حمادة عبد الونيس يكتب : الكلب الذي عض صاحبه ......!!

حمادة عبد الونيس يكتب : الكلب الذي عض صاحبه ......!!
حمادة عبد الونيس يكتب : الكلب الذي عض صاحبه ......!!
 
في نجع الجبلاوي يعيش الأهالي أسرة واحدة يشارك بعضهم بعضا في الأفراح والأتراح يقتسمون الخبز والملح بل يلبسون ثياب بعضهم وأحذيتهم في المناسبات المختلفة ،تتجاور بيوتهم مفتوحة الأبواب تسكنها الألفة والرحمة والمودة لا يخشون إلا الله وطوارق الليل على أنعامهم !
الجامع الكبير يجمعهم يوم الجمعة فيتصافحون ويتعانقون طويلا سائلين عن أخبار الأهل والأولاد !
حتى نساؤهم يتحدن من أجل إنجاز الأعمال الجماعية التي تحتاجها البيوت من خبيز وغسيل وتنقية الحبوب من التراب والغبار !
لا يخلو بيت من رزق الله فمن زرع زرعا يتفقد جاره فيعطيه حتى لا يحرم أولاده من هذا الزرع !
تتبادل النسوة الزيارة في المساء حاملات الخيرات على رؤوسهن من لبن وقشدة وسمن ومرتة وبعض الطيور ليكون الفقير أكثر حظا من غيره فبيته طوال العام عامر بالفول والغلة والذره والجبن القريش والجبن القديم والأرز الشعير !
حتي إذا أنتجت بقرة أو جاموسة أحدهم شارك جيرانه الفرحة بإعطائهم نصيبهم من اللبن السرسوب "المسمار"الذي يخلط بلبن آخر فيطبخ في أبرمة فخارية فيكون شهيا مفيدا يحبه الكبار والصغار !
كان النجع كله مكونا من خمس عائلات كبرى يتفرع منها بعض الأسر الصغيرة يسود الجميع حب واحترام متبادل إلا ما كان من أسرة أبي شعر فإن شأنها مع أهل النجع منذ نزوحها من حارة اليهود عجب عجاب !!
كان أبو شعر جدهم الأكبر رجلا شديد الدهاء قليل الكلام لئيما يظهر للناس  نقيض ما يبطن لهم !!
لم يشارك الناس يوما في فرح أو ترح إلا مرات قلال ثم إذا ما عاتبه أحد تعلل بأنه وحيد وأبناؤه صغار ولا وقت لديه للمجاملات ثم يتخلص من الحرج بابتسامة صفراء لا يلبث بعدها إلا وقد ابتلعه الطريق قاصدا وجهته التي لا يعرفها إنس ولا جن حتى العفاريت الزرق لم تكن تعرف له سرا ولا شأنا !
كل ليلة يعمد الفلاحون إلى دكان الحاج بيومي يشربون الدخان يلفونه في ورق أبيض ويجلسون أمام التلفاز يسمعون بعض الأفلام القديمة والمسلسلات مثل الوسية وعائلة شلش وفيلم عنتر بن شداد أما الشيوخ الكبار فكانوا عاشقين السيرة الهلالية التي يرويها عم جابر أبو حسين ويعلق على أحداثها عبد الرحمن الأبنودي فتنزل حلقاتها على قلوبهم بردا وسلاما لما فيها من بطولات وقيم ونصرة وقوة وفتوة وهذا ما يعجب العربي الأبي الحر !
كان أبو شعر يدخن لكن لم يكن شرها ولم يكن مبذرا فقد كان يكتفي في اليوم  الليلة بخمس سجائر ولا يأكل إلا في بيته ولا يشرب مشروبا باردا مثلما يفعل الآخرون !
كان حريصا على المليم لا يضعه إلا في موضعه وكان شديد التشاؤم يرى أن عيون الناس رصاص فتاك !!
استطاع أبو شعر أن ينال احترام أهل النجع جميعا لأن لسانه كان ينقط عسلا كما يقول المثل ولم يكن غلاطا ولا متهورا!
كبر أبناؤه الثلاثة فاستطاع تزويجهم من بنات الأعيان ليقوي شوكتهم ويجعل لهم ظهرا فلا ينال أحد منهم ولا يتعدى إنسان عليهم !!
نشأ أبناؤه صورة طبق الأصل يقتفون أثره حتى كلماته يرددونها كأنها أذكار محفوظة أو أوراد مباركة !
ساعدهم أهل النجع في جميع شئون حياتهم،يقدمون لهم ما يحتاحون إليه ،يزرعون لهم أرضهم ويحملون لهم محصولهم حتى خزين العام كان الرجال يحملونه على أكتافهم فيدخلونه حجرة الخزين مقابل ملاليم أو قروش معدودة !
قبل موته بأيام  اجتمع" أبو شعر" بأولاده الثلاثة عبد المهيمن وجابر وبدوي وتحدث إليهم حديث مودع شرق في كلامه وغرب ولم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أوقفهم عليها !
كان من جملة حديثه إليهم :
الناس "كناس "عاملوهم على قدر حاجتكم إليهم ،لا تفشوا سركم لأحد ولا تختلفوا فيظهر عواركم للناس فتسقطون من نظرهم فيأخذون بعض الذي في أيديكم !
قابلوهم بابتسام لا يكلفكم شيئا !
جنيه واحد معكم خير من بلد كاملة!
العداء يكسر ظهر الرجال ويشتت شملهم !
كان من جملة ما أوصاهم به أن لا يسمح أخ لزوجته أن تذكر أخاه بسوء فالنساء إن ينفردن بالرجال يدمرن البيوت !
مات أبو شعر وترك ذرية كثيرة العدد بلغ أحفاده من البنين والبنات ثلاثين نفسا !
جيناته تسري فيهم سريان الدماء في شرايينها،تعلموا جميعا بينما ظل أهل النجع حريصين على خدمتهم ومساعدتهم يظنون أنهم طيبون كرام يحفظون الجميل !
ساح أحفاد أبي شعر في البلاد وغادروا النجع فلا يذكرونه إلا ساخرين من أهله لاعنين الأيام التي عاشوها وسط الرعاع الهمج !
منهم من سكن مدينة الثعالب الجديدة ومنهم من استثمر أمواله في مشاريع عملاقة داخل مدينة زايد ومنهم من رحل عن الوطن فأقام في باريس يلتقط كل يوم صوره داخل سيارته "المورجيني "مرتديا تيشرته الإسباني مخرجا رجله من باب سيارته ليظهر حذاؤه الكلاركس " مشيرا بعلامتي النصر مدونا على تويتر "تعلمت الأخلاق والسماحة من الأوربيين؛أما المسلمون فهم أهل رجعية وتخلف يحشرون أنوفهم في حياة الآخرين ؛تبا لهم وتعسا!
استشاط النشطاء المثقفون من أبناء النجع الأبرار غضبا فقد تغيرت الحياة داخل النجع وعلم الناس أبناءهم وبناتهم وأدخلوهم أرقى المعاهد والكليات وكان حب الدين يسرى في أوصالهم ويخالط سويداء قلوبهم كلما حارب الخفاش النور اشتد وامتد وكثر أشياعه وزاد أتباعه ؛أخذ الأبناء يردون على هذا المهندس الذي انسلخ من قومه وتكبر عليهم ونسي أفضالهم على آبائه وأجداده!
كتب إليه أحدهم :
إلى الكائن اللزج السمج الذي فعل فعلة الأعمى سيء الخلق دميم الخلقة :أبعد أن من الله عليك وأغدق ألقيت بعكازك في التنور لاعنا أيامها ؟!
ما رأينا كلبا عض أمه وتعلمنا أن الذئب لا يقرب أمه ويقوم على خدمتها حتى تموت !
ما أشد هوانك على مولاك الذي تخلى عنك من بعد ما تولاك ،تفرح بأموال وسيارات ركبتها تملقا ورياء وتسب قومك الذين حملوك على الأعناق ورفعوك وآباءك الأولين مكانا عليا !
ما هكذا يفعل الأسوياء العقلاء !
شجرة فيها فرع مائل يسد الطريق قطعناه غير آسفين عليه تربتنا طيبة ،غراسنا مثمر ،جذورونا ممتدة ،أشجارنا تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لا مبدل لكلمات الله !
الريح الحمراء تلتهم الاخضر واليابس ،يتهاوى برج إيفل متصدعا ،تطارد العصابات المسلحة كل عربي مقيم في بلاد البغاء !!
السحر ينقلب على الساحر ،تضيق الأرض بما رحبت على الذين ولوا وجوههم شطر بني الأحمر !
أرض النور يغسلها المطر ،يحول الغيث روابيها حدائق ذات بهجة،ينثر الفلاحون الحبوب على قمم الجبال تصبح مخضرة يزيد النماء ،يكثر الخير يقسم المكافحون أن هذا رزق الله وعطاؤه ماله من نفاد!
في شركته العملاقة داخل روما يحاصر المهندس كوهين واسمه عبد الرزاق محمد عبد الفتاح  أبو شعر فلا يستطيع الخروج منها ولا يستطيع تحويل أية مبالغ مالية إلى بلده الأم !
ينهش الخوف قلبه يصاب باكتئاب حاد يجلس إلى جوار خزينة الأموال يدوسها بقدميه ؛ما أغنت عني أموالي، ما نفعتني علاقاتي ولا شركاتي،اليوم أموت غريبا شريدا لا يبكي علي أحد !
الآن أموت وأنا مقر ومعترف بأن تراب الوطن أغلى من جبال الأرض ذهبا !
الآن أموت وفي رقبتي ديون لا أستطيع سدادها لقومي الذين ربوني صغيرا وقد نبحتهم نبح الكلاب وأنا كبير متبرئا منهم والحق أن نعل أصغر طفل فيهم أفضل مني !
الآن ليتنى أعود مرتميا في حضن وطني ؛ليتني ،ليتني وهل تنفعني ليت ؟!
سبق السيف العذل .