا، ولن يستمر البسطاء بعيدًا عن المعركة، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقًا، وضد كل من يهوى الظلام ويسعى للإظلام، سيصرخون ضد الغناء، وسيُغنى الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب لها الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون، وسيملأون الدنيا صراخًا. وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستتضاعف، وستنفجر قنابلهم، وتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليًا حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع...أيها الصارخون، واإسلاماه واإسلاماه. وفروا صراخكم، فالإسلام بخير، والخطر كله على الإسلام إنما يأتى منكم. حين تدفعون بشباب غض فى سن الصبا، إلى ترك الجامعة لأن علومها الحديثة علمانية. وتحشون رءوسهم بخرافات أهونها أن الرعد صراط شيطان عظيم، وأن المرأة باب الشر، وأن المجتمع كله جاهلى. 
وفي جلسات الحوار الوطني التي تناقش الذهاب لتفعيل آليات البحث العلمي وإعمال النظريات العلمية لتحقيق التقدم ، سيذكركم " فودة " بما جاء في كتابه " الحقيقة الغائبة " .. يقول " ليس متصورًا أن يقود المجتمع إلى عصر الفضاء من يتصورون التكنولوجيا بدعة وضلالة ومن ينظرون لكبار المخترعين والمفكرين على أنهم رسل الصهيونية والإمبريالية لضلال العالم، ومن يفرقون بين الخطأ والصواب بالاستخارة ومن يخططون للمستقبل من خلال تفسير الأحلام ومن لا يرون فى الحضارة الغربية غير الدعارة والإيدز، والأهم من ذلك من يسعون لقيادة المجتمع والحكم دون أن يقدموا برنامجًا سياسيًا.. يحسمون فيه ما اختلفوا عليه بدءًا من اختيار الحاكم، وانتهاء بالديمقراطية والأحزاب. .. " ..
سيذكر " فودة " الحضور لجلسات " الحوار الوطني " حول أثر الفكر المتطرف على الأمن الاقتصادي المصري بجرائم " المستريحين " في زمانه ، أليس هو أول من كتب عن شركات الأموال الإسلامية بمخاطرها، وحذر الناس منها، وأنهم سوف يخسرون أموالهم، وقد كان عدد من رجال الدين يعمل كمستشارين لهذه الشركات ، وقد هاجم فرج فودة الجميع بعنف وضراوة. وحدث ما تنبأ به فرج فودة بأن هذه الشركات أفلست وخسر الناس أموالهم. وكان بعض كتبه تتسم بالحس الكوميدي مثل "الملعون" ، " النذير والملعوب " وكتب عن حقوق الإنسان والإرهاب فى مصر.
أخيرًا ، في ذكرى رحيل " شهيد الكلمة " د. فرج فودة " المفكر والتنويري العظيم ينبغي أن نؤكد عبر الحوار الوطني على أن نشر فكر التنوير بمفاهيمه المعاصرة يجب أن يكون مهمه أولى من مهام المفكرين والمثقفين والاعلاميين ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان ، مع مساندة ودعم علماء الدين المستنيرين له ، وذلك انطلاقاً من النظر إلى الإنسان باعتباره القيمه المركزية العليا ، حيث إعلاء أهمية تحكيم العقل في كل شؤون الحياة، أما عن دور الشباب في حركة التنوير فان من أكبر مهامهم أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لجميع التيارات السياسية والفكرية والثقافية والدينية والمذهبية ليزيل كافة الحواجز النفسية والمذهبية والأيدلوجية فيما بينهم ، فجميعهم أبناء وطن واحد، دون تخوين أو تكفير أو تفسيق أو اتهام الآخر المخالف كما أن عليهم أن يحسنوا الظن بمن يخالفهم، عليهم إخضاع كل ما يقرؤونه أو يستمعون اليه للفكر النقدي ففي ذلك التحصين الفكري الشافي من أمراض التطرف والتعصب وكراهية الآخر، كما أن عليهم التمسك بمفهوم المواطنة كانتماء أعلى فوق كل الانتماءات والولاءات، فالمواطنة هي الابن الشرعي لفكر التنوير والإعمار الإنساني ..
لاشك أن التفكير العلني بات ضرورة وحقا لنا من ضرورات وجودنا ذاته ونحن بصدد إقامة حوار وطني ويكون من المسموح، بل من حقنا أن نختلف ولا يقتصر اختلافنا على الأفكار والقناعات حتى تتكون تآلفات فكرية وسياسية وطنية، فيكون الاختلاف في التأييد والمعارضة، في الولاء والعداء في التواصل والتقاطع في الانجذاب والنفور والاقتراب الطيب والتباعد الاضطراري وهكذا من الأمور المُجازة.
وعليه تبرز أهمية فكرة التعددية التي تعني التنوع والاقتراب على المستوى العقلي والإنساني والحضاري ونحن نتعامل مع واقع الاختلاف عقلانيًا وإنسانيًا وحضاريًا كي لا يتحول الاختلاف إلى احتراب على مستوى الوجود الوطني فتتشكل الفرق المتنازعة التي إذا ما صُعِّدت وتيرة الصراع بينها إلى أكثر مما تتحمله الأوضاع، تنقلنا حالة الاحتراب إلى تكريس للبغضاء، وسماح لروح الشر والعدوانية لتتفشى، وإفساد للحرث والنسل وهدم للبناء الحضاري.
لذا جاءت رسالات السماء لتوصي وتحرض بل تلزم المؤمنين بها على الاعتدال والتآخي، وجاءت الدعوات الإنسانية لتجذر هذه المفاهيم وتدعو إليها وفق رؤى ونظريات إعمال العقل لتؤكد هذا المعنى.
وهنا نكرر السؤال، ألم يقرأ أهل الكسل العقلي في كتب تاريخ البشر أن تعثر الخطوات في دنيا السعي إلى كسب مساحات جديدة مبشرة بحال أفضل سيؤدي بهم إلى حالة تراجع الأحلام المحفزة لتحقيق طفرات وإنجازات نحو التقدم ومن ثم يزداد التخلف وتنتشر جراثيمه وميكروباته في أوصال أوطانهم.
وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن الإرهاصات الأولية التي تحققت لتفعيل استضاءات التنوير في مصر وبعض المناطق العربية في القرن التاسع عشر لم تنم كتيارات ومسارات للأمام، وعليه تراجعت العقلانية والحداثة اللتان ارتبطتا بتلك الإرهاصات أمام زحف التخلف الفكري والجمود المتعصب ولم تقدر إرهاصات التنوير على مقاومة القوى صاحبة المصلحة في إطفاء نور العقل على عكس ما تحقق في عصر التنوير الأوروبي.
نعم فحالة الذهاب إلى إعمال العقل لدينا كانت "بعافية شوية أو قل شويتين"، بينما استطاع الفرنجة العبور إلى مجتمعات التقدم عبر الاستفادة بثورة الاتصالات واتساع فضاءات دنيا المعرفة والإبداع.
معلوم لن يتم تحقيق أي تقدم لمجتمع ما في هذا العصر إلا حين يشرق نور العقل في سماواته وآفاق تطلعات بنيه.
وفي هذا السياق أوافق العالم د. أحمد شوقي، في دعوته إلى السعي لإنجاز خطاب تنويرى جديد يبعث الحيوية والحداثة فى ثقافتنا التقليدية كلها، وليس فى مكونها الدينى فقط، الذى ندعو إلى تجديده منذ أمد بعيد دون نتائج محسوسة ودون إغضاب المعنيين بقضية التنوير بصدق وإخلاص.
علينا أن نراجع معًا أسباب القصور فى تنوير المجتمع، والاعتراف بالحاجة إلى تغيير جذرى لمحتوى خطابنا التنويرى وأساليب تقديمه، والسعى إلى توفير البيئة الثقافية والفكرية السامحة باستيعابه وتبنيه، إنه نقد ذاتى تستدعى الأمانة طرحه بصورة مباشرة، توضح المشكلة وتسعى إلى الحل.
وعليه أرى أن على من يرومون الذهاب إلى خطاب تنويري متفاعل وواقعي أن يسعوا إلى بناء منظومة أخلاقية منفتحة تقوم على قيم الحرية والعقلانية والمساواة بين الناس على اختلافهم فى أشياء كثيرة وبلورة رؤية تثق أكثر بالإنسان ولا ترضخ للتصورات والعطاءات الفقهية الجامدة والمغلقة والتأويلات القانطة والمزعزعة حيال الإنسان وتعترف بوجود أطروحات أخلاقية غير دينية تنبع من الموروث الإنساني التقليدي وما حفلت به صفحات الحضارة الإنسانية والبناء على ما جاء في مختلف الفلسفات والتأملات والآداب والفنون.