"عم محمود " بقلم إبراهيم الديب

"عم محمود " بقلم إبراهيم الديب
"عم محمود " بقلم إبراهيم الديب
كان دائم التواجد  في المقهى في الفترة الأخيرة، فكلما ذهبت لأتناول القهوة, شاهدته يجلس في نفس المكان . لا أعرف إن كان يجتر عمرا طويلا من الألم أو يحاول الهروب من الذكريات التي تستولي عليه أكثر من ثمانين عاما  تقريبا هي  عمر عم محمود .
لا يتحدث مع رواد المكان إلا قليلا, وإن كان يتمنى ذلك أو بمعني أصح ، لا تعطيه المجموعة التي يجلس بجوارها على غير رغبة منهم ، فرصة للحديث والحوار معها استخفافا به . يتضح ذلك أكثر من طريقة جلوسه على طرف الجلسة ، بينه وبينهم مسافة تدل على الاغتراب الروحي . كان يتمنى أن  يوجه أحدهم حديثه إليه أو  يدعوه للتعليق على قفشة سخيفة من التي تطلق بكثرة في مجلسهم ,ولكن لم يطلب منه أحد ذلك ، فهم يعتبرونه ضيفا ثقيلا لأنهم لا يشبهونه. سطحية وضحالة فكرية  وتفاهة إذا حاول أن يشاركهم مضطرا أحاديثهم  البذيئة ، ومزاحهم السخيف الممل، فلا يصغي إليه أحد على الإطلاق فكانوا يغتالون وجوده بتجاهلهم المستمر له ..
هناك سر دفين في حياة الرجل يجعله يحتمل و يبتلع إهانتهم له وعدم توقيره  واحترامه بالقدر الكافي، وهو فى هذه المرحلة المتقدمة من العمر  . أستمر على هذا الروتين اليومي  فترة طويلة، لم تتحسن العلاقة فيما بينهم لا هم قبلوه ليصبح فرداً من المجموعة، وهو أيضاً لم يفارقهم ولم يستطع في نفس الوقت الاندماج معهم ؛ كانت نظراته تقول  وتعبر عن ذلك وأكثر  . هي علاقة جوار في مساحة من الأرض دون ملامسة مشاعر أو أحاسيس أو تماهي النفوس .
لعل رغبة الرجل في الجلوس معهم ، أنهم دائما متواجدين في المقهى فغالبيتهم عاطل لا عمل له ويقتل وقته في لعب  الديمنو والجلوس في المقهى . منهم لا عمل له إلا الجلوس بالمقهى .فيجلس  معهم  لكسر الملل وقتل الوقت ،هروبا من الوحدة وللشعور بالتواصل مع الآخرين . إذا نظرت في وجهه وتفرست فيه جيدا لن تخطئ نظرتك أنه قد قست عليه  الدنيا كثيرا حتي حولته إلي ذلك الكائن الأقرب للشبح  المهدم المتصدع إلا من بعض الصبر، عل الله يغفر له بسببه يوم يلقاه. كنت أتعجب وأتساءل .. ألا يمل هذا الرجل الوجود الطويل الممل في المقهى مع هذه الكائنات التي لا تشبهه لماذا بغض الطرف عن الاستخفاف به؟ 
كنت أشفق عليه ،  أتبادل معه بعض أطراف الحديث، وحكايات من باب الشفقة ،وأقول في نفسي : ما عسى أن يجمعني به من أمور واهتمامات فى الحياة وما هي الأرض المشتركة التي نقف فوقها وتجمعنا سويا ؟ فكل ما أنا مقبل عليه وأنا في تلك السن الصغيرة من العمر ، لا يمثل للرجل أية أهمية على الإطلاق ... أعتقد بأنه لا شيء بيننا مشترك غير غموضه وحزنه غير المبرر في وجهة . نظري إليه ، ومحاولتي الوقوف على سر الرجل شفقة عليه.
 ذكر لي يوما ،  وأنا أتناول القهوة ، أنه كان يعرف والدي ويعرف إسمي أيضا وهذا لم أكن أتوقعه وما فهمته أنه يطلب منى أن أتبادل الحديث معه  وفى عينيه نظرة رجاء ألا أخذله أو أسخر منه كما تفعل معه المجموعة التي يجلس معها  ،وقد حدث ذلك  في عدة مرات. 
 تبدل حال الرجل بعض الشيء بعدها شعر بذاته . شاهدت شخصا آخر كان يسكن  بداخله مخبأ ،  استدعى من أعماقه وأغوار نفسه ما كان يحمله من الماضي ، من كل ما هو جميل من ذكريات . أصبح أكثر قدرة على لملمة روحه ونفسه بعد  بعثرتها وتشظيها و بعد أن سحقها الوجود لسبب ما زلت أجهله .  أصبح مقبلا علي الحياة بدهشة البدايات الأولى للأشياء ومتعتها, وكثافتها الجمالية .  أصبح يشعر أن له بعض الأهمية فهناك من يبدأ ويرغب فى الحديث معه ؛ حديث منه أشرق وجهه،  من الأمل يتسلل لعينيه بريق يحمل فرحة الأطفال ، كان يحاول أن يطيل الأحاديث معي, ولكني كنت على عجل, وكانت أيضا  خبرتي وتجربتي في الحياة قليله، فأنا في العشرين من عمري لم أكن أعرف أنه يريد قتل الوقت بإطالة الحديث وأنه يريد أن يشعر أنه ما زال على قيد الحياه, ويريد العودة لها فالرجل كان شبه ميت .  كنت أخذله كثيرا أنا أيضا في بعض المرات مثل المجموعة السطحية التافهة التي كان بجوارها وعلى أطرافها على استحياء وبعض الخوف منهم ..
توفي عم محمود فجأة . و نحن في طريق العودة من جنازته كان يسير معي أحد جيرانه،  ثم تبادلنا الحديث عن: المتوفي  فقال لي الجار متطوعا دون أن أطلب منه، وكأنه كان على علم بشغف نفسي معرفة سر الرجل  ، أن زوجة ابنه قد ظلمته كثيرا ، لأنها كانت تعامله بقسوة وتجبره على الخروج من المنزل كل يوم  في وقت مبكر وكانت تشترط عليه أن لا يعود إلا فى المساء متأخرا ، بعد أن توفت زوجته حزنا على ابنهما الوحيد  إثر حادث أليم  . تحطم الرجل بعدها ، لم يجد مأوى يلجأ إليه إلا بيت أولاد ابنه الصغار, وزوجته التي تحرمه الجلوس معهم إلا قليلا من الوقت القصير. كان صبر عم محمود على زوجة ابنه لأجل النظر في وجوه أولاد إبنه الصغار، فهم يشبهون ابنه كثيراً، فكان يديم النظر إليهم طويلا، لأنه كان يري في وجوههم إبنه الوحيد.