محمد العويسات يكتب : بين الوحشة والإبهام.. قراءة في قصّة قصيرة للكاتبة المصريّة هدى حجاجي، بعنوان: شيء ما هنا!

محمد العويسات يكتب : بين الوحشة والإبهام.. قراءة في قصّة قصيرة للكاتبة المصريّة هدى حجاجي، بعنوان: شيء ما هنا!
محمد العويسات يكتب : بين الوحشة والإبهام.. قراءة في قصّة قصيرة  للكاتبة المصريّة هدى حجاجي، بعنوان: شيء ما هنا!
 
أشعر بأنّني في بلدةٍ خاليه تماماً رغم أنّ شوارعها مزدحمة بالبشر، لا أحد يعـلم حقيقه غياب من تُحـب، وأنّ الأماكن موحشة حين يغيب، لا أحد يعلم حقيقة وقتك الذي يكاد يقتلك وحزنك الشديد، لا أحد يعلم من وراء كتاباتك ومن وراء تفكيرك المُفرط!
علّمتك كيف الوقوف، الاختباء، علمتك كيف تَلمَّ شتاتك وتمضي قدماً، علمتك الحياة يا آدم،
كُلّ يوم أُعطيك بها يدي تكسر إحدى أصابعي فأقدّم لك الأخرى، كُنت أعتقد بأنك تحتاج!  لا لم تكُن تحتاج، كُنت تتعمد كسري بيديك! شعرت بالعدميّة من ذاك الأمان، كانت الخيبة.
لا أعلم متى سأنتهي وما نهاية الطريق في هذه السماء المُمطرة، لكن أعلم أنك في أحد أحياء المدينة، أقسم يميناً أني لمحتُك في كلّ الوجوه، وأقسم أنّ هطول المطر ورائحته تُشبهك حين ترتدي المعطف الأصفر .
 
-----------------------
هدى حجاجي أحمد
 
بين الوحشة والإبهام..
قراءة في قصّة قصيرة  للكاتبة المصريّة هدى حجاجي، بعنوان: شيء ما هنا!
 
قصّة قصيرة، تأتي في بعد كنائيّ غير منغلق، بل قابل للتأويل، وملء الفجوات أو ما بين السطور بما يشاؤه الكاتب دون زيادة أو نقصان، معتمدا خياله وإسقاطه النفسيّ، وهذه نسمّيها فنّ الانتقال، وهي من السّهل الممتنع في إبداع الكاتب، وفهم القارئ. والنّاقد قارئ ومتذوّق أوّلا، يخرج بانطباع أو بمحاكمة النّصّ على قواعد معيّنة. والنّصّ الذي أمامنا يحتاج من القارئ أن يقرأه أكثر من مرّة، ليتأمّله، ويقع على فكرة كلّيّة متجزّئة أو مختزلة في فنّيّة الانتقال، فهناك سلك نفسيّ تنتظم فيه هذه العبارات المتباعدة  للوهلة الأولى، ولن تجانب الصّواب لو قلت أنّ هذا السّلك أو الفكرة الرئيسة هي الفقد لشيء في متناول اليد، تمدّ يدك لتتناوله ولكنّك لا تستطيع الإمساك به، يفلت منك، تشعر أنّك أضعته،  إذن هو الفقد المشاعريّ في الحياة، الفقد أو الفراق الذي  يبعث في النّفس الوحشة رغم أنّ المكان يعجّ بالنّاس، هذا الشيء قد يكون شخصا تحبّه، بنيت عليه أملا، مددت يدك له فأفلت منك، لا تدري لماذا، لذا جاء العنوان مغرقا في الإبهام ( شيء ما هناك) وما هي المبهمة، تقدّر في اللغة بلفظ مبهم أو مجهول ، فيورثك خيبة ووحشة، فتشعر أنّ المكان الذي أنت فيه ويغصّ بالنّاس خالٍ موحش، فالأنس ليس بكثرة النّاس، بل الأنس حالة نفسيّة قلبيّة... وتأخذ القصّة بعد الرّسالة، فالقاصّة تؤكّد لهذا المفقود أنّه موجود، موجود في المكان، وموجود في نفسها وقلبها، تقسم أنّها لمحته في كلّ الوجوه وأنّ رائحة المطر تشبه رائحة معطفه الأصفر.  إذن هي حالة وجدانيّة صعبة، تبحث عنه، وتملي عليها نفسها أن يكون له شبيهٌ في النّاس، بل المطر يحمل رائحته... إذن هي لم تتخلّ عنه نفسيّا، وباتت في حالة اضطراب لا تدري ما النهايّة، لا تعرف إلى أين هي ذاهبة.  ولا بدّ أن يقف القائ عند بعض العبارات التي تشكّل صلب النّصّ، تقارب البوح وتبتعد عنه في آن واحد، ماذا قصدت بقولها:  " كُلّ يوم أُعطيك بها يدي تكسر إحدى أصابعي فأقدّم لك الأخرى"؟ لك أن تتصوّر أنّها رأته في حالة ضعف يحتاج يدها، ولكنّه يكسر في كلّ مرّة إحدى أصابع يدها، فقرّرت أنّه غير محتاج، 
هنا معنى الاستغناء أو التظاهر بالاستغناء، التخلّي وطلب الابتعاد، أو أنّه لا يجيد التواصل،  والأمران مؤلمان مؤدّيان للخيبة، وأرى أنّ هذه العبارة قد اختزلت معاني كثيرة متروكة للقارئ يستجليها. أمّا العبارة الثانية فهي: " وأقسم أنّ هطول المطر ورائحته تُشبهك حين ترتدي المعطف الأصفر ."، فالمطر هنا جاء في المعنيين الإيجابيّ والسّلبيّ، فهطوله ورائحته تشبه هذا المفقود أو المختفي بقصد، فقد يكون الهطول والرّائحة جميلين، وقد يكونان قبيحين. وقد يأخذ اللون الأصفر بعد الذّبول والانتهاء والفراق، وقد يأخذ بعد الصفاء والسّرور. والسّياق هو من يفصل في الأمر. 
وبقي العنوان ملازما للنّصّ، شيء مبهم هناك، لا ندري ما هو، لماذا اختفى وابتعد؟ لماذا كسّر أصابعها؟ لماذا ظنّته محتاجا؟ لماذا تلازمها صورته في وجوه النّاس ورائحته في المطر؟ 
بقيت القصّة مفتّحة الأبواب. وتجري من خلالها أنفاس الخيبة، وتسكنها الوحشة، لأنّه لا أحد يعلم بحالك رغم كثرة من يعيشون معك... وأرى أنّ استخدام الفعل المضارع يعكس حالة نفسيّة متفاعلة بقوة، وما زالت نازفة. وأرى أنّ الرّاوي أو القاصّ عبّر عن نفس ضعيفة تحتاج من أحبّت أو ظنّته أنيسا، ولم تظهر قوّة ولا حسما للأمر.